جوزيف عبد المسيح حبابة (محمد)

جوزيف عبد المسيح حبابة (محمّد) (مسيحي / العراق)

ولد «جوزيف» في «بغداد» عاصمة العراق، ونشأ في أُسرة مسيحيّة كاثوليكيّة، أسلم عام ١٣٨٢هـ (١٩٦٣م) بعد أن فرضت عليه الأدلّة والبراهين الساطعة أحقّيّة الإسلام وأحقّيّة مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

يقول «جوزيف»: كان لي – قبل إسلامي بسنتين – اتصال مع الشيعة الإمامية، وكانت تدور بيننا مجادلات وبحوث عقائديّة، وكما كانت لي حوارات مع أتباع باقي المذاهب، وكنت أتأمل في الأدلّة التي يبيّنها اتباع هذه المذاهب وبعد إجراء دراسة مقارنة بين هذه الأدلّة والبراهين اخترت مذهب أهل البيت(عليهم السلام).

يضيف «جوزيف» قائلاً: بعد مطالعاتي المكثّفة التي بدأتها بكتاب «نهج البلاغة»، وغيره من الكتب تجلّت لي أحقّية مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فلم أجد سوى اعتناق هذا المذهب والالتحاق بركب أهل البيت(عليهم السلام).

نهج البلاغة وبيان عقيدة التوحيد:

السبيل لمعرفة التوحيد هو معرفة صفات الله تعالى، فمن عرف صفاته تعالى وتمعّن فيها وأدركها بحقيقتها فقد عرف الله ووحّده، والمنبع لمعرفة هذه الصفات هو الكتاب والسنّة، وبما أنّ أهل البيت(عليهم السلام) هم عدل القرآن والأمناء على الشريعة والحافظون لها، فلابدّ من الأخذ منهم في هذا المجال فحسب ; لأنّهم هم اللذين اصطفاهم الله ليكونوا حججه على بريّته، والصلة بينه وبين عباده، ولا يمكن التعرّف على الأُمور المرتبطة به تعالى إلاّ من خلال هذه الصفوة، وإلى هذا أشار الإمام الصادق(عليه السلام) بقوله: «بنا عُرف الله، وبنا عبد الله، نحن الأدلاّء على الله ولولانا ما عبد الله»(1).

انجذب «جوزيف» إلى أهل البيت(عليهم السلام) ولاسيّما الإمام علي(عليه السلام) عندما قرأ معارف التوحيد في النهج الشريف، منها خطبة للإمام علي(عليه السلام) يبيّن فيها حقيقة التوحيد وما تحتويه هذه العقيدة من مفاهيم عالية، وقيم سامية، تجذب الإنسان إلى التأنّي فيها، والإقرار بثبوتها، وجاء في هذه الخطبة:

«ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقتهُ أصاب من مثّله، ولا إياه عنى من شبّهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه.

كلّ معروف بنفسه مصنوع، وكلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول فكرة، غنيّ لا باستفادة.

لا تصحبُهُ الأوقات، ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله.

بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأُمور عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.

ضادّ النور بالظلمة، والوضوح بالبُهمة، والجمود بالبَلَل، والحرُور بالصرد.

مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها.

لا يُشمل بحدّ، ولا يحسب بعدّ، وإنّما تحدُّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلات إلى نظائرها، منعتها «منذ» القدمَةُ، وحمتها «قد» الأزليّة، وجنّبتها «لولا» التكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون.

لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو أبداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولا لتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره، الذي لا يحول ولا يزول، ولا يجوز عليه الأُفُول.

ولم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جلّ عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء.

لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواس فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولا يتغيّر بحال، ولا يتبدّل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض.

ولا يقال له حدٌّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أنّ الأشياء تحويه فتُقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئاً يحمله فيميله أو يعدّله.

ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخُروق وأدوات، يقول ولا يَلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر.

يحبّ ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة.

يقول لمن أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّلهُ، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلها ثانياً.

لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدئ والبديع . . . »(2).

توقّف «جوزيف» عند هذه الكلمات والمضامين الرفيعة، وتأنّى في حقيقة هذه العقيدة الحقّة بما يصفها أمير المؤمنين(عليه السلام) بهذه الأوصاف الدقيقة، والعقائد السليمة، ورأى الخلاف الشاسع بين ما كان يعتقده هو وجميع أتباع الديانة المسيحيّة، وبين التوحيد المستفاد من كلام أمير المؤمنين(عليه السلام).

عقيدة أتباع الديانة المسيحيّة في التوحيد:

يعاني أتباع الديانة المسيحيّة من تناقضات واضحة في عقيدة التوحيد، فتراهم يقولون بالأقانيم الثلاثة، وهذه العقيدة في نفسها غير واضحة لاتباع هذه الديانة أنفسهم.

يقول أحد المسيحيين المهتدين إلى الدين الإسلامي الحنيف – وهو الأستاذ علي الشيخ – في وصفه لاعتقاد أتباع الديانة المسيحيّة في التوحيد: «إنّ عقيدة الثالوث الأقدس تعتبر السرّ الأوّل في العقيدة المسيحيّة، فهي الأساس الذي بنيت عليه المسيحيّة، كما أنّ التوحيد هو الأساس في الإسلام، فنحن في كلّ عمل كنّا نقوم به نبدأ (باسم الأب والابن والروح القدس)، وهو أوّل شيء تعلّمته منذ نعومة أظافري، فعند الأكلّ نبتدئ به، وعند الدخول إلى الكنيسة، وعند الصلاة، ولهذا لا أعتقد أنّ هناك عقيدة مترسّخة في نفس كلّ مسيحي كعقيدة التثليث.

ولكن بالرغم من هذا ففهمها مشكل جدّاً، بل مستحيل! فنحن نعتقد أنّ التثليث ولأنّه يرتبط بحقائق إلهيّة فائقة الوصف، فهو بعيد عن متناول عقل الإنسان، ولذا فهو يبقى سراً غامضاً لا يفهم، فهو فوق الإدراك البشري.

وقبل الدخول في البحث عن هذه العقيدة، لا يفوتني أن أذكر من أنّ المسيحيين لا يعتقدون بثلاثة آلهة كما يتصوّر البعض، بل هم يؤمنون بإله واحد له ثلاثة أقانيم وهي (الأب والابن والروح القدس).

وفي الواقع أنّ كلمة (التثليث أو الثالوث) لم ترد في الكتاب المقدّس، ويظنّ أنّ أوّل من صاغها واستعملها هوترتوليان في القرن الثاني للميلاد.

ثُمّ ظهر سبيليوس في منتصف القرن الثالث وحاول أن يفسّر العقيدة بالقول:إنّ التثليث ليس أمراً حقيقياً في الله، لكنّه مجرد إعلان خارجي، فهو حادث مؤقّت وليس أبدياً.

ثُمّ ظهر أريوس الذي نادى بأنّ الأب وحده هو الأزلي بينما الابن والروح القدس مخلوقان متميّزان عن سائر الخليقة.

وأخيراً ظهر أثناسيوس الذي وضع أساس العقيدة (الثالوث الأقدس).

وبعد مناقشات وتشاجرات بين علماء المسيحيّة وكبار قادة الكنيسة الذين افترقوا بين مؤيّد لأريوس، ومؤيّد لأثناسيوس، دفعت بالامبراطور قسطنطين إلى الدعوة لعقد أوّل مجمع مسكوني في عام ٣٢٠ ميلادي في «نيقية»، وحضر هذا الاجتماع أكابر العلماء والأساقفة، وبعد شهر أو أكثر من النقاش والجدال، انتصرت عقيدة أثناسيوس وكسبت أكثر الآراء، وتمّ تشكيل عقيدة التثليث والتي نصّت على ما يلي:

نحن نعبد إلهاً واحداً في الثالوث، والثالوث في التوحيد لأنّ هناك شخصاً للأب وآخر للابن وآخر لروح القدس، أنّهم ليسوا ثلاثة آلهة ولكن إله واحد! فكلّ الأشخاص الثلاثة هم أزليون معاً ومتساوون معاً، وهكذا فإنّ الإنسان الناجي هو ذلك الذي يعتقد بالثالوث.

فالمسيحيون يلخّصون عقيدة التثليث في النقاط الستة التالية:

١ – الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث شخصيات يعتبرهم شخص الله.

٢ – هؤلاء الثلاثة يصفهم الكتاب بطريقة تجعلهم شخصيّات متميّزة الواحدة عن الأخرى.

٣ – هذا التثليث في طبيعة الله ليس مؤقّتاً أو ظاهراً بل أبدي وحقيقي.

٤ – هذا التثليث لا يعني ثلاثة آلهة بل أنّ هذه الشخصيات جوهر واحد!

٥ – الشخصيات الثلاث الأب والابن والروح القدس متساوون!

٦ – لا يوجد تناقض في هذه العقيدة!

فالمسيحيون يؤكّدون على التوحيد، وأنّ خالق هذا العالم والذي يدير شؤونه هو واحد لا أكثر، ولكن في تعريفهم لحقيقة هذا الواحد يقولون أنّه يتألّف من ثلاثة أقانيم أو أشخاص وهم (الأب والابن والروح القدس)، وهم متساوون في القدرة والمجد، ويؤكّدون أنّ هذه المعرفة كانت تدريجيّة، فالله سبحانه لم يكشف عن نفسه مرّة واحدة، لشدّة نوره الذي يبهر العيون، بل تمّت معرفته في يسوع المسيح(عليه السلام)، فالخالق العظيم كانت حقيقته مجهولة للإنسانيّة، ولم يستطع أحد التعرّف على كنهه، وبمجيء المسيح(عليه السلام) كشف ربّنا عن كنهه وحقيقته بتجسّده في عيسى المسيح(عليه السلام)»(3)!

والإشكالات الواردة على هذه النظرية كثيرة جدّاً نشير إلى جملة منها:

أوّل: إشكال يواجه هذه العقيدة: أنّها مخالفة للعقل، لأنّ العقل يحكم ببطلان اجتماع النقيضين، وقوام هذه العقيدة على اجتماع النقيضين، فيرون أنّ هؤلاء الثلاثة مع كونهم ثلاثة أشخاص إلاّ أنّهم شخص واحد، ومن الواضح أنّ الواحد الحقيقي لا يمكن أن يصير ثلاث حقائق، وإلاّ فهو ليس واحداً حقيقة، ولأجل هذا المحذور الواضح والجلي التجأ أساقفتهم إلى تعجيز العقل عن فهم هذه العقيدة وجعلوها من الأسرار الغامضة التي تفوق الإدراك البشري!

وثانياً: لازم هذا الاعتقاد كون الله سبحانه وتعالى مركّباً من أجزاء ثلاثة، والمركّب محتاج إلى أجزائه، فيكون الله تعالى محتاجاً ولكنّه تعالى منزّهاً عن ذلك.

وثالثاً: يعترف المسيحيّون بأنّ عيسى(عليه السلام) كان كثير العبادة، وكان قائماً ليله وصائماً نهاره، فإذا كان عيسى هو الله بأيّ معنى يقصده المسيحيّون فما الجدوى من هذه العبادة الكثيرة التي يتّصف بها المسيح(عليه السلام)؟! وهل يعقل أن يعبد اللهُ نفسه ويصلي ويصوم لنفسه؟!

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حيث يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْ شَهِيدٌ(4).

النهاية المشرقة:

عندما رأى «جوزيف» التناقضات الواضحة في معتقده حول التوحيد، وتعرّف على العقيدة الصحيحة المتمثّلة في كلام الإمام علي(عليه السلام)، أذعن للحقّ، لأنّه كان ممّن يتطّلع نحو الحقّ ويقفوا أثره، وكان متذّمراً من التقليد الأعمى للآباء والسلف، وكان لا يرغب في غضّ طرفه عن الحقائق التي تنكشف أمام ناظريه، فأذعن للحقّ بعدما تجلّى له واهتدى إلى الإسلام الصحيح الذي ينبع من بيت الوحي والنبوّة، واهتدى إلى دقيق كلام هذه العترة الطاهرة فاستنار به.

يقول «جوزيف»: لقد حدث تغيير كامل في نفسي، تغيير في وجداني وإنسانيتي وأخلاقي بفضل الإسلام الصحيح وولاية أهل البيت(عليهم السلام) والعمل بنصائحهم، والحمد لله على نور الهداية.

____________

1- بحار الأنوار ٢٦: ٢٦٠.

2- نهج البلاغة ٢: ١٢٣، الخطبة ١٨٦.

3- هبة السماء: ٩٧.

14- المائدة (٥) : ١١٦ ـ ١١٧.