زهير عبد الملك مصطفى التيازي

زهير عبد الملك مصطفى التيازي (شافعي / العراق)

ولد عام ١٣٨١هـ (١٩٦٢م) في العاصمة العراقية «بغداد»، فرضت عليه الأجواء التي عاشها الانتماء إلى المذهب الشافعي.

تعاليم منحها التراث قداسة حتّى أصبح المساس بها تخطّياً للخطوط الحمراء، ولكن الحقائق المتدفّقة من ثنايا التاريخ، أثبتت زيف وبطلان هذه القداسة، ويبقى الطريق شائكاً يتحمّل عناءه الباحث عن الحقّ.

تخطّى «زهير» عقبات التراث والتقليد الأعمى للآباء والأسلاف، وذلك من خلال التتبّع في كتب التاريخ والسير، حيث كشف له البحث عن وجه الحقيقة.

يقول «زهير»: كنت شغوفاً بمعالم التاريخ، وكان يمثّل لي هذا العلم الأصالة والهويّة الدينية، فالتاريخ ليس مجرّد حوادث ترتبط بالماضي فحسب، بل هو المخزن للحقائق التي طال ما حاول البعض إنكار مالا ينسجم مع معتقداته. ولكن حتّى متى يمكن إخفاء الحقيقة؟

وهناك الكثير من الوقائع التاريخية أحاطتها حالة من الغموض، ولا يزال البعض يعتبرها حوادث لا تمسّ الحقيقة بشيء، ويعتبر العامل الأساسي لهذا الإنكار هو التقليد الأعمى للآباء والأسلاف في كلّ صغيرة وكبيرة، وترويج عامل تقبّل التراث بصورة مطلقة حتّى لو كانت معطياته مخالفةً للدليل والبرهان، وحصيلة هذا التقليد مواجهة الفراغ الواسع في شتّى المجالات، ولاسيّما في مجال العقيدة، ولا يمكن للتعاليم الموروثة سدّ الثغرات الناتجة من هذا الفراغ، وهنا تطرأ الشكوك على أتباع هذا المذهب، وتعصف الشبهات بأذهان الكثير منهم.

وبعد البحث الحثيث الذي أجراه «زهير» حول الحوادث التي أعقبت عروج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، واجه حقائق جعلته يعيد النظر في التراث الذي طالما حاول كتمان الحقائق.

مظلومية الزهراء(عليها السلام):

يكشف لنا التاريخ عن وقائع يندى لها الجبين حياءً، فأصحاب الأمس هم أعداء اليوم، هكذا كان حال البعض بعد وفاة النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعد غصب الخلافة وتعكير الأجواء على المسلمين، قام التيّار المخالف لخطوط الرسالة بتحرّكات عنيفة ضدّ آل بيت الرسول(عليهم السلام) وذلك بمرأى ومسمع من المسلمين !

ولا عجب مّمن انحرف عن الخط الرسالي أن يرتكب أبشع ما يمكن فعله من أجل نيل مصالحه الدنيوية المزيّفة.

ومن تلك الوقائع التي لا يزال التاريخ يضع العديد من التساؤلات اتّجاهها هي ظلامة بضعة المصطفى وحبيبته فاطمة الزهراء(عليها السلام)، فقد سجّل التاريخ لنا هذه الظلامة ابتداءً من هجوم القوم على بيتها، وعصرها بين الباب والحائط، وإسقاط جنينها المسمّى بالمحسن، وقد اعترف أبو بكر بهذه الوقائع، فقد ذكر المؤرّخ الكبير الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن عوف… أنّ أبا بكر عندما حضرته المنيّة قال: «أمّا إنّي لا آسى إلاّ على ثلاث فعلتهنّ، وددت أنّي لم أفعلهنّ… فأمّا الثلاث التي فعلتهنّ، ووددت أنّي لم أكن فعلتها، فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب…»(1).

هكذا يفصح أبو بكر عن ظلامة الزهراء (عليها السلام)، وما أدري بأيّ عذر يعتذر؟

ولم تنتهي الأحداث المرّة إلى هذا الحدّ، بل قامت السلطة الحاكمة آنذاك بغصب الأملاك الشخصيّة للزهراء (عليها السلام)، فكشف القوم عن سريرتهم، وذلك بغصبهم «فدك» التي أعطاها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) .

فدك في التاريخ:

ينقل لنا ياقوت الحموي في معجم البلدان عن فدك فيقول:

فدكُ: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع صلحاً وذلك: أنّ النبيّ صلّى ا لله عليه وسلم لمّا نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلاّ ثلث واشتدّ بينهم الحصار راسلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسألونه أن يُنزلهم على الجلاء، وفعل وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك.

فهي ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة وهي التي قالت فاطمة رضي الله عنها: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحلنيها، – ثمّ انظر ماذا كان جواب أبو بكر لبضعة المصطفى الذي قال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»(2)، وفاطمة من أهل البيت الذي أنزل الله فيهم قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(3) – .

فقال أبو بكر: أريد لذلك شهوداً..؟

فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدَكَ إلى ولد فاطمة رضي الله عنها، فكانت في أيديهم في أيّام عمر بن عبد العزيز.

فلمّا ولي يزيد بن عبد الملك قبضها، فلم يزل في أيدي بني أميّة حتّى ولي أبو العبّاس السفّاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القيّم عليها يفرّقها في بني علي بن أبي طالب.

فلمّا ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم، فلمّا ولي المهدي ابن المنصور الخلافة أعادها عليهم، ثمّ قبضها موسى الهادي ومن بعده إلى أيّام المأمون، فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها، فأمر أن يسجّل لهم بها، فكُتب السجل وقُرأ على المأمون، فقام دعبل الشاعر وأنشد:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا بردّ مأمون هاشم فدكا(4)

هذه نبذة مختصرة عن تداول فدك في أيدي السلطات الحاكمة، ولكن يا ترى كيف نجمع بين هذه الأحداث، لاسيّما بين التناقض الموجود فيها.

فأبو بكر يدّعي أنّها لبيت المال، وعمر يعطيها إلى ورثة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعاوية يهبها إلى مروان، وهكذا تتداول بين هذا وذاك، فما هي الوقائع التي خلف الكواليس؟

فدك والحقيقة:

ليست فدك إلاّ رسالة على مدى الأجيال تصرخ بوجه التيّار المنحرف الذي شُيّدت أُسسه في سقيفة بني ساعدة، وهي الصرخة في وجه اللذين ارتدّوا على أعقابهم القهقرى، وتبقى خطبة الزهراء(عليها السلام) هي المبيّنة لهذا الأمر.

«… فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلين وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم… فهيهات منكم! وكيف بكم؟ وأنّى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم… وقد خلّفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلاً ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)…»

حاولت الزهراء(عليها السلام) تبيين الانحراف الذي وقع المسلمون فيه، وذلك لابتعادهم عن الخطّ الرسالي القيّم، وحذّرتهم من مغبّة عملهم هذا، ثمّ بيّنت الجانب الأكثر خطورة فقالت لهم:

«… سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة… كتاب الله جل ثناؤه في أفنيتكم، وفي ممساكم ومصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافاً وصراخاً وتلاوة وألحانا، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله، حكم فصل وقضاء حتم ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(6)…».

بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم… وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم… فبعين الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون…»(7).

وفي خطبتها لنساء المهاجرين والأنصار عندما عادوها في مرضها فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا ابنة رسول الله؟ فحمدت الله وصلّت على أبيها، ثمّ قالت:

«أصبحت والله عائفة لدنياكنّ… بعداً للقوم الظالمين، ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطيبين بأُمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين… وما عشت أراك الدهر عجباً، وإن تعجب فعجب قولهم، ليت شعري إلى أي سناد استندوا، وإلى أي عماد اعتمدوا، وبأية عروة تمسّكوا، وعلى أيّة ذريّة أقدموا واحتنكوا؟ لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلاً استبدلوا والله الذنابي بالقوادم… ويحهم ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(8).

نرى بوضوح أنّ الزهراء(عليها السلام) بيّنت للقوم خطورة الانحراف الذي وقعوا فيه، فقد استبدلوا والله الذنابي بالقوادم، وأنّى زحزحوها عن أبي الحسن، هذا هو الموقف الذي جعل تاريخ فدك رمزاً يرمز إلى تثبيت بذور الثورة في قبال التيّار المنحرف الذي بدت بوادره تأخذ حيّزاً واسعاً في الساحة الإسلاميّة.

وتبقى الحقيقة:

تبقى الحقيقة مهما حاول البعض كتمانها، وتبقى صرخة المظلوم على مدى الأجيال تدوي لتتمّ الحجّة على الناس، ويسمعها الجميع، لكنّها تؤثّر على من تخلّى عن العصبية العمياء، وحاول أن يتبنّى البحث بروح خالصة من المتكدسات الموروثة التي لا يزال البعض يضع لها أجنحة الذلّ والتسليم.

ولم يكن «زهير» من زمرة هؤلاء الناس، فبعدما تبيّنت له الحقائق أعرض عن تراث طالما كان حديثه عن الحقيقة وهماً وخيالاً، فالتحق بركب سفينة النجاة وعترة المصطفى التي قال عنها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى.

____________

1- تاريخ الطبري ٢: ٦١٩.

2- صحيح البخاري ٤: ٢١٠.

3- الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

4- معجم البلدان ٤: ٢٣٩.

5- آل عمران (٣): ٨٥ .

6- آل عمران (٣): ١٤٤.

7- مناقب آل أبي طالب ٢: ٥٠.

8- يونس (١٠): ٣٥.