جعفر خوشناور

جعفر خوشناور (شافعي / العراق)

ولد عام ١٣٧٠هـ (١٩٥١) في مدينة «أربيل»، وفرضت عليه الأجواء التي ترعرع فيها الانتماء إلى المذهب الشافعي.

تحريف الحقائق:

محاولة في إخفاء الحقائق على مدى القرون، تهدف إلى عرقلة مسار الباحث عن الحقّ، وتضع أصابع الاتهام متّجهة نحو البريء وتحاول تبرئة المتّهم، واقع عاشته الأُمّة الإسلاميّة منذ رحيل النبيّ إلى الرفيق الأعلى حتّى الآن، ورغم كلّ هذه المحاولات استطاع الكثير ممّن رفض حالة التقوقع والركون إلى راحة التقليد الأعمى للأسلاف والآباء الوصول إلى الحقيقة، حيث خاضوا في أعماق التاريخ بحثاً عن الحقّ، مغامرة يبدو أنّ المحرّفين للوقائع التاريخية قد ألقوا بشباكهم للحول دون وصول الباحث إلى جوهرة الحقيقة.

كان «جعفر خشناور» أحد اللذين حاولوا من خلال البحث والتحقيق في أعماق التاريخ الوصول إلى الحقيقة، تاركاً خلفه تراثاً يرى البعض له قداسة يصعب المساس بها.

يقول «جعفر خشناور»: لم يكن لي اطلاع على الشيعة واعتقاداتهم، حيث لم يُفسح لنا المجال في التحقيق حول هذا المذهب، وذلك للاتهامات التي يرمى بها أصحاب هذا المذهب، أبرزها عبادة الأحجار والمراقد، مضافاً إلى انتسابهم إلى التكفير وترويج العقائد المنحرفة، ويعتبر هذا هو الهاجس الكبير لعدم اطّلاعي على التشيّع.

وشاءت الأقدار الإلهية أن أتعرّف على الشيعة وذلك من خلال تواجدي في إيران، وقد فوجئت عندما تعرّفت على عقائد الشيعة، وقد كنت أسمع عنهم بعبادتهم للأحجار والمراقد الشريفة التي تعتبر رمزاً لهم.

وذات يوم وقع نقاش بيني وبين أحد الشيعة حول زيارة القبور والمراقد، فبادرته بالسؤال حول حقيقة هذا الأمر، ولماذا يقوم الشيعة بعبادة هذه الأماكن، أليس هذا من الشرك؟

فأجابني قائلاً: أخي العزيز ومن قال لك بأنّنا نعبد هذه المراقد؟

فقلت له: هذا ما نسمعه عنكم في بلادنا، أليس الأمر كذلك؟

فقال: أخي الكريم هذه من التهم التي يرمى بها أتباع أهل البيت(عليهم السلام) ولا تمسّ الواقع بصلة، فالشيعة لا تعبد سوى الله ولا تركن إلى غيره، فالشيعة يبتغون إلى الله الوسيلة التي أمرهم الله بها، ألم تقرأ قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(1).

﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(2).

والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) وسيلة للتقرب بهم إلى الله، وقد ذكر القرآن نماذجاً كثيرة من هذا القبيل، فقد ورد في الذكر الحكيم: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا(3).

وأصبح مرقد أصحاب الكهف مزاراً يقصده الناس للزيارة، ولعلّه المثال الأسبق تاريخاً الذي يذكره القرآن الكريم.

وقفت في حيرة من أمري، لا أعلم ماذا أقول لهذا الشيعي، وقد ظهرت بوادر عدم اطّلاعي على البحث، فقلت له: أنا لا أعتمد على كلامك هذا، ولعلّه من مخترعات علمائكم، فلابدّ لي من المطالعة في الموضوع لكي أقف على ملابسات هذا الأمر.

فقال لي: يا أخي إنّي لم أحاول إقناعك بهذه الأمور، ومن الواضح أنّه عليك متابعة البحث والتحقيق حول الشبهات التي تعرض عليك، وأنّ طريق البحث والتحقيق هو السبيل الوحيد لمعرفة الحقائق، ولكن لابدّ من التخلّي عن العصبية وتبنّي البحث بصورة موضوعية حتّى تكون النتائج واضحة لك.

عزمت بعدها على متابعة البحث من أجل الوقوف على حقيقة الأمر، فعكفت على مطالعة الكتب مدّة من الزمن، وكلّما كنت أتابع البحث كانت النتائج غير متوقّعة، ولكن بعد التتبّع الحثيث حول مسألة زيارة القبور والتوسّل انكشف لي الكثير من الحقائق التي ساهمت في تغيير انتمائي الفكري والعقائدي.

زيارة القبور:

تهدف زيارة القبور إلى ضرورة الاقتداء بأصحاب المراقد الشريفة، وذلك لاستدامة المنهج الذي رسمه لهم هؤلاء الرموز، وتجعلهم أقرب إلى العهود التي تعاهدوها مع هؤلاء القادة.

وتتضمّن زيارة القبور على آثار تربويّة وأخلاقية، وذلك لأنّ المشاهد التي تضمّ في طيّاتها الأولياء والصالحين تهيّء الأرضية المناسبة لكي يستمدّ الإنسان القدرة على الاقتداء بهم والسير وفق منهجهم.

زيارة القبور في السنّة:

زيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) للقبور هي الأخرى من نوعها تبيّن مشروعية هذا العمل، فقد أخرج مسلم عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها…»(4).

وفي مجمع الزوائد عن أبي سعيد الخدري عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنّ فيها عبرة»، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح(5).

وعن أنس بن مالك قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن زيارة القبور وعن… قال: ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك: «إنّي كنت نهيتكم عن ثلاث ثمّ بدا لي فيهن: نهيتكم عن زيارة القبور ثمّ بدا لي أنّها ترقّ القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، فزوروها ولا تقولوا: هجراً…»(6).

كما هناك العديد من الروايات الدالّة على الآثار التي تترتّب على زيارة قبرر الأولياء والصالحين منها:

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءني زائراً لا بعمله حاجة إلاّ زيارتي، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة(7).

وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة»(8).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً» أو قال: «شفيعاً»(9).

نقل السبكي أنّ الحافظ أبا عبد الله ابن النجار قال في (الدرة الثمينة): روي عن علي رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من لم يزر قبري فقد جفاني»(10).

الصحابة وزيارة القبور:

يذكر المحبّ الطبري قصّة زيارة عمر لقبر «غريمه» الذي استغاث به وهو يحجّ مع نفر من أصحابه في حديث طويل قال دعا عمر صاحب الماء فقال: هل أحسنت إلى الشيخ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أتاني وهو موعدك فمرض عندي ثلاثاً ومات فدفنته وهذا قبره، فكأنّي أنظر إلى عمر وقد وثب مباعداً ما بين خطاه حتّى وقف على القبر فصلّى عليه ثمّ اعتنقه وبكى…»(11).

بلال يزور قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم):

يذكر ابن كثير في «أُسد الغابة» زيارة بلال لقبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما يبيّن مشروعية الزيارة في عهد الصحابة.

يقول ابن كثير: «ثمّ إنّ بلالاً رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في منامه وهو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا» فانتبه حزيناً فركب إلى المدينة فأتى قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجعل يبكي عنده ويتمرّغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبّلهما ويضمّهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذّن في السحر، فعلا سطح المسجد، فلمّا قال: «الله أكبر، الله أكبر» ارتجّت المدينة، فلمّا قال: «أشهد أن لا إله إلاّ الله» زادت رجّتها، فلمّا قال: «أشهد أن محمّداً رسول الله» خرج النساء من خدورهنّ فما رئي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم»(12).

وعن عبد الله بن أبي مليكة، أنّ عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أمّ المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن زيارة القبور؟

قالت: نعم، «كان قد نهى، ثمّ أمر بزيارتها»(13).

الحقيقة تتبلور:

يقول «جعفر»: بعد مضي مدّة غير قصيرة من البحث تجلّت لي الكثير من الحقائق التي ساهمت في غربلة موروثي العقائدي الناتج عن اتّباعي لأسلافي، ولو أنصف الباحث في عملية البحث لوقف على حقيقة الكثير من المسائل التي لا يزال يعتقد البعض بأنّ الحقّ لا يعدو ما نلقّاه عن طريق الفكر الوراثي الذي لا يزال مهيمناً على مجتمعاتنا الإسلاميّة.

ويمكن اكتشاف الحقيقة من خلال التخلّي عن التعصّب ; لأنّه يجعل الوصول إلى طريق الحقّ أكثر صعوبة، بل يغلق في الكثير من الأحيان الأبواب على الباحث ويجعله ملتجئاً إلى حالة الركون إلى التقليد الوراثي.

ولكن وبحمد الله تمكّنت من تخطّي هذه العقبة والوصول إلى طريق الهداية، وذلك عندما تبين لي الحقّ، فجعلت أهل البيت(عليهم السلام) هم الضياء الذي أستنير منه في الظلمات.

____________

1- المائدة (٥): ٣٥.

2- الإسراء (١٧): ٥٧ .

3- الكهف (١٨): ٢١.

4- صحيح مسلم ٣: ٦٥.

5- مجمع الزوائد ٣: ٥٨ .

6- مسند أبي يعلى الموصلي ٦: ٣٧٢.

7- المعجم الكبير ١٢: ٢٩١.

8- سنن الدارقطني ٢: ٢٤٤.

9- شفاء السقام: ١١٣.

10- شفاء السقام: ١١٤.

11- الرياض النضرة ١: ١٨٢.

12- أُسد الغابة ١: ٢٠٨.

13- المستدرك ١: ٣٧٦.