عبد الله جوغوباه

عبد الله جوغوباه (مالكي / غينيا – وناكري)

ولد في غينيا سنة ١٩٦٨م في أسرة تنتمي إلى المذهب المالكي، درس حتّى نال شهادة البكالوريوس (الليسانس) في مجال الهندسة الميكانيكيّة، وتعلّم أيضاً قراءة القرآن وطالع كُتب الفلسفة والعقيدة وأصبح أستاذاً في الكيمياء والفيزياء والرياضيّات.

يقول «عبد الله» عند عودة الإخوة الذين قاموا بإدخال التشيّع إلى غينيا من هجرتهم الدراسيّة سنة ١٩٩٠م، وشروعهم بالعمل التبليغي حيث أسّسوا حوزة أهل البيت(عليهم السلام)، كنت وقتها طالباً في الجامعة، وتعرّفت عليهم، فكنت أحضر محاضراتهم وأستعير الكتب منهم.

وبعد التخرّج ذهبت للعمل إلى مكان بعيد عن العاصمة (كوناكري)، وانقطع ارتباطي بحوزة أهل البيت(عليهم السلام)، لكنّ هذا الانقطاع لم يدم طويلاً، فقد عدتُ بعد ستّة أشهر إلى كوناكري، وطُلب منّي القيام بتدريس الدروس الأكاديميّة في الحوزة، بعد أن فرضت الحكومة تدريسها إلى جانب الدروس الدينيّة.

وقد كانت هذه فرصة ذهبيّة بالنسبة إليّ لكي أتمكّن من التعرّف أكثر على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فبدأت بالبحث والتأمّل، وقد شدّني أكثر من أيّ شيء قوّة منطق الشيعة، واعتمادهم العقل في الاستدلال.

حجج الشيعة ومنطقهم القوي:

إنّ دعوة الإسلام إلى التدبّر والتعقّل، وحثّه للمسلمين عليه، أدّى إلى ظهور التفكير العقلي بقوّة بين المسلمين حول مختلف المسائل الهامّة، سواء كانت مرتبطة بالدين أو الحياة العامّة وغير ذلك، وقد زاد في هذا الأمر دخول الأمم الأخرى في الإسلام حيث دخلت معهم مختلف الشُبه والإشكالات، الأمر الذي أضطرّ المسلمين إلى التفكير والتأمّل في سبيل العثور على إجابات مناسبة لتلك الشُبه. وممّا عمّق ذلك ظهور الخلافات المذهبيّة بين المسلمين أنفسهم ومحاولة أبناء كلّ مذهب إقامة الأدلّة والبراهين لتقوية موقف مذهبهم الخاص، فظهرت المناظرات ومجالس النقاش العلمي التي كان المتكلّمون يهتمّون بعقدها والمشاركة فيها.

وقد تألّق متكلّمو الشيعة ومناظروهم في هذه المجالس، من أمثال هشام بن الحكم ومؤمن الطاق وعلي بن إسماعيل الميثمي وغيرهم، وذلك بسبب ما كانوا يمتلكون من ذكاء متوقّد وعبقريّة نادرة، استمّدت قوّتها وألقها من تعاليم أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الذين كانوا يمدّون أصحابهم بأساليب البحث والمناظرة، فيأخذ أصحابهم تلك التعاليم ويصوغونها بصياغتهم الخاصّة.

فمن يطالع مناظرات الشيعة واحتجاجاتهم يعرف مدى قدراتهم الفائقة على استعمال الأدلّة العقليّة، فقد كانوا قمّة في العقليّات، كما كانوا ملمّين بكتب المخالفين وآرائهم إلماماً تامّاً، وكانوا يراعون الإنصاف في البحث وتحرّي الحقيقة.

ولنذكر هنا بعض مناظراتهم لنتعرّف أكثر على مدى نباهتهم وذكائهم.

مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد:

قال هشام وهو يتحدّث مع الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): بلغني ما كان في عمرو ابن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليّ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متّزر بها من صوف وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فأستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتيّ، ثمّ قلت: أيّها العالم، إنّي رجل غريب، تأذن لي في مسألة؟

فقال لي: نعم.

فقلت: ألك عين؟

فقال: يا بُنيّ، أي شيء هذا من السؤال؟ وشيءٌ تراه كيف تسأل عنه؟!

فقلت: هكذا مسألتي.

فقال: يا بُنيّ، سل، وإن كانت مسألتك حمقاء.

قلت: أجبني فيها.

قال لي: سل.

قلت: ألك عين؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قلت: فلك أنف؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أشمّ به الرائحة.

قلت: ألك فم؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أذوق به الطعم.

قلت: فلك أذن؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أسمع بها الصوت.

قلت: ألك قلب؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواسّ.

قلت: أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

فقال: لا.

قلت: وكيف ذلك، وهي صحيحة سليمة؟!

قال: يا بُني، إن الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردّته إلى القلب، فيستيقن اليقين ويبطل الشك.

قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشكّ الجوارح؟

قال: نعم.

قلت: لابدّ من القلب، وإلاّ لم تستيقن الجوارح؟

قال: نعم.

فقلت له: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح، ويتيقّن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟!

قال: فسكت، ولم يقل لي شيئاً(1).

مناظرة الشيخ المفيد مع علي بن عيسى الرمّاني:

خاض الشيخ المفيد(رحمه الله) هذه المناظرة في شبابه، وهي تدلّ على سرعة بديهة ونباهة نادرة، وقد ذكر الشيخ المفيد(رحمه الله) هذه المناظرة ودخوله على الرمّاني المتكلّم، فقال:… فدخلتُ عليه والمجلس غاصّ بأهله، وقعدت حيث انتهى بي المجلس، وكلّما خفّ الناس قربتُ منه، فدخل إليه داخل فقال: بالباب إنسان يؤثر الحضور بمجلسك، وهو من أهل البصرة.

فقال: أهو من أهل العلم؟

فقال: الغلام، لا أعلم إلاّ أنّه يؤثر الحضور بمجلسك.

فأذن له، فدخل عليه، فأكرمه وطال الحديث بينهما، فقال الرجل لعليّ بن عيسى: ما تقول في يوم الغدير والغار؟

فقال: أمّا خبر الغار فدراية، وأمّا خبر الغدير فرواية، والرواية لا توجب ما توجب الدراية.

قال: فانصرف البصريّ، ولم يحر جواباً يورد عليه.

قال المفيد(رحمه الله): فتقدّمت، فقلت: أيّها الشيخ، مسألةٌ.

فقال: هات مسألتك.

فقلت: ما تقول فيمن قاتل الإمام العادل؟

فقال: يكون كافراً، ثمّ أستدرك فقال: فاسقاً.

فقالت ما تقول في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟

فقال: إمام.

قلت: فما تقول في يوم الجمل، وطلحة والزبير؟

قال: تابا.

قلت: أمّا خبر الجمل فدراية، وأمّا خبر التوبة فرواية.

فقال لي: أكنت حاضراً وقد سألني البصريّ؟!

فقلت: نعم.

قال: رواية برواية، ودراية بدراية(2).

إنّ هذه المناظرة الممتعة تدلّ على سرعة بديهة الشيخ المفيد(رحمه الله) وقدرته الفائقة على النقض، فهو لم يكن يعلم بما سيدور بين الرمّاني والرجل البصريّ من كلام، لكنّه ما أن سمع بكلامهما حتّى استطاع بذكائه المتوقّد أن يستخرج نقضاً عجز الرمّاني عن إجابته.

إن «عبد الله جوغوباه» شخصيّة أكاديميّة متعلّمة ; ولذلك كان أوّل ما جذب انتباهه هو القدرة الكبيرة للشيعة على البرهان وإقامة الدليل العقليّ الواضح على صحّة ما يقولونه ومطابقته للواقع ; ولذلك اقتنع بهذا الفكر العميق وتغلغل في أعماق وجوده وعقله.

____________

1- الكافي ١: ١٧٠.

2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام) ٢: ٣٠٢.