عبد الكريم باته باري

عبد الكريم باته باري (مالكي / غانا)

ولد عام ١٣٨٦ه (١٩٦٦م) بمدينة (تاجيما) في غانا، في أسرة مالكيّة تيجانيّة، ودرس في المدارس الأكاديميّة حتّى أكمل الدبلوم، ثمّ تأثّر بالفكر الوهّابي. اعتنق مذهب الشيعة الإماميّة عام ١٩٨٦م، ودرس في الحوزة العلميّة حتّى أكمل السطوح.

التعرّف على الشيعة:

في أحد الأيام التقى «عبد الكريم» ببعض الشيعة في بلده غانا، ورأى أنّ وضوئهم وصلاتهم تختلف عمّا هو المتعارف عنده، فسألهم عن سبب اختلافهم، فشرحوا له أسباب الاختلاف، واستدلّوا له على معتقدهم بالكتاب والسنّة.

الوضوء:

فالوضوء عبارة: عن إيقاع أفعال في أعضاء مخصوصة من البدن على وجه مخصوص يستباح به الدخول في الصلاة(1).

وأمّا كيفيّته: النيّة، وغسل الوجه مرّة واحدة، وغسل كلّ واحدة من اليدين، ومسح الرأس، ومسح كلّ واحدة من الرجلين كذلك.

فالنّية مقارنة لحال الوضوء.

والابتداء في غسل الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولاً، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً.

وغسل اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع.

ومسح مقدّم الرأس ببلّة ا لوضوء.

ومسح الرجلين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ببلّته أيضاً.

والترتيب على ما رتّبه اللّه‏ تعالى.

والموالاة: وهي أن يوالي بين غسل الأعضاء، ولا يؤخّر بعضها عن بعض بمقدار ما يجفّ ما تقدّم(2).

تاريخ الوضوء:

من الواضح أنّ المسلمين كانوا يتوضّؤون كما كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يتوضّأ بكيفيّة واحدة، ولم يقع بينهم أي اختلاف يذكر، وأنّه لو وجد أي اختلاف لوصل إلينا ما يشير إليه، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأخبار ؛ إذ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان بين ظهرانيهم، وهو بصدد التعليم والإرشاد لأمّته الحديثة العهد بالإسلام، فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه، حيث أمر اللّه‏ سبحانه وتعالى الناس بالرجوع إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في صورة حدوث نزاع في شيء: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيٍْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(3).

هذا، مضافاً إلى مشاهدتهم لفعله صلى الله عليه و آله و سلم الذي هو السنّة والرافع لكلّ لبس وإبهام قد يخالطان البعض. بل أنّ الخلاف في كثير من الأمور بين الأُمّة إنّما هو وليد العصور المتاخّرة التي جاءت بعد عهده الشريف(4).

فإنّ التاريخ لم ينقل لنا خلافاً بين المسلمين في الوضوء في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وأنّه لو كان لبان، بل التحقيق عدمه ؛ إذ أنّ حكم الوضوء لم يكن كغيره من الأحكام الشرعيّة ممّا يمكن تجاهلها أو التغاضي عن فهم حكمها، لعدم الابتلاء بها كثيراً، وعدم تلك الأهميّة الموجودة في مثل الوضوء ؛ إذ أنّ الوضوء فعل يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم الواحد، وتتوقّف عليه أهم الأمور العباديّة، وأنّ

الاختلاف في أمر كهذا مثير للدهشة والاستغراب، وتزداد الغرابة إذا ما تصوّرنا وقوعه مع عدم وجود دليل أو نصّ روائي شرعي يدلّ عليه(5).

مَن هو البادئ بالخلاف في الوضوء؟

على ما يبدو أنّ عثمان بن عفّان كان الوحيد من بين الخلفاء الثلاث الأوائل قد حكى صفة وضوء رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم .

١ – أخرج مسلم بسنده عن ابن شهاب: إنّ عطاء بن يزيد الليثي أخبره أنّ حمران مولى عثمان أخبره، أنّ عثمان بن عفان: دعا بوضوء – فتوضّأ – فغسل كفّيه ثلاث مرّات، ثمّ مضمض واستنثر، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاث مرّات، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات، ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك، ثمّ قال: رأيت رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم توضّأ نحو وضوئي هذا(6).

٢ – وأخرج المتّقي الهندي، عن أبي مالك الدمشقي، قول: حُدّثتُ أنّ عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء، أذن للناس فدخلوا عليه…(7).

٣ – وأخرج مسلم في صحيحه بسنده، عن حمران مولى عثمان، قال: أتيت عثمان بن عفان بوضوء، فتوضّأ ثمّ قال: إن ناساً يتحدّثون عن رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم بأحاديث، لا أدري ما هي! إلاّ إنّي رأيت رسول اللّه‏ توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قال: من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه(8).

هذه النصوص توقّفنا على أمور:

أوّلاً: هذه النصوص تنبئ على حدوث الخلاف في الوضوء في عهد عثمان، واختلاف المسلمين في الوضوء وانشقاقهم إلى خطّين: وضوء عثمان، ووضوء الناس من المسلمين.

وكلّ واحد منهما يكتسب مشروعيّة عمله بانتساب فعله إلى رسول اللّه‏، فهؤلاء الناس كما قال الخليفة يتحدّثون عن رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم لقوله: «إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول اللّه‏ بأحاديث»، أمّا الخليفة فنراه يقول: «إلاّ إنّي رأيت رسول اللّه‏ توضّأ مثل وضوئي هذا»!!

ثانياً: إنّ الخلاف في الوضوء قد حدث في عهد الخليفة عثمان، لقول أبي مالك: «حُدّثتُ أنّ عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء»، وأنّ ذلك يتضمّن الإشارة إلى عدم وجود الاختلاف قبل عهده.

ثالثاً: إنّ عبارة الخليفة: «إنّ ناسا يتحدّثون» تؤكّد مشروعيّة فعل هؤلاء الناس باعتباره مروياً عن رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم ، ولم يكذب الخليفة روايتهم لصفة وضوء رسول اللّه‏، وبذلك يكون وضوؤهم هو وضوء رسول اللّه‏، حيث لا يعقل أن يتحدّثوا بشيء ولا يفعلونه، وخصوصاً أنّهم في خلاف مع خليفة المسلمين فيه. أمّا (الناس) فكانوا لا يقبلون بوضوء الخليفة، ولا يعتبرون ذلك هو وضوء رسول اللّه‏!!

رابعاً: إنّ جملة: «إنّ ناساً»، أو «لا أدري ما هي؟» ظاهرة في استنقاص الخليفة لـ(الناس) وأنّهم صحابة مجهولون.

فهل حقّاً كانوا كذلك؟ أم أنّ الخليفة قال بمثل هذا لمعارضتهم إياه وأنّ طبيعة المعارضة تستوجب الاستنقاص(9)؟!

مسح الأرجل مكان غسلها:

إنّ الآية الدالّة على وجوب الوضوء وكيفيّته هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ(10).

أمّا بالنسبة إلى المسح على الأرجل فإنّ المذهب الإمامي يقول: بوجوب المسح لا الغسل ؛ لأنّ ظاهر الآية تبيّن أنّ هناك وظيفتين في الوضوء إحداهما «الغسل»، والأخرى «المسح».

والغسل يكون للوجه واليدين لظاهر قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وأمّا المسح يكون للرأس وللرجلين أيضاً لظاهر قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ.

بخلاف المذهب السنّي حيث ذهب إلى لزوم غسل الأرجل، وذلك بعطف: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ على قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ. ويمكن مناقشة ذلك:

أوّلاً: فلو أننا عرضنا هاتين الآيتين على أي عربي أصيل، وهو غير عارف بمذهب فقهي خاص، ولا مطّلع على موقف اجتهادي معيّن، وطلبنا منه أن يبيّن لنا المراد من هاتين الآيتين، وأن يوضحّ ما فهمه منهما، لقال من دون توقّف: إنّ هاتين الآيتين تبيّنان وظيفتين وعملين للمكّلف، أحدهما: الغسل للوجه واليدين، والآخر: المسح للرأس والرجلين.

ثانياً: من حيث القواعد العربيّة، لابدّ من أنّ لفظة «وَأَرْجُلَكُمْ» أن تكون معطوفة على كلمة «بِرُؤُوسِكُمْ» فتكون النتيجة هي مسح الأرجل. ولا يصحّ عطفها على الجملة السابقة عليها، وهي قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ… وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ، فتكون نتيجة ذلك غسل الأرجل ؛ لأنّ العطف على «وَأَيْدِيَكُمْ»، يستلزم الفصل بين المعطوف، وهو «وَأَرْجُلَكُمْ»، والمعطوف عليه، وهو «وَأَيْدِيَكُمْ» بجملة معترضة، وهي قوله تعالى: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ» وهذا غير صحيح من حيث القواعد النحويّة، ويوجب الالتباس في المقصود.

ثالثاً: مضافاً إلى ما تقدّم هناك روايات عن أهل البيت عليهم‏السلام، كثيرة تحكي عن كيفيّة الوضوء، بل أنّ هناك أخباراً في نفس مصادر أهل السنّة تحكي الوضوء خلاف ما روي عن عثمان بن عفان.

فقد روى زرارة عن أبي جعفر عن علي عليه‏السلام قال: قال: «ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم »؟

فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى، ثمّ قال: «هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة»، ثمّ غرف ملأها ماء، فوضعها على جبهته، ثمّ قال: «بسم اللّه‏»، وسدله على أطراف لحيته، ثمّ أمرّ يده على وجهه وظاهر جبهته مرّة واحدة، ثمّ غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه، ثمّ غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى فأمر كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه، ومسح مقدّم رأسه، وظهر قدميه، ببلّة يساره، وبقيّة بلّة يمناه.

قال: وقال أبو جعفر عليه‏السلام: «إنّ اللّه‏ وتر، يحبّ الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى»(11).

وقد روى الحميدي باسناده عن ابن عبد خير عن أبيه قال: رأيت علي بن أبيطالب يمسح ظهور قدميه، ويقول: «لولا إنّي رأيت رسول اللّه‏ صلى الله عليه و آله و سلم مسح على ظهورهما لظننت أن بطونهما أحقّ»(12).

وعن عبد الرحمن بن مالك، عن يزيد بن أبي زيادة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: رأيت عليّاً رضي اللّه‏ عنه توضّأ فمسح رأسه، ثمّ مسح قدميه. وقال: «هكذا رأيت النبيّ توضّأ»(13).

فالشيعة الإماميّة تقول بأنّ لفظ الأرجل معطوف على الرؤوس سواء قرئ بالجرّ، فيكون معطوفاً على لفظ ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ، أو بالنصب فيكون معطوفاً على المحل ؛ لأنّ الرؤوس مفعول ومحله النصب، فكلتا القراءتين مطابقتين للقواعد العربية، وعليه يجب المسح على كلتا القراءتين.

وأمّا السنّة القائلون بالغسل فقد وقعوا في ورطة عجيبة في تفسير القراءتين حتّى اعترف قسم كبير منهم بأنّ ظاهر الآية هو المسح وذلك: بما أنّهم يقولون بغسل الأرجل فقد مالوا يميناً وشمالاً في تفسير قراءتي الجرّ والنصب فقالوا: على قراءة الجرّ فهو مجرور بالجوار – مكان القول بأنّه معطوف على لفظ الرؤوس – نظير قول الشاعر: «جحر ضب خرب».

فلفظ «خرب» خبر يجب أن يرفع لكنّه صار مجروراً لوقوعه في جوار «ضب» المجرور، وعلى قراءة النصب فهو منصوب ؛ لأنّه معطوف على «وَأَيْدِيَكُمْ» في الجملة المتقدّمة.

والتأمّل في التفسير يثبت بطلان النظرين. أمّا الجرّ: فالتفسير الصحيح أنّه معطوف على الرؤوس، لا الجرّ بالجوار ؛ وذلك أنّ الجرّ بالجوار أمر شاذ في لغة العرب، وربّما تدعو الضرورة إلى هذا النوع من الجرّ، ولا يصحّ لنا تفسير كلام اللّه‏ على ضوء تلك القاعدة الشاذّة. مضافاً إلى أنّ الجرّ بالجوار إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك التباس كما في البيت ؛ إذ من المعلوم أنّ الخرب وصف للجحر لا للضب. بخلاف الآية فإنّ الجرّ بالجوار يوجب الالتباس ؛ إذ القارئ يتصوّر أنّه معطوف واقعاً على الرؤوس، فتكون النتيجة هو المسح عليها مع أنّ الفرض أنّها معطوفة على الأيدي .

وأمّا قراءة النصب: فالإشكال أوضح، فأهل السنّة يذهبون إلى أنّها معطوفة على الأيدي الواردة من الجملة المتقدّمة مكان العطف على الرؤوس التي هي بجنب ﴿وَأَرْجُلَكُمْ.

وهذا شيء لا يرضى به الخبير بأساليب اللغة العربيّة، فمثلاً إذا قال: «أكرمت زيداً وعمراً». ثمّ قال: «ضربت بكراً وخالداً».

فهل يخطر ببال أحد أنّ «خالداً» عطف على «عمراً»، بل الجميع يقولون: إنّه عطف على «بكراً».

وفي الآية فعلان: أحدهما: «اغسلوا» وله مفعولان: الوجوه والأيدي.

والثاني: «فامسحوا» وقد جاء بعده أمران: الرؤوس والأرجل.

أفيصح أن نقول بأنّ الأرجل ليست معطوفة على الرؤوس؟ بل معطوفة على الأيدي مع أنّه وقع بين المعطوف والمعطوف عليه جملة معترضة يغاير فعلها «فامسحوا» مع فعل الجملة الأولى: «اغسلوا».

والعجب أنّك طرقت كلّ باب إلاّ باب القرآن، فما رجعت إليه حتّى تأخذ حكم اللّه‏ من الآية المباركة(14).

المرحلة الحاسمة:

يقول «عبد الكريم» أنّه بعد ما التقى ببعض الشيعة أخذ منهم بعض الكتب الشيعيّة، وطالعها بدّقة، فتأثّر بها.

ثمّ يضيف «عبد الكريم» قائلاً: «بعد ذلك التحقت بالمدرسة الشيعيّة في العاصمة لأتحقّق من المذهب، وأقارنه بنفسي بالمذاهب الأُخرى عن علم ودراية، وقد وجدت أنّ الشيعة يستدلّون بما ورد في صحاحنا وكتبنا، وكذلك وجدت تقارباً ونقاطاً مشتركة بين الشيعة والطريقة التيجانيّة في مقابل الوهّابية التي تحرّم وتضلّل كلّ من يخالفها.

وقد كان لكلام أهل البيت عليهم‏السلام وأدعيتهم كالصحيفة السجاديّة الأثر الأكبر في معرفتهم ومعرفة التشيّع الذي هو الإسلام الواقعي بالنسبة لي».

الدعاء:

فالدعاء يعدّ وسيلة وغاية، للعبد كي يتصل باللّه‏ تعالى، فإنّه يكشف لدى اللّه‏ تعالى كلّ طموحاته وآماله، واحتياجاته. وفي قلب كلّ أحد طريق إلى اللّه‏، وباب يوصله إليه تعالى، حتّى أكثر البشر شقاءً وانحطاطاً وعصياناً، فإنّه في ساعات المحن والشدائد العصبية، حين تضيق بوجهه الدنيا، يلتجيء إلى ا للّه‏، وهذه الحالة من الميول الفطريّة المودعة في كيان الإنسان، ولكن تسترها أحياناً حجب المعاصي

والذنوب، ولكن في المحن والأزمات تنكشف هذه الحجب والستائر قليلاً، ويتحرّك نحو ذلك الميل الفطري.

فالدعاء مخُّ العبادة وجوهرها(15)، ولا يهلك مع الدعاء أحد(16)، ومن لم يدع اللّه‏ غضب اللّه‏ عليه(17)، ولذا جعله القرآن الكريم مرادفاً للعبادة «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(18)، فجعل الدعاء هنا ممثلاً للعبادة ومترجماً لها.

عن معاوية بن عمّار قال: قال: قلت لأبي عبد اللّه‏ الصادق عليه‏ السلام: رجلين افتتحا الصلاة في ساعة واحدة، فتلا هذا القرآن فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا أكثر، فكان دعاؤه أكثر من تلاوته، ثمّ انصرفا في ساعة واحدة، أيّهما أفضل؟

قال: «كلّ فيه فضل، كلّ حسن.

قلت: إنّي قد علمت أنّ كلاً حسن، وأنّ كلاً فيه فضل.

فقال: «الدعاء أفضل، أمّا سمعت قول اللّه‏ عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ هي واللّه‏ لعبادة، هي واللّه‏ أفضل، هي واللّه‏ أفضل أليست هي العبادة؟! هي واللّه‏ العبادة، هي واللّه‏ العبادة، أليست هي أشدهنّ؟! هي واللّه‏ أشدهنّ، هي واللّه‏ أشدهنّ(19).

وهذا هو الذي يفسّر لنا النصوص الواردة عن المعصومين التي تفيد بأنّ أفضل العبادة هو الدعاء ؛ ذلك أنّ غاية العبادة هي التقرّب إلى اللّه‏ تعالى بمعرفة حقّه.

وفي النهاية يقول: «عبد الكريم» ركبت سفينة النجاة وتمسّكت بالثقلين والحمد للّه‏ ربّ العالمين.

____________

1- الاقتصاد: ٢٤٠ – ٢٤١.

2- الوسيلة: ٥٠ بتصرف.

3- النساء ٤: ٥٩.

4- وضوء النبيّ ١: ٣٠ بتصرف.

5- وضوء النبيّ ١: ٣٣ – ٣٦ بتصرف.

6- صحيح مسلم ١: ١٧٣، ح٢٢٦.

7- كنز العمّال ٩: ١٩٤، ح٢٦٨٩٠.

8- صحيح مسلم ١: ١٧٤ – ١٧٥، ح٢٢٩.

9- وضوء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ١: ٤٠ – ٤٢ بتصرّف.

10- المائدة ٥: ٦.

11- وسائل الشيعة ١: ٣٨٧ – ٣٩٠، ح٢ ١٠٢١، وبهذا المضمون روايات أخرى في نفس الباب ح٩ – ١٠٢٨-، و ح٢٤ -١٠٤٣-.

12- مسند الحميدي ١: ٢٦، ح٤٧.

13- لسان الميزان ٣: ٤٢٨.

14- رسائل ومقالات: ٤٠٨ – ٤١٠.

15- وسائل الشيعة ٧: ٢٧، ح٩ ٨٦١٥.

16- كنز العمال ٢: ٣١، ح٣١٥٦.

17- كنز العمال ٢: ٣١، ح٣١٥٧.

18- غافر ٤٠: ٦٠.

19- تهذيب الأحكام ٢: ١٠٤، ح١٦٢ ٣٩٤.