هارون كمغتي

هارون كمغتي (مالكي / غانا)

ولد بمدينة (بولي) في غانا، نشأ في أحضان أسرة تنتمي للمذهب المالكي، درس في المدارس الأكاديميّة حتّى أكمل المتوسطة، وبعدها دخل في المدارس الدينية، وحضر عند علماء السنّة، وخلال دراسته تعرّف على بعض الشيعة، وتعرّف أيضاً على أرائهم ومعتقداتهم، ثمّ بدأ بالمقايسة والتحقيق بين المذهبين، ممّا جعله يتشرّف إلى مذهب أهل البيت عليهم‏السلام، واستبصر سنة ٢٠٠٠م في مسقط رأسه.

في رحاب كلام العترة الطاهرة:

يقول «هارون»: «لازلت أذكر ذلك اليوم الذي حصلت فيه على نسخة من كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي، فتصفّحته وطالعت بعض فقراته، فوجدته كتاباً قيّماً رائعاً، فيه أدعية نالت إعجابي، بحيث إنّني أحسست من خلال قراءتها والتفكّر في مضامينها أثر الصفاء الروحي، والتأثّر المعنوي في نفسي، ومن جانب آخر وجدته كتاباً يغذّي الجانب العلمي والعقلي، مضافاً إلى الجانب الروحي.

وازداد تعلّقي وانجذابي بهذا الكتاب حين علمت بمصادره ومنابعه، من أنّ هن الكتاب يحتوي على أدعية صادرة من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم‏ السلام الكرام الذين أذهب اللّه‏ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

فقد ورد في زيارة الجامعة في وصف كلامهم «كلامكم نور وأمركم رشد، ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير، وعادتكم الإحسان، وسجيتكم الكرم، وشأنكم الحقّ والصدق والرفق، وقولكم حكم وحتم، ورأيكم علم وحلم وحزم»(1). فإنّ هذه الأدعية صادرة من بيت كلامهم نور، وعلم وهداية من اللّه‏ تبارك وتعالى.

ومن الأدعية التي تدهش الإنسان وتحيّره: دعاء الصباح لأمير المؤمنين عليه‏ السلام: حيث يدعو اللّه‏ تعالى بكلام هو بحقّ دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق: «اللّهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه، وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه، واتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه، وشعشع ضياء الشمس بنور تاججه، يا من دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجل عن ملاءمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون، وبعد عن لحظات العيون، وعلم بما كان قبل أن يكون…»(2).

فلا يمكن أن يصدر هذا الكلام إلاّ من شخص مرتبط باللّه‏، ومستقياً من بيت الوحي، ومن باب مدينة العلم. فهذا الدعاء في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، فانظر إلى أوّل فقرة منه: «اللّهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه». أو انظر إلى قوله: «يا من دل على ذاته بذاته» كيف يشير إلى دلائل وجود

اللّه‏ تبارك وتعالى. وهذا نظير ما ورد في كلمات الإمام زين العابدين عليه‏ السلام حيث يقول: «بك عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني اليك، ولولا أنت لم ادر ما أنت»(3).

فإنّ أدعيتهم، تمتاز بأساليبها الرائعة، فقد بلغت الذروة في بلاغتها وفصاحتها، فليس في أيّ فقرة من فقراتها، جملة أو كلمة، يمجّها الطبع، وينفر منها الذوق، فقد نظمت في أرقى أسلاك البلاغة والفصاحة.

رسالة العقل والعاطفة:

يضيف «هارون» قائلاً: عندما كنت اطالع في كتاب مفاتيح الجنان وأتفكّر في حالة الارتباط بين الإنسان وربّه، فهمت بأنّ الارتباط مع اللّه‏ عزّ وجلّ ليس من نوع الارتباط الجاف الذي يجب أن يقوم العبد فيه بمجموعة من الاوأمر والتكاليف والأعمال اتّجاه ربّه خالية عن كلّ عاطفة وأحاسيس، ولم يكن الدين الإسلامي والرسالة المحمّدية برنامجاً خاصّاً غير متناسب مع روح الإنسان وأحاسيسه، بل هو برنامج لتنظيم العقل والعاطفة بنظام الدين، وإنّ الارتباط العاطفي مع اللّه‏ عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته عليهم‏السلام هو جزء من الدين، ومن الناحية العقليّة لا ينكر المفكّر بأنّ للعاطفة دوراً كبيراً في مسألة الاتّباع، ولا يمكن الأمر بطاعة شخص بدون وجود ارتباط عاطفي قويم، وأحاسيس قويّة بين الشخص والناس. فمسألة المحبّة هي من المسائل المهمّة الدينيّة.

قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(4).

فمن أحبّ اللّه‏ أحبّه اللّه‏، ومن أحبّه اللّه‏ عزّ وجلّ كان من الآمنين(5).

فالآية تشير إلى أنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبيّة فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان وسلوكه.

إنّ من يدّعي حبّه للّه‏ تعالى ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ، فعليه أن يتّبع رسوله «فَاتَّبِعُونِي»، فإنّ اللّه‏ يخاطب نبيّه بأن يقول للمسلمين: إنّ حبّه يلازم حبّ نبيّه ؛ لأنّ من آثار الحبّ الطبيعيّة انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له، والسعي في تحقيق طلباته، وإتيان جميع أوامره كاملة منها اتباع رسوله ؛ فكيف يمكن لإنسان أن يعشق اللّه‏ ويعصي أوامره وتعاليمه؟! فإن عصى، فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي.

وأمّا ما ورد في أخبار أهل البيت عليهم‏السلام من أهميّة المحبّة، قول أبي جعفر عليه‏السلام: «وهل الدين إلاّ الحب»، أو قوله عليه‏السلام: «الدين هو الحبّ، والحبّ هو الدين»(6). وعن أمير المؤمنين عليه‏السلام في أنّ الدين يقوم دعائمه على محبّة اللّه‏: «ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه‏ الذي اصطفاه لنفسه، واصطنعه على عينه، وأصفاه خيرة خلقه، وأقام دعائمه على محبّته»(7).

وكلّما كانت رابطة الحبّ أكثر قوّة، كانت هذه الجاذبيّة قويّة أكثر، فهذا الارتباط العاطفي هو يشدّ المؤمن إلى الصراط المستقيم، من خلال الأجواء العاطفيّة التي تشدّه بينه وبين ربّه، فشملته العناية الإلهيّة، والفيوضات الربّانية. فقد ورد عن الإمام الحسين عليه‏السلام في دعاء يوم عرفة قوله يناجي ربّه: «أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك، لقد خاب من رضى دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلاً، كيف يرجى سواك، وأنت ما قطعت الاحسان، وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدّلت عادة الامتنان…».

ويقول «هارون»: كلّ ما أقرأ من دعاء أو زيارة كنت أشعر بالتقرّب من اللّه‏ تعالى، وأحسّ بحقيقة العبادة وجوهرها وحقيقتها، التي تتجلّى في إقبال العبد المحتاج إلى المعبود الغني ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(1). وانظر إلى هذا الدعاء الوارد عن الإمام السجّاد عليه‏السلام المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي كيف يعدّد أنعم اللّه‏ تعالى لعباده: «سيّدي أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الضالّ الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته، والجايع الذي اشبعته، والعطشان الذي ارويته، والعاري الذي كسوته، والفقير الذي اغنيته، والضعيف الذي قوّيته، والذليل الذي اعززته، والسقيم الذي شفيته، والسائل الذي اعطيته، والمذنب الذي سترته، والخاطئ الذي اقلته، وأنا القليل الذي كثرته، والمستضعف الذي نصرته، وأنا الطريد الذي آويته…»(8).

وهذا الإقبال إلى اللّه‏ هو التعبير الحي عن الصلة بين الخالق والمخلوق، ومدّ للجسور بين المولى وعبده، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربّه تبارك وتعالى في جميع أموره، وهذه العلاقة التي تستدرّ الفيوضات والبركات الإلهيّة لتنثال على المؤمن وتغسل أدران نفسه.

تشرّفه بمذهب أهل البيت عليهم ‏السلام:

إنّ «هارون» عند دراسته للعلوم الدينيّة عند علماء السنّة، خاض دراسة حرّة حول عقائد الشيعة الإماميّة وآرائهم، حتّى امتلأ رصيده الفكري من معارف أهل البيت عليهم‏ السلام، ومن ثمّ بدأ بالمقايسة بين المذهبين، وبعد البحث والتفكّر والتحقيق عثر على الأجوبة الصحيحة للأسئلة المختلفة التي كانت تختلج في ذهنه، ممّا جعل رؤيته تنفتح على عالم آخر، واستضاف قلبه أحاسيس جديدة تدعوه إلى التحرّر من الانقياد الأعمى، وتشجّعه على الالتحاق بموكب السعادة والكمال، وتدفعه للخروج من ركب التيه والضلال فما كانت النتيجة إلاّ أن تشرّف باعتناق مذهب أهل البيت عليهم‏السلام الذين أذهب اللّه‏ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وجعلهم عدلاً للقرآن، وسفناً للنجاة، وأماناً لأهل الأرض، وأوجب طاعتهم وحبّهم ومودّتهم، وأعلن استبصاره عام ١٤٢٠ه (٢٠٠٠م) في مسقط رأسه مدينة (بولي).

____________

1- من لا يحضره الفقيه ٢: ٦٠٩، ح٣٢١٣.

2- بحار الأنوار ٨٤: ٣٣٩، ج١٩.

3- إقبال الأعمال ١: ١٥٧.

4- آل عمران ٣ : ٣١.

5- الأمالي للصدوق: ٩٢، ح٥ ٦٥.

6- المحاسن ١: ٢٦٢ – ٢٦٣، ح٣٢٧.

7- نهج البلاغة ٢: ١٧٤، خطبة ١٩٧.

8- فاطر ٣٥ : ١٥.

9- مصباح المتهجّد: ٥٨٢.