زينب كسالس

زينب كسالس (مسيحيّة / إسبانيا)

ولدت في “إسبانيا” بمدينة “برشلونة” ، ثمّ أرسلها أبوها إلى مدرسة الراهبات ولها ثلاث سنوات من العمر ، وبقيت مدّة خمسة عشر عاماً في هذه المدرسة ، ثمّ واصلت دراستها في جامعة برشلونة في كلّيّة الطّب وتخرّجت منها كطبيبة.

استبصارها:

تعرّفت “كسالس” في السنة الثانية من سنوات دراستها في كليّة الطبّ على مجموعة من الطلبة اللبنانيّين المسلمين ، فدفعها حبّ الاستطلاع إلى دراسة أفكار ومعتقدات هذه المجموعة.

وكان من بين هذه المجموعة شابٌّ مسلم يُدعى “محمّد عساف” ، وكان هذا الشابّ أكثر تحمّساً من بين أقرانه المسلمين لنشر الإسلام وتوعية الآخرين بالنسبة إلى العقائد الإسلاميّة ، وهذا ما دفع “كسالس” إلى كثرة اللقاء به والاستفسار منه عن الإسلام .

ومن هذا المنطلق بدأت رحلة “كسالس” نحو الإسلام ، ومن هنا تبلورت في ذهنيّتها رؤية عقائديّة غيّرت مرتكزاتها الفكريّة ، ودفعتها في نهاية المطاف إلى اعتناق الإسلام .

وفيما يلي تبيّن “كسالس” ـ في الحوار الذي أجرته مجلة نور الإسلام معها ـ كيفيّة استبصارها وما تودّ تبيينه للذين يرغبون في التعرّف على الظروف التي عاشتها خلال مراحل الاستبصار وما بعد ذلك :

س : مع اعتزازنا بالّلقاء مع أمثالك من الذين استجابوا لنداء الفطرة الإلهيّة ، وتحرّوا عن الحقّ واهتدوا إليه ، وتحمّلوا تبعاته المكلفة ، نودّ أوّلا أن تبيّني لنا ظروف بيئتك ونشأتك قبل اعتناقك للإسلام ؟

ج : يصعب على المرء أن يتحدّث عن مجتمع كان يشكّل هو جزءاً منه ; لأنّه سيفتقد إلى الموضوعيّة ، وإن كان هذا الكلام سيثير بعض الاستهجان ، أقصد الحديث عن المجتمع الغربي ، إنّ عقلي وروحي أصبحا الآن مشدودين للإسلام وللمجتمع الإسلامي ، ولكن جذوري ترتبط بنظم المجتمع الذي فيه نشأت ، وأرى أنّ أموراً كثيرة فيه ليست متعارضة مع الإسلام أو مع ما يدعو إليه الإسلام . ربّما لأنّ عائلتي ليست صورة كاملة عن المجتمع الغربي ، ولا هي نموذج لعائلة غربيّة كما يتبادر للأذهان ، أو ربّما لأنّ بعدي الآن عن هذه العائلة يجعلني أرى ايجابيّاتها ، فحتّى في اللحظة المصيريّة لتحوّلي إلى الإسلام ، ورغم موقف أهلي المضادّ ، كنت أشعر باحترامهم وحمايتهم لي.

س : كيف كانت طبيعة علاقتك الأسريّة؟

ج : أعتقد أنّه منذ ولادتنا أو ربّما قبل ذلك كنّا بالنسبة لأبي أهمّ شيء في الوجود ، لم يكن قاسياً ، بل على العكس كان محبّاً ومتفهّماً ، ولم يتّخذ أيّ موقف تجاهنا ارتجالا ، بل كان يفكّر دائماً بمستقبلنا ، وعندما أقول المستقبل لا أقصد فقط الناحية المعيشيّة الاقتصاديّة ، بل المستقبل لأشخاص بالغين واعين ممّا كان يسمح لنا باتّخاذ القرار بحرّيّة وبناء حياتنا ، لهذا ومع أنّني ذهبت إلى مدرسة للراهبات منذ الثالثة من عمري ، وأمضيت هناك خمسة عشر عاماً من حياتي ، فقد استطعت في لحظة معيّنة اتّخاذ القرار باعتناق الإسلام دون تدمير كلّ شيء ، ودون كره منّي لما أو لمن سبق من الأُمور والأشخاص الذين كانوا حولي وخاصّة والديَّ.

فمع أنّ هدفهما كان مختلفاً إلاّ أنّ تربيتهما وما علّماني إيّاه على استعمال عقلي وتهذيب طبعي خدمني كقاعدة وأساس لأتمكّن من سلوك الطريق الثابت والنهائي في حياتي ألا وهو طريق الإسلام والحمد للّه .

بدأت بالحديث عن عائلتي ولم أقل كيف هي … عائلتي من الطبقة المتوسّطة العليا، عشنا في أحسن شوارع (برشلونة) في بيت كبير نسبيّاً ، جدّتي كانت تعيش معنا ، لأنّ أبي كان ابنها الوحيد ، كانت هناك خادمة في المنزل وهذا ما جعل أمّي تتفرّغ لنا بالكامل.

س: أنت طبيبة متخرّجة من الجامعة .. ولكن كيف أمضيت سنواتك الدراسيّة في المدرسة؟

ج: قلت سابقاً: إني ذهبت إلى مدرسة الراهبات في سنّ الثلاث سنوات ، لقد أرسلنا أبي إلى تلك المدرسة بعد أن فكّر جيّداً ، وقارنها مع باقي المدارس، ورأى أنّها الأفضل. تلقّيت في هذه المدرسة تربية جيّدة من الناحية الثقافيّة والروحيّة ، تربية مدعومة بالحياة العائليّة، بحيث لم يكن هناك أيّ تضارب بين البيت والمدرسة ليجعلني أرتبك أو يدخلني الشكّ …

س: كيف يمكنك أن تضعينا في أجواء الظروف والدوافع التي حدت بك إلى اعتناق الإسلام ؟

ج: أعود إلى حياتي ، فلقد تركت المدرسة في سنّ 18 ، ودخلت لأدرس الطبّ في جامعة برشلونة ، وهو ما كنت أحبّه منذ صغري .. في السنة الثانية كان في الصف مجموعة من الطلاّب اللبنانيين يلفتون الانتباه بسلوكهم (الغريب) وطريقة تعاملهم فيما بينهم ، تعرّفت بطريقة الصدفة على أحدهم وهو (محمّد عسّاف) الذي أصبح زوجي ، ثمّ على مجموعة أخرى من اللبنانيّين. كانت المرّة الأولى التي أتكلّم فيها أو أتعرّف على مسلم . في البداية كنت خائفة أو مرتبكة من علاقتي مع هؤلاء الناس ; لأنّ ما كنت أعرفه وأسمعه عن المسلمين أمور تدعو للخوف منهم أو أنّهم أغبياء! فكنت أقطع إلى الرصيف الآخر إذا شاهدت شخصاً بملامح عربيّة ; لأنّ العربي كان عنوان الهمجيّة والسرقة أو الاعتداء مع كلّ ما تبع من عدم النظافة والجهل .. هذا ما كنت أسمع به.

فلقد تعلّمت في المدرسة أنّ (اللّه) هو اسم ربّ العرب ، وكانوا بالنسبة لي قوماً متخلّفين ، لهم عادات وتقاليد غريبة ، عدا عن وضع المرأة التي ترتدي الزيّ الأسود ، وهي محجور عليها في البيت ، تُباع وتُشترى، وليس لها رأي في أيّ شيء. بالفعل أنّها صورة قاتمة للإسلام . اللّه هو الذي هداني للإسلام وليس أنا.

س: ماذا كان ردود فعل عائلتك ومحيطك على التزامك بالإسلام وشريعته؟

ج: بالرغم من أنّ عائلتي في البداية انزعجت كثيراً لذلك ، وبالخصوص بالنسبة للحجاب ، حيث كان لي معهم نقاشات ومواقف كثيرة ، كنت دائماً مطمئنّة ، كنت الوحيدة التي تضع الحجاب في وسط الملايين ، وما شعرت لحظة أنّي متعبة أو مضغوط عليّ رغم المعاناة ،بل على العكس كنت أريد أن ينتبهوا أنّي مسلمة.

عائلتي لم تفهم هذا وكانوا يقولون لي (هنا لا أحد ينظر إلى الشعر ، ليس مهمّاً أن تضعي الحجاب) ، وكان جوابي بأنّي لا أضع الحجاب من أجل الناس، بل أضعه من أجلي أنا ، ومن أجل اللّه ، صعب عليهم أن يفهموا أنّ فتاة (متحضّرة) طالبة طبّ تتغيّر بهذا الشكل ، ومع ذلك كانوا يرونني سعيدة ، وكانوا يرون أنّ الإسلام حسّن من تصرّفاتي معهم ، وكذلك بالنسبة لدراستي وكلّ حياتي بشكل عام ، ومع ذلك لم يتركوني في أيّ لحظة بل ظلّوا يشعرونني بأنّي ابنتهم !

س: على ضوء تجربتك الخاصّة في التعرّف على الإسلام ، ما هو الأسلوب  الأفضل للدعوة في المجتمع الغربي؟

ج: كان لي الحظّ الكبير باللقاء مع الشخص ـ زوجي ـ الذي فهم ويفهم الإسلام بمفاهيمه ، وليس فقط كمجموعة قوانين ومسائل يجب الالتزام بها ، لأنّ هذه القوانين وحدها نادراً ما تجعل غير المسلم ينقاد إلى الإسلام ، لهذا فإنّ الفرق بين العقليّة الغربيّة وما رأيته في لبنان كبيراً جدّاً ، فالمفردات التي تقنع الشرقي قد لا تعني شيئاً للغربي .. فمن أجل الدعوة للإسلام في الغرب هناك ضرورة أن يتولّى الموضوع أشخاص يفهمون المجتمع الغربي، وهم إمّا أن يكونوا غربيّين أو أن يتحلّوا بعقليّة منفتحة تمكّنهم من مخاطبة الغربي ودعوته إلى الإسلام .

يجب على المسلم أن يعرف ما هو الإسلام أوّلا ، ثمّ يلتزم به ثمّ يدعوا إليه .. ولكن مع الأسف فإنّ كثيراً من تصرّفات المسلمين خاصّة في الغرب ، لا تساعد الغربي على فهم الإسلام أو تعطيه انطباعاً حسناً عنه.

وأقصد بذلك أنّ كثيراً من المسلمين عندهم الإسلام حدث أو وجه من وجوه حياتهم التي تعوّدوا عليها ، وفي سلوكهم وفكرهم هم بعيدون كلّ البعد عن الإسلام كأيّ إنسان غير مسلم. فمن الضروري أن ينسى الناس كثيراً من عاداتهم ، ويفتحوا عقولهم على واقع الإسلام ، فليس كلّ ما تعلّمناه من أهلنا صحيحاً ومقدّساً.

يجب أن نستخدم منطق السلوك والقدوة أكثر من اللسان ، فالذي يصرخ ليس هو الذي يربح ، من يربح هو المتجانس مع ذاته ويكون في سلام مع اللّه ..

س: كيف تنظرين إلى واقع المرأة المسلمة اليوم؟

ج: أمّا عن المرأة بصراحة لا أعرف كيف أصنّف المرأة المسلمة اليوم .. هناك فوارق كثيرة ، والنساء عندهنّ نقاط قوّة ونقاط ضعف ، كما عند الرجال من الناحية الاجتماعيّة والسلوكيّة ، المرأة المسلمة قبل سنوات كانت تنظر إلى المرأة الغربيّة بحسد محاولة تقليدها بكلّ شيء ، واليوم بدأت مجموعات كبيرة من النساء ترى أنّ قوّتها وكرامتها ومستقبلها بالإسلام وحده ، إنّها تدرس الإسلام; لتعرف حقوقها وواجباتها. بدأت تعرف أهميّتها كزوجة وأمّ ، وبدأت تعرف أهميّة ذلك في المجتمع ، وهي تبحث عن مكان لها في الجانب الروحي كما في الميدان الاجتماعي ، فالرجال والنساء يحتاجون للدعم والاحترام المتبادل ليتمكّن الجميع من تحقيق الهدف في المجتمع بنجاح وارتياح.

س: هل من كلمة أخيرة؟

ج: ما أبديته هو مراجعة مختصرة لمرحلة مهمّة من حياتي ، وآراء سريعة في هذا المجال ، فأنا مازلت أتدرّج في معرفتي للإسلام .

أطلب من اللّه العلّي القدير أن يستمرّ في إنارة قلبي كما أناره أوّل مرّة ، وأن يجعلني أحسّ بقربه ورفقته دائماً ، وأسأله أن يهدينا جميعاً ويقوّينا لنكون على الصراط المستقيم اليوم وفي عالم الخلود(1).

حديث زوجها عن تجربة استبصارها:

ذكر الدكتور “محمّد عسّاف” حول كيفيّة التقائه بالأخت زينب كسالس وكيفيّة تمكّنه من المساهمة في هدايتها إلى الصراط المستقيم :

بناءً لرغبة بعض الأخوة ، كتبت هذه التجربة لعلّها تضيف فكرة أو تقترح أساليب في آفاق العاملين وتدفعهم إلى الأمام .

أواخر عام 1977 قرّرتُ السفر إلى إسبانيا من أجل الدراسة والتخصّص في مجال الطبّ ، وأعترف أنّ ثقافتي الإسلاميّة في ذلك الوقت كانت سطحيّة تقتصر على معرفة الأحكام الضروريّة كالصوم والصلاة وبعض الأُمور الفقهيّة ، وهذا الحدّ من الثقافة ولو كان متدنّياً كان يعتبر في ذاك الوقت شيئاً مقبولا إلى حدّ ما على صعيد لبنان ، فقد تزامن مع بدايات الصحوة الإسلاميّة ، وأذكر حينها أنّ  وصيّة أبي لي قبيل السفر كانت قوله: “كن رجلا”! كما قيل لي: إحذر ففي الغرب كفر ونساء ، فأجبت بأنّي ذاهب رغم معرفتي بذلك ، ولدي الثقة بالنفس وروح التحدّي.

سافرت وأنا مصمّم على الصمود في مواجهة العادات الغربيّة من جهة ، وعلى الجدّ لتحصيل العلم الذي كنت أطمح إليه من جهة أخرى، ولا أنكر أنّ الدافع لذلك كان هو عنفوان الشباب والحماس أكثر من الاعتماد على عمق إسلامي في الفكر ، إذ إن التزامي وقرار السفر كانا قبل أن أتعمّق في ثقافتي الإسلاميّة كمعظم الطلاّب الذين عرفتهم حينذاك .

ولذلك وفي السنة الأولى ، وخلال تعلّمي اللغة الإسبانيّة بنيت مواقفي على قناعات تخلط مفاهيم الإسلام بالتربية الذاتيّة القائمة على القيم الإنسانية العامّة ، ممّا جعلني أقتنع وأردّد لنفسي وللآخرين بأنّي هنا في اسبانيا لهدف سام وليس للعبث والتلّهي ، أحترم بعض عادات هؤلاء القوم ، ولكنّي لن أدوس قدسيّة مفاهيمي الإنسانيّة في الأخلاق والفضيلة، حتّى كاد البعض هناك يعتبرني معّقداً.

وهذه كانت المواجهة الأهمّ ، فأنت جديد لا تفهم كلّ الأُمور في تلك البيئة المختلفة ، وتحتاج للآخرين لمساعدتك في كثير من المجالات، وهذا الأمر يساعد على فقدان السيطرة والتحكّم بمسار الكثير من الأُمور . مضت سنة كاملة في مواجهة الواقع الذي كنت في البدء أجهل تفاصيله ولا أملك كلّ وسائل القوّة في مواجهته ، فضلا عن عدم وجود أصدقاء مؤمنين ملتزمين يشدّون عضدي في البداية.

مواجهة التيّارات المضادّة:

تجربة غريبة مع مفاجآت في كلّ مجال شابتها أخطاء محدودة ناتجة عن قلة الخبرة وعن الوحدة في الغربة فضلا عن الجهل باللغة في البدايات ، ولو لم أكن أحمل في نفسي روح التحدّي تلك لرجعت في الشهور الأوائل، ولكنّي ثابرت ودخلت بعدها إلى كلّيّة الطبّ في جامعة برشلونة ، وبالحقيقة شكّلت سنوات الجامعة الفترة المريحة لي حيث عملت مع بعض الاخوة الآخرين على إنشاء تجمّع للطلبة المسلمين ، وأسّسنا فيما بعد مكتبة أهل البيت(عليهم السلام)بهدف المساعدة على التحصّن مع الآخرين وبهم من خطر الضياع.

ولقد كانت الخطوة هذه إيجابيّة ومصدر ثقافة إسلاميّة لنا ، ومورد تجربة عمليّة قد أغنت ولا شكّ فكري وقناعاتي ، وساعد المكان والمكتبة على الحديث والنقاش حول كيفيّة التعاطي مع الإسبان خصوصاً الإحراج الناتج عن مسألة رفض مصافحة النساء ، وإيجاد مصدر للّحوم الشرعيّة، أو بديل عنها.

وصادف أن تركت زيارة أخ كريم لنا ـ لعمل تجاري ـ الأثر الكبير على واقعنا ، ودفعته بالاتّجاه الأصحّ ، وساهمت في تثبّتنا. فأحيت زيارته على الصعيد الشخصي في نفسي روح المثابرة والمبادرة ، كما تعلّمت منه أموراً شرعيّة وفقهيّة وفكريّة كنت أجهلها.

لقد كانت بداية اللقاء بين الأخوة في المكتبة من أجل الصلاة وتلاوة القرآن الكريم والأدعية وخاصّة دعاء كميل ، ولإنشاء تجمّع للطلبة المسلمين في برشلونة حفاظاً على أنفسنا من الضياع ، ثمّ تطوّر الوضع فيما بعد ليغطّي نشاطات ثقافيّة ، ودعوة للإسلام بالوسائل المتاحة ، وفي هذه الفترة كانت لي “شعارات” بل عبارات أردّدها تعبيراً عن قناعات ورؤية شخصيّة لبعض الأُمور ، فكنت أردّد مثلا: إنّ علينا أن نكون شجعاناً بإظهار إسلامنا عند التعرّف على الاسباني ، ليشكّل ذلك صدمة أو فرصة للآخر ، ليسأل فنشرح له ما نعرف عن الإسلام ، أو يشكّل إعلاناً صريحاً منك يلزمك ويساعدك في آن على الالتزام ودون تردّد بما يمليه عليك دينك ، لأنّي كنت أعتبر عدم التصريح بالهويّة الإسلاميّة منذ البداية يجعلك تتجاوز بعض الحدود الشرعيّة، أو يحرمك من فرصة الحديث عن الإسلام ، أو يكون ذلك متأخراً ودون فاعلية إن حدث.

أسلوب الدعوة والتبليغ:

كنت أركزّ على مبدأ الصدمة الأولى التي تحدّد اتّجاه العلاقة مع الطرف الآخر، وجعل عنصر المباغتة للغربيّ الذي يحمل صورة مشوّهة عنك وعن دينك ، جعل هذا العنصر لصالحك ، فالآخر لا يعرفك ولا ينتظر منك أيّ شيء غير عادي بالنسبة إليه ، ولكن عندما يعلم بأنّك مسلم ، يدفعه الأمر ليتحوّل إلى مستفسر، وأنت إلى موضّح ومعرّف لمفاهيم الإسلام !

لقد مرّت سنوات الدراسة في الجامعة مليئة بالأحداث ، فهي الفترة التي تعرّفت فيها حقيقةً على عقليّة الإسبان ، وأيضاً على الطلاّب اللبنانيين والعرب الذين كانوا قد تأقلموا تماماً مع ذلك المجتمع من غير تفكّر أو تمايز.

وإنّ من المفارقات الغريبة أن أكون سابقاً من دعاة رفض التعاطي مع الإسبان، والزواج من بناتهم ، ثمّ أكون أوّل من تزوّج إسبانية تضع الحجاب وتسلم لربّ العالمين.

قصّة زواجي مع “كسالس”:

وقصّتي مع زوجتي الحاليّة أنّي قد تعرّفت عليها ضمن مجموعة من الطلاّب الذين تناولنا وإيّاهم الأحاديث العامّة، والاستفسارات عن عاداتنا وديننا، فيما أنا كنت أسهب في الشرح حول تاريخنا وجغرافيّتنا ، وحول مميّزات الإسلام الأساسيّة، ولقد كانت تصادفني مشكلة مهمّة ، فأنا لا أعرف ولا أهتمّ بكلّ المواضيع العاديّة التي كانت موضع حوار بينهم ، فلا أقرأ مجلاّتهم ، ولا أتابع تفاصيل الرياضة لأتحدّث عن كرة القدم أو غيرها ، ولذلك كنت أنتهز الفرصة عند أيّ سؤال للخوض في الحديث عن مجتمعنا وديننا، لدرجة أنّي في بعض الأحيان كنت مملاّ لا ألتفت إلى أن لا أحد يهمّه الموضوع مثلي!

ثمّ تكرّرت اللقاءات والنقاشات بيني وبينها بالذات ، وفي كلّ مرّة كانت المواضيع تتشعب حتّى عرفت أنّها مسيحيّة ملتزمة بمسيحيّتها ، فهي متخرّجة من مدرسة راهبات للبنات ، وهنا انحصر النقاش في الجانب الدينيّ الاعتقاديّ البحت ، ممّا ساعد على الاتفاق على أمور متعدّدة ومسلّمات كالإيمان باللّه والأنبياء والملائكة والآخرة والحساب وغير ذلك ، باستثناء موضوع التثليث حسب العقيدة المسيحيّة.

وأذكر أنّه عندما سنحت لي الفرصة المؤاتية لأخبرها بعدم جواز مصافحة الرجل للمرأة بعد أن كنت أتحاشى هذا الموقف، انطلق نقاش جديد عن علاقة الرجل بالمرأة، ونظرة الإسلام ورؤيته حول المرأة وعلاقتها بالرجل ، وهنا وفّقني اللّه تعالى فكانت حجّتي واضحة وعمليّة، ومفهومة للإنسان الغربيّ، وبلغته الاجتماعيّة.

بعد ذلك لاحظت أنّ تغييراً قد حدث ، وأنّ سهولة الموافقة على طرحي قد زادت حتّى ظننت أنّها لا تملك الحجج مثلي ، وأنّها تحاول تجنّب مناقشتي، أو أنّها تريد إرضائي بإظهار الموافقة ليس إلاّ ! ولكن على كلّ حال هذا الأمر جعل الحوار أكثر هدوءاً ، ولم أعد أحسّ بلهجتها المتعصّبة لدينها بعد أن كنت قد تجنّبت الحديث عن المفارقات بين الإسلام والمسيحيّة; لتجنّب إثارتها وتنفيرها.

وفي إحدى الأمسيات وبعد عودتنا من المكتبة العامّة حيث كنّا ندرس ، وعند باب منزلها وقفت فجأة ودون أيّ مقدّمة لتقول لي بكلّ جدّية : “أتعرف؟ إنّك جعلتي لا أنام الليل، وأنا أفكّر بمسألة التوحيد ، أظنّ أن ما قلته هو الحقّ، وأنّ اللّه واحد كما تقول، أعترف أنّ اللّه واحد ولا إله غيره ، ولكن بالنسبة لمحمّد لا أعتقد بأنّه نبيّ”.

وفي الحقيقة لقد سمعت كلماتها ، ورأيت ملامح وجهها ، وارتجاف صوتها فغمر قلبي الهدوء والفرح والدهشة في آن واحد فقلت لها : لا بأس يكفينا الآن إيمانك بأنّ اللّه واحد لا إله غيره ، أمّا عن محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فسنتحدّث لاحقاً.

ثمّ مرّت الأيّام والأسابيع ، وكنّا نتابع الموضوع ، ولكن لزيادة معلوماتها عن الإسلام ، فلم يعد حديثنا نقاشاً إنّما سرد معلومات وأحاديث ..

الصدمة الكبرى:

كل هذا وأنا ما زلت أظنّ أنّها تسايرني; لأنّي قويّ بقوّة الإسلام ، وليس لها قدرة على مناقشتي ! ربّما كانت تفكّر بأنّي مملّ وعنيد ، ولا مواضيع عندي غير الدين الإسلاميّ ، وتاريخ المنطقة ، وزاد تأكيد ظنّي بأنّها أخذت تسايرني عندما بدأت تلبس الثياب الطويلة رغم وجود الصيف، وجاءت الصدمة الكبيرة لي عندما أتت مرة إلى المكتبة حيث كنت أدرس; لتطلب منّي مرافقتها إلى البيت والسبب أنّها تريد وضع الحجاب ، ولا تريد أن تخرج بالحجاب لأوّل مرّة وحدها إلى الشارع ، يشهد اللّه أنّي لم أستطع فهم ما يجري ، فتاة اسبانية .. خرجنا وكنت أنا المرتبك وليست هي ، تصرّفت في الشارع ومع من كنّا نلتقي به في المكتبة وكأنّ كلّ شيء طبيعي ، وكأنّها كانت تضع الحجاب طول حياتها .. أمّا أنا فكنت أرى أن كلّ شيء ينظر إلينا ! ولكنّي تأكّدت أنّي كنت مخطئاً بالحكم عليها ، وعرفت أنّ اللّه قد هداها ، وأنّها أثبت منّي على الإسلام ، وعرفت منها أنّها في الفترة الأخيرة السابقة كانت تحفظ الأحكام ، وتتعلّم الصلاة من كتيبات كانت بحوزتها دون أن تخبرني!

كان الأمر بمثابة صدمة بالنسبة لي وللاخوان الذين لم يصدّق البعض أنّها كانت في الشارع بالحجاب .. فيما آخرون توقّعوا أن تخلعه خلال أيّام أو أسابيع .. ولكنّي كنت على يقين تام بأنّ ذلك ثابت فقد كنت عرفت شخصيّتها جيّداً.

هذا ما أصابني وأصاب الأخوة ، فكيف كان ذلك بالنسبة لأهلها؟

ردود فعل الأهل:

رجع الأهل بعد عطلة نهاية الأسبوع ليجدوا ابنتهم ترتدي الحجاب مع كلّ مظاهر المرأة المسلمة ، فقد كانوا يعلمون بارتدائها اللباس الطويل ، وبأنّها لا تأكل اللحوم ، أمّا أن تلبس الحجاب فهذا أمر له تبعاته الاجتماعيّة والعائليّة ، ولم يجدوا له مبرّرات أو تفسيرات ، ممّا أدار النقاشات بينهم بكلّ حدّة فأخذت الموقف المحايد ، ولم أدخل على خطّ التوتّر الدائر بينهم على أساس أنّ الموضوع يجب التفاهم عليه ضمن العائلة ، وبقيت أتجاهل هجومهم لإثارتي وأترك الردّ لها ، فهي ابنتهم بالنهاية برغم صداقتي معهم ، واتّخذ عدم تدخّلي المباشر ـ رغم تعمّد إقحامي ـ بعداً إيجابيّاً ممّا زاد من رباطة جأشها إلى أقصى الحدود ، ولم أعرف كيف استطاعت الصبر على ذلك لولا جوابها لي في إحدى المرّات ـ عندما كنت أوضّح لها استغرابي لطريقة اساءاتهم لها ـ حيث أجابتني بقولها: “ألست تقول أنّ اللّه يحاسب في الآخرة؟ وأنّ علينا أن نحترم أهلنا على أن لا يضلّونا؟”.

اطمأنّ بالي لحسن إدارتها للأمر مع أنّه حقّاً كان شيئاً صعباً بالنسبة لهم ، فهي ابنتهم ، ويخافون عليها بسبب ما وصلهم عن العرب من أنّهم يحتقرون المرأة ، ويقفلون عليها الأبواب ، وأنّها تباع وتشترى ، وبأنّ ذلك مقدّمة لتركهم إلى بلاد بعيد ومجتمع جاهل ومتخلّف!

والأمر الثاني هو أنّ أهلها أرسلوها إلى مدرسة راهبات للبنات لتتلقّى أفضل تربية مسيحيّة دينيّة ودنيويّة ، وها هم اليوم وقد تحوّلت ابنتهم إلى دين آخر لا يعرفون عنه شيئاً. أضف إلى ذلك نظرات الأقارب وأسئلتهم وموقف الأهل الضعيف أمامهم! فلو اقتصر أمر إسلامها على أن لا تأكل اللحم ، وأن تصوم وتصلّي ، لقبلوا ذلك منها ولو على مضض ، ولكن أن لا تصافح الأقارب باليد ، وأن ترتدي الحجاب ، ولا تحضر الولائم لوجود الخمرة ، فهذه أمور خطيرة وصعبة لا يمكن لهم أن يتحمّلوها.

لقد كان صراعاً صعباً ، إنّها ابنتهم ، وهذا “المسلم” لا يملكون أيّة تهمة ضدّه ، ولذا استمر الهجوم عليها وحدها ، فهي “البلهاء” التي لا تعرف ماذا تفعل ، وفي الوقت نفسه كانوا يرون أنها سعيدة وإيجابيّة وخلوقة معهم أكثر من ذي قبل ،وأنّها لم تتخلّ عنهم رغم الضغوطات مع أنّ الفرصة والحرّيّة متاحتان لها في ذلك في عرف مجتمعها وعاداته.

حاول والدها مرّة أن يحدّثني بكلّ جدّية عن الموضوع بطريقة “رجل لرجل” ، فبادرني بالقول إن كان هذا مقبولا بالنسبة لي ، وما كنت لأفعل لو كنت مكانه؟ فأكّدت له مفاجأتي الكبيرة بقرار ابنته ، وأنّي لست وصيّاً عليها لأن تضع أو تخلع الحجاب ، وأنّي لم أتوقّع من إسبانيّة في تلك الفترة أن تفعل ذلك ، وذكّرته بالشعارات والمبادئ عن الحرّيّة وحقوق الإنسان التي يرفعونها في مجتمعاتهم ، فارتاح لذلك ، ثمّ أضفت له بأنّه لو سألني عن رأيي بالحجاب ، لقلت بأنّي أفضّل ليس أن تلبس ابنته فقط الحجاب ، بل أن تفعل ذلك زوجته وكلّ نساء العالم; لأنّ في ذلك سلامة للمرأة ، وعافية للإنسانيّة.

بقيت الأُمور كذلك حتّى ذهب والدها إلى الكنيسة ليشكو أمره ، ويجد حلاّ عند راهب هناك طاعن في السن ، فقسى الراهب عليه وحمّله المسؤولية لغبائه ! ولكنّه عاد فاستشار راهب القرية الذي طمأنه “بأنّ ذلك أيضاً يوصل إلى الخلاص”.

وبعد عقد قراني عليها تمتّنت العلاقة معهم أكثر .. بل أصبحت حميمة يسودها الودّ والاحترام المتبادل . وبتّ أنا أشكر اللّه على هدايتها على يدي من جهة ، وأشكره لما وفّقني للصبر والمثابرة اللذين حافظت بهما على ديني وكرامتي، وعلى واقع إخوتي هناك ثمّ أسرتي المسلمة الجديدة(2) .

____________

1- عن مجلّة نور الإسلام : العددان (35 ـ 36) ، السنة الثالثة سنة 1413هـ .

2- مجلّة نور الإسلام ، العددان 45 و 46 ـ السنة الرابعة ـ شهر رمضان وشوّال 1414هـ .