ستّار الفهداوي

ستّار الفهداوي (حنفي / العراق)

ولد سنة ١٣٨١هـ (١٩٦٢م) في مدينة «الرمادي» غرب العراق، ونشأ في عائلة سنّية حنفيّة المذهب، نال شهادة الثانوية (الفرع الأدبي)، درس في الحوزة العلمية في مدينة قم لفترة قصيرة بعد استبصاره سنة ١٤٠٧هـ (١٩٨٧م).

خدمة العَلم الاجبارية تفتح أمامي نوافذ النور:

يقول «ستّار»: «بعد إكمالي الدراسة دعيت إلى خدمة العَلم في الجيش العراقي وكانت أيّام خدمتي العسكريّة في زمن الحرب العراقيّة -الإيرانية التي دامت ثماني سنوات في الثمانينات من القرن الماضي.

كنّا مجموعة من الشباب في وحدة عسكريّة على الحدود العراقيّة الإيرانية، وكانت هذه المجموعة خليطاً من جميع المحافظات العراقية، ففينا ابن الشمال الكردي أو التركماني وفينا ابن الجنوب العربي، وفينا المسلم الشيعي وفينا السنّي وفينا المسيحي وفينا ابن العشائر وفينا ابن الريف وفينا ابن المدينة، وفينا الشخص المتعلّم الذي قطع شوطاً من حياته في مدارس العلم، وفينا الأمّي الذي لم يدرس شيئاً.

في إحدى الليالي الحالكة الظلام، كنت مع صديق لي في ملجأ مظلم لم يصله الكهرباء على الحدود، ودار الحديث بيني وبين صديقي واسمه عبّاس – من أهالي الشعلة في بغداد- في موارد شتّى إلى أن فاجئني بهذا السؤال: لو حصل القصف الشديد الآن ونحن في ساحة حرب فمن تدعوه وبمن تتوسّل للخلاص والنجاة؟

فقلت: أدعو الله، وأتوسّل ببعض المشايخ كالشيخ خليفة والشيخ مسعود فقال لي: ونعم بالله، ولكن ما قيمة الشيخ خليفة والشيخ مسعود المتصوّفة أمام أمير المؤمنين(عليه السلام)؟

فقلت له: ومن هو أمير المؤمنين؟! قال ببساطة وطلاقة: زوج البتول وابن عمّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

قلت له: ومن هي البتول؟!

قال: فاطمة الزهرا(عليها السلام).

قلت: نعم، فاطمة معروفة لدينا، أمّا من أين أتيت بهذه الألقاب.

فقال: لاتهمّ الألقاب إذا واجهت الموت، وحصلت لك الشدائد، أنصحك يا أخي بالتوسّل بهؤلاء، فهم حبل النجاة في الدنيا والآخرة، وصادف دخول أحد الأشخاص الغرباء ملجئنا فانقطع الكلام بيننا.

بعد سنة تقريباً في المنطقة الشماليّة من العراق قرب الحدود، وفي أحد السفوح الجبليّة شرع القصف علينا بشدّة، وأخذنا بحفر الشقوق للاختباء ولو إلى نصف الجسم، وقد قتل وجرح الكثيرون، وبقيت لوحدي في أحد الشقوق، وسيطر عليّ الخوف بشدّة، فتذكّرت حديث صديقي عبّاس الذي ذكر التوسّل بأمير المؤمنين علي(عليه السلام) في حالات الضيق والشدّة والخوف، فبدأت بالتوسّل بحضرة الإمام علي(عليه السلام) إلى الله سبحانه في النجاة والسلامة من هذا القصف الشديد، ونذرت بذبح الذبائح في مرقده الشريف إن نجوت من هذه المهلكة.

وبالفعل توقّف القصف، وجاء الأمر العسكري بالانسحاب من هذا الجبل والعودة إلى المقرّ الخلفي، وهناك -وكانت إجازاتنا الدورية قد تأخّرت كثيراً صدر الأمر العسكري بعمل القرعة لإرسال ثمان جنود فقط من كلّ فوج إلى أهاليهم لقضاء فترة الإجازة، وعند إجراء القرعة ظهر اسمي ضمن المجازين، فتعجّبت من ذلك وعرفت أنّ عليّ أداء النّذر في هذه الإجازة، فعرضت على صديقي عبّاس الذهاب إلى أهله بدلاً منّي، ورجوت منه أداء نذري عند حضرة الإمام علي(عليه السلام) فرفض صديقي عبّاس قائلاً: الإجازة هي حقّك والنذر نذرك فعليك أداؤه بنفسك.

وفعلاً ذهبت إلى مدينة الرمادي لقضاء فترة الإجازة، ولم أحسّ بالطريق الذي قطعته بالسيّارة لانشغال فكري بما جرى عليّ في الأيّام السابقة، وبضرورة أداء النذر الذي أراه صعب التنفيذ، فأنا يجب عليّ السفر إلى مدينة غريبة لم أزرها من قبل، ولا أعرف ناسها وطباعهم، ولا مذهبهم الديني.

وصلت إلى البيت عند الغروب، وفرح أهلي واصدقائي بعودتي، لكنّهم لاحظوا عليّ الصمت والتفكير وعدم مشاركتهم فيما يتكلّمون عنه، فأنا مشغول بالتفكير بأمير المؤمنين(عليه السلام) الذي نجاني من الموت المحتّم، وكيفيّة أداء النذر له، لكنّ الصعوبة التي كنت أواجهها هي أنّه كيف أفاتح أهلي بالموضوع، وكيف أطرحه عليهم، فبقيت اللّيلة الأولى متحيّراً متقلّباً على فراشي.

وفي الصباح طلبت من أخي الكبير عدم الذهاب إلى محلّ عمله، والذّهاب معي بدلاً من ذلك لأداء النذر، فرفض أخي قائلاً: ولماذا توسّلت بعليّ؟ ولماذا لم تتوسّل بالشيخ خليفة والشيخ مسعود اللذين نتوسّل بهم عادة؟

فقلت له: يا أخي أنا في تلك الشدّة لم يحضر في خاطري سوى علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولم يكن هذا الجواب منّي مقنعاً لأخي في الذهاب معي، فبقيت متحيّراً في أمري ولكنّي صمّمت على الذهاب في اليوم التالي، أتى معي أخي أم لم يأت.

وفي المساء عاد أخي إلى البيت، وقال لي: سآتي معك لأداء النذر، فقلت: خيراً ماذا حصل، فقال لي على بساطته: لقد قضيت يوماً غير موفّق في العمل، فكلّ أعمالي لم تسر على ما يرام، وأنا أخشى أنّ الإمام علي(عليه السلام) غير راض عنّي.

وفي اليوم التالي غادرنا الرمادي إلى مدينة كربلاء لزيارة الإمام علي(عليه السلام)وكنت أتصوّر أنّ الإمام علي(عليه السلام) هو في مدينة كربلاء، ولم أعرف أنّي ذهبت إلى زيارة قبر الإمام الحسين(عليه السلام) إلاّ بعد عودتي إلى وحدتي العسكريّة عند صديقي عبّاس، والمهمّ أدّيت نذري وارتاحت نفسي بأنّي أدّيت النذر قربة إلى الله تعالى ولو في مكان آخر.

وهناك حيث كانت الجبهة العسكريّة مشتعلة تكررّت معي الحالة السابقة، حيث خرجت من الموت مرّة أُخرى بأعجوبة، فناديت عليّاً مظهر العجائب، ووجدّته عوناً لي في النوائب، وذهبت في الإجازة إلى النجف الأشرف هذه المرّة وأدّيت نذري في حضرته المباركة(1).

الأسر، ومعاناة الاستبصار:

يواصل «ستار» حديثه، فيقول: «وقعت في أسر الجيش الإيراني في إحدى المعارك قرب الحدود، وجيء بي إلى معسكر تختي قرب طهران، وهناك عشت مرحلة مهمّة من حياتي، حيث بدأت بالتأمّل فيما مرّ بي في حياتي السابقة حتّى انتهيت إلى هذا المكان الذي لا يرغب أحدٌ في المجيء إليه، وهل يرغب عاقل في أن يقضي فترة من شبابه في معسكر اعتقال؟!

لقد عرفت أنّ المذهب الذي حمله آبائي وأجدادي هو المذهب الحنفي السنّي الذي يُعظّم الخلفاء الراشدين، وأنا أيضاً لابدّ لي من احترامهم ولا أقبل التعدّي عليهم من الآخرين، بل أطالبهم بالاحترام المتبادل لأنّي أحبّ أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي يحترمه الطرفان الشيعة والسنّة لحسن الحظ، وإذا أردت أن اعتقد بعقائد الشيعة في تفضيله على الكلّ فلابدّ أن يكون ذلك وفق الدليل العلمي المقنع الشافي الذي لاريب فيه.

وهكذا بدأ الحوار والنقاش، وكنت أنا طبعاً في الجانب السنّي مع مجموعة من الأصدقاء الذين أحبّوني ورأوا فيّ صديقاً عزيزاً يدافع عن مذهبهم، ولكن عواطفي كانت موزّعة بين هؤلاء وأولئك الذين هم في الطرف الآخر كنت أُحبّهم أيضاً.

وتطلّب الحوار منّي قراءة الكتب، وخاصة كتب الشيعة التي لم أطّلع عليها ولم أسمع حتّى بأسمائها من قبل، كما حضرت بعض المجالس الحسينيّة والمحاضرات التثقيفية التي كانت تقام في المعسكر، وقد سبّبت لي هذه الحالة شكاً شديداً في كلا المذهبين، حتّى أنّي فكرّت في ترك الصلاة التي هي مظهر الدين جانباً، ولكنّ أصدقائي من كلا الطرفين قالوا: ابق على مذهبك الحنفي فهو أفضل لك من ترك الصلاة!!

اقترح علينا أحد مدرّسي العقيدة في المعتقل يوماً أن نتباحث في موضوع المسائل الخلافية بين السنّة والشيعة بهدوء، مع ذكر الدليل العلمي في كلّ مسألة من كلا الطرفين، وقد استحسن هذا الاقتراح معظم الحاضرين وكنت أنا منهم، وبعد سلسلة من حلقات البحث بدأت أشكّ في مذهبي السنّي، وشرعت بالوضوء وفق المذهب الشيعي في أحدى الليالي قبل المنام، لأنّي عرفت أنّه أصح وأفضل.

ولكن مع ذلك لم أجزم في الأمر ولم يَزُل الشكّ عن قلبي تماماً فطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يقطع حيرتي وأن يريني علامات تهديني إلى الطريق المستقيم ولو عن طريق الرؤيا، وعاهدت الله أن أتبع ما يهديني إليه ولا أتراجع عنه.

وفعلاً رأيت في المنام أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) يخلّصني من شدّة وقعت فيها، فتأولّت ذلك على صحّة مذهب الشيعة، وفي الصباح عند صلاة الفجر أصبحت شيعيّاً موالياً لأمير المؤمنين(عليه السلام).

بعد ذلك لم تتركني الوساوس، وتذكرت أهلي وأصدقائي، هل هم جميعاً من أهل النار يا تُرى؟

وأنا الوحيد أسير على الطريق الصحيح ومن أهل الجنّة؟!

وعلى فرض قبول ذلك فلماذا يعاقبهم الله، وهو الذي خلقهم، وهم قد اشتبهوا، أو لم يعرفوا الحقّ، فماذنبهم؟

كما أنّ محاجاتي مع أصدقائي من أهل السنّة قد أدخلت بعض الشكوك في قلبي، وأنا لازلت في أوّل طريق الاستبصار، ولكنّي لم أكن ممّن يستسلمون بسهولة، فقد توسّلت بالزهراء(عليها السلام) طالباً من الله سبحانه أن يسدّدني في جوابهم، واتباع الدليل الصحيح في التمسّك بعرى الدين البيّن، وبفضل الله تعالى وفقّت، وأخذ أصدقائي بالتراجع أمام استدلالاتي، واتخذوا السكوت مسلكاً يخلّصهم من إفحام حجج مذهب الشيعة التي لا يجدون عندهم شيئاً يردّها أو يوقفها عند حدّ معيّن، ولكنّ الذي ألمني بعد ذلك أنّهم قاطعوني فلم يعودوا يسلّمون عليّ، أو يلبّون لي حاجة، ومع ذلك فلم أتركهم ولم أرفضهم، بل واصلت التعامل معهم بالتي هي أحسن أملاً في بقاء المودّة، وتطبيقاً لتعاليم الدين الحنيف.

في هذه الأثناء طلبت المعونة الإلهيّة مرّة أُخرى في تقوية إيماني، وتذكّرت قصّة إبراهيم(عليه السلام) مع الطيور(2)، وقلت مخاطباً ربّي سبحانه: يا ربّ، أبو الأنبياء يطلب منك المعجزة لكي يطمئنّ قلبه، فكيف بي وأنا عبدك الضعيف المسكين.

وفعلاً رأيت في عالم الرؤيا كأنّي في غابة ورأيت أصدقائي وأنا أهرب منهم إلى أن صعدت نخلة طويلة، ورأيت يد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أمامي، والتفت بعدها إلى الخلف فلم أجدهم فعبرت الرؤيا على صحة مذهبي الموالي للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته(عليهم السلام)، وصممّت على البقاء فيه مهما كانت التضحيات.

فهو طريق ذات الشوكة الذي يبتلي سالكيه بأنواع المحن ليزدادوا صلابة في الدين، وقوّة في العقيدة، والحمد لله على نعمة الهداية الربانيّة، والصلوات الدائمة المباركة على أولياء الله أسباب الهداية، وأئمّة الحقّ، ومنقذي البشر من الضلالة والعمى واتّباع الشيطان.

____________

1- انظر كتاب التوسّل للشيخ جعفر السبحاني، وكذلك الزيارة والتوسّل لصائب عبد الحميد.

2- البقرة (٢) : ٢٦٠.