نور اليقين يونس بدران

نور اليقين يونس بدران (سنّي / فلسطين)

ولد في إحدى القرى الواقعة في الجليل الأسفل في «فلسطين» ، ودرس في كلّيّة الشريعة في أُمّ الفحم ، وهو إمام لأحد المساجد في فلسطين المحتلّة .

من الأمور التي كان أعداء التشيّع وما زالوا يتّهمون الشيعة بها أنّهم يؤمنون بتحريف القرآن الكريم ، ولكنّ المنصفين وعند الرجوع إلى كلمات علماء الشيعة يجدون بطلان زعم هذا الادّعاء ، وهو ما حدث لنور اليقين يونس ، يقول «نور اليقين» : أمّا قولهم بأنَّ الشيعة يؤمنون بتحريف القرآن فهذا هو الباطل بعينه ، فإنَّ الشيعة يؤمنون بأنَّ القرآن الذي بين أيدينا وما بين الدفّتين هو الذي نزل على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)(1) .

جمع القرآن عند الشيعة :

إنَّ لجمع القرآن معنيين :

الأوّل : حفظه في الصدور بأجمعه .

ويعتقد الشيعة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حفظه قبل الجميع ، فكان (صلى الله عليه وآله) سيّد الحفّاظ وأوّل الجُمّاع ، كما كان يشجّع المسلمين على حفظ القرآن وتدارسه ، وكان يدفع كلّ مهاجر جديد إلى أحد الحفّاظ من الصحابة ليُعلّمه القرآن ; فقد روي عن عبادة بن الصامت أنّه قال : «كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل منّا يعلّمه القرآن»(2) .

وقد انتشرت قراءةُ القرآن في المجتمع الإسلامي ، وأخذ المسلمون بتلاوته وبقراءته والاستماع إليه ، حتى روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إني لأعرفُ أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار»(3) .

وكان ذلك رائجا بين الرجال والنساء .

الثاني : تدوينه بالكتابة على الورق .

يعتقد الشيعة بأن القرآن الكريم قد تمّ جمعه زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وهناك من يرى أن جمعه قد تمّ في عهد أبي بكر وعمر ، ويمكن الجمع بين الرأيين بـ : أنّ أصلَ الجمع تمّ في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمّا جمعه على شكل مصحف منتظم الأوراق ، فهو ممّا تمّ في عهد أبي بكر وعمر .

شبهتان حول الجمع في عهد أبي بكر وعمر :

الشبهة الأُولى : إنَّ بعض النصوص عن أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم تذكر وجود مصحف خاصّ لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يختلف عن المصحف الموجود المتداول بين المسلمين في الوقت الحاضر ، ويشتمل هذا المصحف على زيادات ومواضيع ليست موجودة في المصحف المعروف .

وتتحدّث هذه النصوص عن مجيء علي بن أبي طالب (عليه السلام) بهذا المصحف إلى أبي بكر عندما صار خليفة ، لكي يأخذ المصحف المذكور مكانه من التنفيذ بين المسلمين ، إلا أنَّ أبا بكر لم يقبل ذلك ورفض هذا المصحف .

ولمّا كان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أفضل الصحابة علماً وديناً ، والتزاماً بالإسلام ، وحفاظاً عليه ، فمن الواضح حينئذ أن يكون المصحف الموجود فعلاً قد دخل عليه التحريف والنقصان ، نتيجةً للطريقة الخاطئة التي اتُّبعتْ في جمعه .

ولإيضاح هذه الشبهة يورد أنصارها بعض النصوص التأريخية ، منها :

١ ـ صحيحة جابر : عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أنّه جَمَعَ القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من بعده (عليهم السلام)»(4) .

٢ ـ عن جابر : عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»(5) .

٣ ـ قال عليّ (عليه السلام) : «يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها الله جلّ وعلا على محمّد عندي بإملاء رسول الله وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلها الله على محمّد ، وكلّ حرام وحلال ، أو حدّ أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، حتى أرش الخدش»(6) .

٤ ـ النص الذي يتحدّث عن احتجاج الإمام علي (عليه السلام) على الزنديق ، والذي جاء فيه : أنّه أتى بالكتاب على الملأ مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلم يقبلوا منه(7) .

وقد ناقشت الشيعة هذه الشبهة من خلال مجموعة من النقاط :

١ ـ إنّه قد يفترض وجود مصحف لأمير المؤمنين (عليه السلام) يختلف مع المصحف الموجود فعلاً من حيث الترتيب ، بل قد يختلف عنه أيضاً لوجود إضافات أُخرى فيه .

ولكنّ الكلام في حقيقة هذه الزيادة : إذ لا دليل على أنّها زيادات قرآنية ، وإنّما يمكن تفسير هذه الزيادات على أنّها تأويلات للنصّ القرآني ، بمعنى ما يؤول إليه الشيء ، أو أنّها تنزيلات من الوحي الإلهي نزلت على صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تفسير وشرح القرآن وعلّمها أخاهُ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) .

٢ ـ إنّ كلمتا التأويل والتنزيل لا تعنيان في ذلك الوقت ما يراد منهما في اصطلاح علماء القرآن ; إذ يُقصد من التأويل : حملُ اللفظ القرآني على غير ظاهره ، والتنزيل : خصوصُ النص القرآني ، وإنّما يرادُ منهما المعنى اللغوي ، الذي هو في الكلمة الأُولى : ما يؤول إليه الشيء ومصداقه الخارجي .

وفي الثانية : ما أنزله الله وحياً على نبيّه ، سواءً كان قرآناً أو شيئاً آخر .

وعلى أساس هذا التفسير العام للموقف تتّضح كثيرٌ من الجوانب الأُخرى ، ويمكن أن تُحمل الروايات التي أشارت لها الشبهة على معنى ينسجم مع هذا الموقف أيضاً .

٣ ـ إنّ بعض هذه الروايات ضعيفة السند ، لا يصحّ الاحتجاج بها أو الاعتماد عليها في مقابل ثبوت النصّ القرآني .

الشبهة الثانية : إنّ الروايات الواردة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) دلّتْ على وقوع التحريف في القرآن الكريم ، الأمرُ الذي يجعلنا نعتقد أنّ ذلك كان نتيجةً للطريقة التي تمّ بها جمع القرآن الكريم ، أو لأسباب طارئة أُخرى أدّت إلى هذا التحريف .

وقد ناقشت الشيعة هذه الشبهة بأنّ الموقف اتّجاه هذه الروايات المتعدّدة يتّخذ أُسلوبين رئيسين :

الأوّل : مناقشة أسانيد وطرق هذه الروايات ; فإنّ الكثير منها ضعيفةُ السند .

الثاني : مناقشة دلالتها على وقوع التحريف في القرآن بمعنى وقوع الزيادة أو النقيصة ، ومن ثمّ لا يمكن الاستدلال بها حتى لو تمّ سندُ بعضها أو التزاماً بالاطمئنان بصدور بعضها إجمالاً فيه .

ولأجل اتّضاح هذا الأسلوب من المناقشة ، يجدر بنا أن نُقسّم هذه النصوص إلى أقسام أربعة ; تبعاً لاختلافها في المضمون وما تطرحه من دعاوى وأحكام .

القسم الأوّل :

النصوص التي جاء التصريح فيها بوقوع التحريف في القرآن الكريم عن طريق استعمال كلمة (التحريف) فيها ووصف القرآن بها ، ومن هذه النصوص الروايات التالية :

١ ـ عن أبي ذر رحمة الله عليه قال : لمّا نزلتْ هذه الآية : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ(8) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «يردُ علَيّ أُمّتي يوم القيامة على خمس رايات : فراية مع عجل هذه الأُمّة ، فأسألهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ، وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه . فأقول : رِدوا النارَ ظمّاء مظمئين مسودّة وجوهكم .

ثمّ يرد علَيّ راية مع فرعون هذه الأُمّة ، فأقول لهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه ، وأمّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه . فأقول : رِدوا النار ظمّاء مظمئين مسودّة وجوهكم .

ثمّ ترد علَيّ راية مع سامري هذه الأُمّة ، فأقول لهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فعصيناه وتركناه ، وأمّا الأصغر فخذلناه وضيّعناه وصنعنا به كل قبيح . فأقول : رِدوا النار ظمّاء مظمئين مسودّة وجوهكم .

ثمّ ترد علَيّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج وآخرهم فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر ففرّقناه وبرئنا منه ، وأمّا الأصغر فقاتلناه وقتلناه . فأقول : رِدوا النار ظمّاء مظمئين مسودّة وجوهكم .

ثمّ ترد علَيّ راية مع إمام المتّقين وسيّد الوصيين وقائد الغرّ المحجّلين ووصي رسول رب العالمين ، فأقول لهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فاتّبعناه وأطعناه ، وأمّا الأصغر فأحببناه وواليناه ووازرناه ونصرناه حتى أُهرقت فيهم دماؤنا . فأقول : رِدوا الجنة رواء مرويّين مبيضّة وجوهكم . ثمّ تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(9)»(10) .

٢ ـ عن علي بن سويد ، قال : كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في الحبس كتاباً . . . إلى أن ذكر جوابه (عليه السلام) بتمامه ، وفيه قوله (عليه السلام) : «اؤتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه»(11) .

٣ ـ عن جابر ، قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : «دعا رسول الله أصحابه بمنى قال : يا أيها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين ، أمّا إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا علَيّ الحوض ، ثمّ قال : أيها الناس ! إنّي تارك فيكم حرمات الله : كتاب الله ، وعترتي ، والكعبة البيت الحرام» ، ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام) : أمّا كتاب الله فحرّفوا ، وأمّا الكعبة فهدموا ، وأمّا العترة فقتلوا ، وكل ودائع الله فقد تبّروا»(12) .

ولا دلالة في هذه الروايات جميعها على وقوع التحريف في القرآن الكريم بمعنى الزيادة والنقيصة ، وإنّما تدلّ على وقوع التحريف فيه بمعنى : حمل بعض ألفاظه على غير معانيها المقصودة لله سبحانه ، ومن ثمّ تحريفها عن أهدافها ومقاصدها .

عدم تحريف القرآن عند الشيعة :

تعتقد الشيعة أنّ (القرآن) هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(13) ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزتْ البشرَ عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة ، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية ، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا نتوله هو القرآن نفسه المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله) ، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه ، وكلّهم على غير هدى ; فإنّه كلام الله الذي : ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد(14)(15) .

وأمّا دعوى التحريف عند الشيعة فإنّها دعوى باطلة ، أُجيب عنها من قبل علماءِ الشيعة مرّات عديدة ، وهم يكرّرونَ القول بأنّ عقيدتنا في القرآن المنزل من الله تعالى على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه القرآن نفسه الموجود لدى المسلمين حالياً دون زيادة أو نقيصة(16) .

الحالات المتصوّرة للتحريف :

القرآن الكريم أصبح معروفاً ومتداولاً بشكل واسع ، ومدوّناً بشكل مضبوط ـ بدون نقط ، وبدون حركات الإعراب ـ في عهد الخليفة عثمان ; إذ كُتبت مجموعة من نسخ المصحف الشريف ، وأُرسلت إلى الآفاق الإسلامية بشكل رسميّ من أجل العمل بها وتداولها وصدرت الأوامر الواضحة والمشدّدة بالمنع من تداول أيّ نسخة أُخرى غير هذه النسخ .

ولابُدّ لنا من أجل إيضاح سلامة النصّ القرآني من التحريف أن نذكُرَ الحالات التي يمكن أن نفترض وقوع التحريف فيها ، مع مناقشة كل واحدة منها :

الحالة الأولى : أن يكون التحريف حدثَ في عهد أبي بكر وعمر وهما متعمّدان للتحريف .

الحالة الثانية : أن يكون التحريف حدث في عهد أبي بكر وعمر من دون قصد حذف شيء من القرآن ، بسبب نسيان بعض الآيات ، أو لأنّها لم تصل إليهم .

الحالة الثالثة : أن يقع التحريف في عهد عثمان .

الحالة الرابعة : أن التحريف وقع في زمن الأُمويين .

الحالة الخامسة : أن التحريف وقع من عامّة الناس .

مناقشة الحالات المفترضة للتحريف :

الحالة الأُولى : هي فرضية غير مقبولة إطلاقاً ، لأنّ دراسة عهد أبي بكر وعمر والظروف المحيطة بهما تجعلنا ننتهي إلى هذا الحكم وردّ هذه الفرضية ; ذلك لأنّ التحريف المتعمّد يمكن أن يكون لأحد السببين التاليين :

أوّلاً : أن يكون بسبب رغبة شخصيّة في التحريف .

ثانياً : أن يكون بدافع تحقيق أهداف سياسية ، كأن يفترض وجود آيات قرآنية تنصّ على موضوعات ومفاهيم خاصّة تتنافى مع وجودهما أو متبنياتهما السياسية ، مثل النصّ على إمامة علي (عليه السلام) أو الطعن بهما .

أمّا بالنسبة إلى السبب الأوّل ، فنلاحظ عدّة أُمور :

١ ـ إنّ قيام أبي بكر وعمر بذلك يعني في الحقيقة نسف القاعدة التي يقوم عليها الحكم حينذاك ، فهو قائم على أساس الخلافة لرسول الله والقيمومة على الأُمّة الإسلامية ، وليس من المعقول أن يقدما على تحريف القرآن ، ويعملا على معاداة الإسلام دون تحقيق أي مكسب ديني أو دنيوي ، وهل يعني ذلك إلاّ فتح الطريق أمام أعداء الإسلام للطعن في هذا الدين ؟ !

٢ ـ إنّ الأُمّة الإسلامية كانت تشكّل حينذاك ضمانة اجتماعية وسياسية قوية تمنع قيام أي أحد من الناس ، مهما كان يملك من قدرة وقوّة ، بمثل هذه العمل المضادّ للإسلام دون أن يكون لهذا العمل ردّ فعل قويّ في صفوفها ; لأنّ المسلمين كانوا ينظرون إلى القرآن الكريم على أنّه شيء مقدّس غاية التقديس ، وأنّه كلام الله سبحانه الذي لا يقبل أيّ تغيير أو تبديل حتى من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه ، كما أكّد ذلك قوله تعالى : ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم(17) .

كما أنّهم ناضلوا وجاهدوا في سبيل مفاهيم القرآن وآياته وأحكامه التي كانت تعايش حركتهم لمدة ثلاثة وعشرين عاماً ، وضحّوا بأنفسهم من أجل هذا الدين الجديد ، الذي كان يشكّل التصرّف في القرآن ـ في نظرهم ـ خروجاً عنه وارتداداً عن الالتزام به .

٣ ـ إنّ الحكم في عهد أبي بكر وعمر لم يسلم من وجود المعارضة التي كانت ترفع أصواتها بين الحين والآخر من أجل خطأ يقع فيه الخليفة في تطبيق بعض الأحكام ، ومع هذا لا نجد في التأريخ أية إشارة إلى الاحتجاج ، أو الاعتراض على شيء يشير إلى وقوع هذه الفرضية ، فكيف يمكن أن تسكت المعارضة في كلامها وأقوالها زمن أبي بكر وعمر ، أو بعدهم ، عن كلّ ذلك ؟ ! ومن هنا يتّضح الموقف من السبب الثاني :

فأوّلاً : إنّ وعي الأُمّة ونظرتها المقدّسة للكتاب وصلته بالله بشكل لا يقبل التغيير والتبديل ، لا يسمح بوقوع مثل هذا العمل مطلقاً .

ثانياً : إنّ المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمرّ دون أن تعلن عنها في صراعها مع الخليفة ، مع أننا لا نجد إشارة إلى ذلك في كلامهم .

ثالثاً : إنّ هناك نصوصاً تاريخية واسعة تضمّنت ملاحظات عن تصرّفات أبي بكر وعمر ، مثل المحاججة التي احتجت بها الزهراء (عليها السلام) ومن بعدها احتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام) والصحابة المؤمنون بإمامته ، لم تتناول أيّ نصّ قرآني غير مدوّن في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا ، ولو كان مثل هذا النصّ موجوداً في القرآن لكان من الطبيعي أن يستعملوه أداة لإظهار الحقّ الذي ناضلوا من أجله .

الحالة الثانية : ويمكن أن تناقش من خلال توفّر عوامل عديدة لوجود القرآن الكريم بأكمله لدى جماعة كبيرة من المسلمين ، وهذا يشكّل ضمانة حقيقية لوصول القرآن الكريم بكامله إلى الدولة في عهد أبي بكر وعمر دون نقيصة ، وهذه العوامل يمكن أن نلخّصها بالأسباب التالية :

١ ـ إنّ القرآن الكريم كان يشكّل بالنسبة إلى المسلمين حجر الزاوية الرئيسة في ثقافتهم وأفكارهم وعقيدتهم ، وقد تعرّفنا على ذلك في النقطة الأُولى من طبيعة الأشياء التي سقناها لإبراز مدى عناية المسلمين بالقرآن .

٢ ـ إنّ القرآن الكريم يُعدّ من أروع النصوص الأدبيه وأبلغها تعبيراً ومضموناً ، وقد كان العرب ذوي عناية بالغة بهذه النصوص ; لأنّها تكوّن ثقافتهم الخاصّة سواء في الناحية التعبيرية أو في الناحية الفكرية والاجتماعية ، ونجد آثار هذه العناية في حياتهم الخاصّة والعامّة ، فيحفظون الشعر العربي والنصوص الأدبية الأُخرى ويستظهرونها ، ويعقدون الندوات والأسواق للمباراة والتنافس في هذه المجالات ، وقد يصل بهم الاهتمام إلى درجة الاحتفاظ ببعض النصوص في أماكن مقدّسة تعبيراً عن التقدير والإعجاب بهذا النصّ ، كما يُذكر ذلك بالنسبة إلى المعلّقات السبع أو العشر في الكعبة الشريفة وقد دفعت هذه العادة الشائعة بين العرب المسلمين ـ حينذاك ـ كثيراً منهم إلى حفظ القرآن الكريم واستظهاره .

٣ ـ لقد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) رائداً للأُمّة الإسلامية وموجّهاً لها ، يحرّض المسلمين ويحثّهم على حفظ القرآن واستظهاره ونحن نعرف ما كان يتمتّع به النبي (صلى الله عليه وآله) من حبّ عظيم في نفوس كثير من المسلمين ، وما كان يملكه من قدرة على التأثير في حياتهم وسلوكهم ، الأمر الذي كان يدفع المسلمين إلى الاستجابة له في كثير من التوجيهات .

٤ ـ إن القرآن الكريم ـ على أساس ما يحتويه من ثقافة ـ كان يعطي الجامع له امتيازاً اجتماعياً بين الناس ، يشبه الامتياز الذي يحصل عليه العلماء من الناس في عصرنا الحاضر . وتعتبر هذه الميزة الاجتماعية إحدى العوامل المهمّة لتدارس العلوم وتحصيلها في جميع العصور الإنسانية ، فمن الطبيعي أن تكون إحدى العناصر المؤثّرة في استظهار القرآن الكريم وحفظه .

وقد حدّثنا التأريخ عن الدور الذي كان يتمتّع به القرّاء في المجتمع الإسلامي بشكل عام ، وعن القداسة التي كان ينظر إليهم بها المسلمون .

٥ ـ طبيعة الأشياء تفرض أن يكون القرآن الكريم قد دوّن ، وكتبه كلّ مسلم عنده القدرة على التدوين والكتابة ; لأنّ أيّ جماعة أو أُمّة تهتم بشيء وترى فيه معبّراً عن جانب كبير من جوانب حياتها فهي تعمل على حفظه بوسائل شتّى ، ولا شكّ أن الكتابة ـ عند من يُتقنها ـ من أيسر هذه الوسائل وأسهلها .

ولذلك نجد بعض النصوص تشير إلى وجود عدد من المصاحف أو قطعات مختلفة منه عند كثير من الصحابة .

ولابدّ لنا أن ننتهي إلى أن القرآن الكريم بسبب هذه العوامل كان موجوداً في متناول الصحابة ، ولم يكن من المعقول فرض التحريف نتيجة الغفلة أو الاشتباه أو عدم وصول بعض الآيات القرآنية .

٦ ـ الثواب الجزيل الذي وضعه الله سبحانه لقرّاء القرآن وحفظته ، ورغبة كثير من المسلمين حينذاك في الاستزادة من هذا الثواب ، خصوصاً أنّهم كانوا جديدي عهد بالإسلام ، فهم يحاولون أن ينعكس الإسلام على جميع تصرّفاتهم .

وقد كان لبعض هذه العوامل أو جميعها تأثير بالغ الأهمية في حياة المسلمين ; فقد حدّثنا تاريخ المسلمين عن وجود جماعات كثيرة منهم عُرفوا بالقرّاء من ذوي العقيدة الصلدة ، كان لهم دورهم في الحياة الاجتماعية ، وميزتهم في ترجيح جانب على آخر عند الخلافات السياسية التي عاشها المسلمون .

ب ـ إنّ أصل عملية الجمع والتدوين تمّت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وحينئذ فإنّ القرآن الذي تمّ جمعه في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يكون إلاّ دقيقاً ومتقناً ; لرعاية الرسول لجمعه ، ومع وجود هذا القرآن لا مجال لأن نتصوّر وقوع الغفلة أو الاشتباه من أبي بكر وعمر أو من غيرهما ، كما لا يمكن أن نحتمل عدم وصول بعض الآيات إليهم .

الحالة الثالثة : وهي تبدو بعيدة ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلاً : إنّ عثمان لو كان قد حرّف القرآن الكريم لاتّخذ المسلمون ذلك أفضل وسيلة لتبرير الثورة عليه وإقصائه عن الحكم أو قتله ، مع أنّنا لا نجد في مبرّرات الثورة على عثمان شيئاً من هذا القبيل .

ثانياً : إن الإسلام ـ والى جنبه القرآن الكريم ـ قد أصبح منتشراً بشكل كبير بين الناس وفي آفاق مختلفة ، وقد مرّ على المسلمين زمن كبير يتداولونه أو يتدارسونه ، فلم يكن في ميسور عثمان ـ لو أراد أن يفعل ذلك ـ أن ينقص منه شيئاً ، بل ولم يكن ذلك في ميسور من هو أعظم شأناً من عثمان ، وقد اعترض المسلمون بالفعل على عثمان وقتلوه لأسباب مختلفة ليس منها تحريف القرآن .

ثالثاً : إنّ عثمان لو كان قد ارتكب مثل هذا العمل لكان موقف الإمام عليّ (عليه السلام)اتّجاهه واضحاً ، ولأصرّ على إرجاع الحقّ إلى نصابه في هذا الشأن ، فنحن حين نجد الإمام عليّاً (عليه السلام) يأبى إلاّ أن يرجع الأموال التي أعطاها عثمان إلى بعض أقربائه وخاصّته ويقول بشأن ذلك : «وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَق»(18) .

وكذلك نجد منه الموقف نفسه الحازم مع ولاة عثمان المنحرفين ، فلابُدّ أن نجزم باستحالة سكوته عن مثل هذا الأمر العظيم على فرض وقوعه .

رابعاً : إنّ النقص إمّا أن يكون في آيات لا مساس فيها بخلافة عثمان ، وحينئذ فلا يوجد أيّ داع لعثمان أن يفتح ثغرة كبيرة في كيانه السياسي ، وإمّا أن يكون في آيات تمسّ خلافة عثمان وإمامته السياسية ، فقد كان من المفروض أن تؤثّر مثل هذه الآيات في خلافة عثمان نفسه ، فتقطع ـ من أوّل الأمر ـ الطريق عليه في الوصول إلى الخلافة .

الحالة الرابعة : أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي أو غيره من الولاة لا يمكن أن نتصوّر فيهم القدرة على تحريف القرآن الكريم بعد أن عمّ شرق الأرض وغربها .

كما لا نجد المبرّر الذي يدعو الحجّاج أو الأُمويين إلى مثل هذا العمل الذي يحمل في طياته الخطر العظيم على مصالحهم ويقضي على آمالهم .

اعتناق المذهب الشيعي :

بعد أن اتّضحت لنور اليقين نظرية الشيعة في عدة مواضيع ، ومنها عدم تحريف القرآن الكريم ، اختار المذهب الشيعي واعتنقه سنة ١٤٢٧ هـ (١٩٩٨م) .

____________

1- ذكر المستبصر أدلّة اعتناقه لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في مقابلة حصريّة مع صحيفة «صوت البلد» .

2- الإصابة ١ : ٤٦ .

3- صحيح البخاري ٥ : ٨٠ ـ ٨١ ، صحيح مسلم ٧ : ١٧١ .

4- الكافي ١ : ٢٢٨ .

5- الكافي ١ : ٢٢٨ .

6- الاحتجاج ١ : ٢٢٣ .

7- الاحتجاج ١ : ٣٨٣ .

8- آل عمران -٣- : ١٠٦ .

9- آل عمران -٣- : ١٠٦ ـ ١٠٧ .

10- تفسير القمي ١ : ١٠٩ ـ ١١٠ .

11- الكافي ٨ : ١٢٤ .

12- بصائر الدرجات : ٤٣٣ ـ ٤٣٤ .

13- النحل -١٦- : ٨٩ .

14- فصلت -٤١- : ٤٢ .

15- مقتبس من كلام المظفر في عقائد الإمامية : ٥٩ .

16- راجع : الاستفتاءات للسيد السيستاني : ١٣١ .

17- يونس -١٠- : ١٥ .

18- نهج البلاغة ١ : ٤٦ ، الخطبة : ١٥ .