جلال كريم رشيد

جلال كريم رشيد (شافعي / العراق)

ولد عام ١٣٨١هـ (١٩٦٢م) في مدينة أربيل كردستان العراق، ففرضت عليه الأجواء التربويّة التي عاشها الانتماء إلى المذهب الشافعي.

حقيقة يحاول الإنسان الوصول إليها، تعاضدها مبادئ تلقّاها من الأسلاف تستمدّ شرعيّتها من تراث يحاول الهيمنة على أرض الواقع ويفرض تقديس المعطيات التي تمّ فرضها على أتباعه، واقع يعيشه الباحث عن الحقيقة، ومتأثّراً به في كثير من الأحيان.

لم يكن «جلال» من الذين يخضعون للتقليد الأعمى للآباء والأسلاف، بل كان يرى بأنّ على الإنسان البحث والتحقيق حول الأسس التي يركن إليها في معتقداته، وعليه التخلّي عن العصبيّة إزاء التعاليم التي عاش شطراً من عمره على ضوئها، وتبنّي البحث بصورة موضوعيّة بصورة لا تؤثّر العواطف والأحاسيس التي تنشأ عادة نتيجة التأثّر بالأجواء التربويّة التي يعيشها الباحث.

يقول «جلال»: منذ الطفولة كنت كثير التواجد في المساجد، وذلك لأداء الصلاة وغيرها من العبادات، هكذا كان بي الحال حتّى اندلعت الحرب الداخليّة في منطقتنا فهاجرنا نتيجة لذلك إلى ديار أخرى نلتمس فيها الأمان.

مرّت الأيّام على هذا المنوال ونحن نلتمس ملجاً آمناً حتّى شاءت الأقدار الإلهية التعرّف على بعض الشيعة نتيجة الهجرة من بلادنا.

وكان هذا التعرف له السهم الأوفر في معرفة العديد من معتقدات الشيعة، وكان الملفت للنظر عدم انطباق الصورة الذهنيّة ا لتي رسمت لنا عنهم، فقد كنّا نعرفهم بأنّهم فرقة ضالّة تعبد الإمام عليّاً(عليه السلام) وتعبد الأحجار و…

ولم يكن هذا الأمر هو الواقع الذي شاهدته بعيني، فالشيعة لا تعبد الإمام عليّاً(عليه السلام) وإنّما تعتقد بأنّه الخليفة الأوّل للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مستندة إلى أدلّة وردت في كتب أهل السنّة.

وكان الملفت للنظر كثرة الاتّهامات التي يرمى بها أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، والحال أنّهم بعيدون كلّ البعد عن الإشاعات التي تروّج ضدّهم، وكان هذا الأمر هو الدافع للتعرّف على معتقدات هذه الطائفة.

التأثّر بالمجالس الحسينيّة:

تركت واقعة الطفّ أثرها البالغ حتّى بعد مضيّ القرون عليها، وذلك لما تحمله هذه الثورة من مضامين وقيم إنسانيّة جابهت الانحطاط الأخلاقي والتباعد عن القيم الإسلاميّة نتيجة التأثّر بالخطّ الانحرافي الجاهلي الذي استعاد بناءه بعد رحيل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، وظهرت بوادر النفاق في الأُمّة الإسلاميّة، وأظهر القوم ضغائن حملوها في صدورهم طوال فترة الرسالة، وهذا ما يظهر جليّاً في خطبة فاطمة الزهراء سلام الله عليها للأنصار والمهاجرين في بوادر انقلاب القوم على الخطّ الرسالي، وغصب أبي بكر فدك التي وهبها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ابنته في حياته حيث تقول:

«.. فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثمّ ا ستنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم… فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم… وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟! أم بغيره تحكمون؟! بئس للظالين بدلاً، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين…»(1).

هكذا كان حال الأُمّة الإسلاميّة بعد رحيل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) واستمرّ الانحراف والانشقاق في صفوف الأُمّة الإسلاميّة حتّى اندلعت حروب داميّة كان السبب فيها خروج معاوية على إمام زمانه.

ولم يكتف معاوية بهذا الحدّ، فقام بتعيين ولده يزيد خليفة له ممّا جعل الأجواء أكثر تعكّراً، حيث كان يزيد مروجاً للفسق والفجور معروفاً بملاعبة القردة والكلاب وشرب الخمر و…

فقد عرّف المسعودي في «مروج الذهب» يزيد بأنّه:

«صاحب طرب وجوارح وكلاب وقُرُود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربة تروي مشاشي ثمّ مل فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي

ثمّ أمر المغنّين فغنوا به.

وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق.

وفي أيّامه ظهر الغناء بمكّة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قرد يكنّى بأبي قيس يحضر مجلس منادمته، ويطرح له متّكأ، وكان قرداً خبيثاً وكان يحمله على أتان وحشيّة قد ريّضت وذلّلت لذلك بسرج ولجام ويسابق بها الخيل يوم الحلبة…»(2).

يزيد وتنصيبه:

ظهرت بوادر المخالفة في تنصيب يزيد للخلافة من قبل أعوان معاوية ; وذلك للانحطاط الأخلاقي الواضح لدى يزيد ممّا يجعله غير مؤهّل للخلافة فقد ذكر الطبري مخالفة زياد لهذا الأمر عندما استشاره معاوية في تعيين يزيد خلفاً له.

«لمّا أراد معاوية أن يبايع ليزيد كتب إلى زياد يستشيره فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري فقال إنّ لكلّ مستشير ثقة، ولكلّ سرّ مستودع… وقد دعوتك لأمر اتّهمت عليه بطون الصحف، إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنّه قد عزم على بيعة يزيد وهو يتخوّف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. فالق أمير المؤمنين مؤدّياً عنّي فأخبره عن فعلات يزيد…»(3).

«وكتب معاوية إلى زياد، وهو بالبصرة، إنّ المغيرة قد دعا أهل الكوفة إلى البيعة ليزيد بولاية العهد بعدي، وليس المغيرة بأحقّ بابن أخيك منك، فإذا وصل إليك كتابي فادع الناس قبلك إلى مثل ما دعاهم إليه المغيرة، وخذ عليهم البيعة ليزيد، فلمّا بلغ زياداً وقرأ الكتاب دعا برجل من أصحابه يثق بفضله وفهمه، فقال:إنّي أريد أن آتمنك على مالم آتمن عليه بطون الصحائف، أئت معاوية فقل له: يا أمير المؤمنين إنّ كتابك ورد عليّ بكذا، فما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف… فلمّا صار الرسول إلى معاوية وأدّى إليه الرسالة قال: ويلي على ابن عبيد»(4)!

استغاثة الناس بالإمام الحسين(عليه السلام):

عندما بلغ أهل الكوفة موت معاوية واستخلافه يزيد، أرسلوا بكتبهم إلى الإمام الحسين(عليه السلام) يدعونه إلى القيام ضدّ الطاغية يزيد، يشكون إليه عدم وجود إمام لهم، فقد أورد الطبري في أحداث سنة ستين للهجرة:

«عندما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمر وابن الزبير عن البيعة أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا مسير الحسين إلى مكّة، وكتبوا إليه عن نفر منهم، سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر وغيرهم:

بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليك، فإنّنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وإنّه ليس علينا إمام.

فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وسيّروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال. ثمّ كتبوا إليه كتاباً آخر وسيّروه بعد ليلتين فكتب الناس معه نحواً من مائة وخمسين صحيفة…»(5).

وعندما كثرت الرسل على الإمام الحسين(عليه السلام) أجابهم:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتمّ ومقالة جلّكم إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله والسلام»(6).

ولكن يزيد وأعوانه توسّلوا بكلّ الطرق للحول دون وصول الناس إلى الإمام الحسين(عليه السلام)، وذلك بالتهديد والترغيب والإغراء بالمال، فقد قتلوا مسلم بن عقيل رسول الحسين(عليه السلام) وهاني بن عروة، وأشاعوا بأنّ جيشاً من الشام قادم، وسنستقصي كلّ المخالفين و…، فعكّروا الأجواء متوجسين لحوق المسلمين بالإمام الحسين بن علي(عليه السلام).

وكان الإمام الحسين(عليه السلام) قد وصل إلى كربلاء، وأمر يزيد بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) إذا امتنع عن البيعة، ولم يكن الإمام الحسين يبايع مثل يزيد كما قال ذلك في جواب مروان عندما طلب منه البيعة ليزيد في المدينة:

إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا قد بليت الأُمّة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان»(7).

إلاّ أنّ يزيد لم يمنعه شيء في ارتكاب أكبر جريمة في تاريخ الأُمّة الإسلاميّة، فأمر بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) ومن معه حتّى لا يبقى له ذكر، وأمر بسبي نسائه وعياله في الكوفة والشام و…

ولكن المواقف العظيمة التي سجّلها التاريخ للإمام زين العابدين(عليه السلام)وبطلة كربلاء زينب الكبرى أحبطت كلّ مخطط رسمه الطغاة، فعندما وصلت قافلة الأسرى إلى الشام، خطبت زينب الكبرى خطبتها التاريخيّة وفضحت كلّ أعمال يزيد وأعوانه.

سفينة النجاة:

يقول «جلال»: بعد دراستي لجوانب التاريخ تجلّت لي الحقيقة، وظهرت دسائس القوم، وانكشفت لي الأيادي المأجورة التي حاولت قلب الحقائق، فعزمت على ترك موروثي العقائدي وتشييد أسسي العقائديّة من جديد، فالتحقت بسفينة النجاة.

____________

1- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ١٦: ٢٥١.

2- مروج الذهب ٣: ٧٩.

3- تاريخ الطبري ٤: ٢٢٥.

4- تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٢٠.

5- الكامل في التاريخ ٤: ٢٠.

6- تاريخ الطبري ٤: ٢٦٢.

7- اللهوف في قتلى الطفوف: ١٨.