نيكانور كبكو

نيكانور كبكو (علي) (مسيحي / الفلبّين)

من مواليد الفلبّين، واصل دراسته الأكاديمية حتّى تخرّج من معهد التكنولوجيا الكهربائية، نشأ في أسرة تعتنق الديانة المسيحية، بعد زمن من البحث والتحقيق في المجال الاعتقادي قرّر ترك التقليد الأعمى لموروث الآباء والأجداد، واعتنق الدين الإسلامي ومذهب أهل البيت(عليهم السلام)(1).

اهتمام المستبصرين بالبحوث العقائدية:

غالباً ما تكون عقليّة الشخص الذي يوفّق للاستبصار عقليّة علميّة تحاول باستمرار أن تقف وقفة التأمّل والتمحيص عند مرتكزاتها الفكريّة وأُصولها العقائديّة، لتستبدل أفكارها الخاطئة بالأفكار الصحيحة، وتحفّز عقلها على الانعتاق من دوائر التبعيّة والتقليد الأعمى، لتستطيع عبر البحث المبني على القواعد العلميّة الرصينة أنْ تكوّن لنفسها عقيدة صادقة وأُصول ومبادىء سليمة.

فإنَّ عقليّة هكذا شخص تدرك بوضوح أهميّة البحث في المجال العقائدي، وتدرك ما للعقيدة من صلة وثيقة بنشاط الإنسان الحيوي والعملي، وتعي أثر المعتقد على الإنسان نفسياً واجتماعياً وفكرياً.

وبهذه العقليّة يدرك هكذا شخص أنّه ينبغي أن يقوم بدراسة دقيقة لأفكاره وموروثاته العقائديّة، ولا يصلح له أن يتغافل عنها أو يغضّ الطرف دونها، لئلاّ يسير على المسار الخاطىء وهو لا يشعر، ولئلاّ يستطيع الانتهازيون صرفه عن الحقّ وهو جاهل، ولئلاّ يتعلّق بأذيال فهم خاطىء، أو يقع في شباك فرقة ضالّة، ولئلاّ يكون «إمّعة» في تصديق الأفكار والمعتقدات التي تُعرض عليه.

فلهذا لا يكون هكذا شخص من الذين يقفون من أمر عقائدهم موقف اللامبالاة، أو من الذين يكون موقفهم موقف من لا يعنيه شيء من أمر عقيدته، أو يقومون بإغلاق عقولهم عن التفكير في هذا المجال.

بل يقوم بغربلة معتقداته ليطرح أفكاره الرديئة ويستبدلها بالأفكار والرؤى السامية، ويخوض رحلة فكريّة بحثاً عن الحقيقة، فيحكّم عقله ويقوم بتمحيص الحقّ ليعرفه من بين ركام الباطل.

ونجد في أقلام المستبصرين الإشارة إلى اهتمامهم بهذا الأمر ودعوتهم الآخرين إلى البحث في المجال العقائدي، يقول طارق زين العابدين:

«إنّ الدين الإسلامي لمّا كان هو نظام الحياة الذي يجب أن يؤسّس كلّ مؤمن حياته عليه ويبني عليه مصيره، كان لابدّ أن يقوم اعتقاد كهذا على أساس يبعث اليقين والطمأنينة.

ولا يصحّ أن تُنال المصائر بالظنون والتوهّم، أو تنال بالتقليد الأعمى الذي لا يعرف صاحبه الدليل والحجّة غير ما كان عليه آباؤه الأوّلون، فإذا سُئل: لماذا أنت مسلم؟ فإنّه لا يجيب إلا بالصمت والحيرة.

وإذا قيل له: لماذا أنت شيعى أو سنّي أو مالكي أو…؟ تراه يخطرف في الإجابة.

كل ذلك لأنّه لم يفكّر في اعتقاده ومصيره من قبل بحرّيّة، بل قام كلّ ما عنده من اعتقاد على التقليد الأبوي والاجتماعي، فصار على هذا مسلماً، شيعيّاً أو سنّيا(2).

ويقول هذا المستبصر في مكان آخر من كتابه فى مجال أهميّة التوجّه إلى البحوث العقائديّة:

«إنّ الحياة الدنيا ليست مجالاً لاكتساب أعمال قد أُحيطت بالظنون وطُوّقت بالأوهام; إذ أنّها حياة ـ وهي تؤدّي إلى مصير كهذا قطعاً ـ لا تحتمل ذلك، لمحدوديّتها وقصرها، فلابدّ إذاً أن يكون كلّ فعل يُكتسب فيها مؤسّساً على اليقين والحقّ، والفعل الذي يبعث الاطمئنان على النتائج، فتأسيس هذه الحياة على الظن والأوهام لا ينتهي إلا إلى هذين»(3).

ثم يضيف قائلاً:

«الحصول على هذا اليقين أوْلى ما يكون في العقيدة; إذ أنّها أصل لكلّ فرع، وفساده في فسادها، الذي هو موجبٌ لكلّ فساد لا محالة، إذ العقيدة هي التي نَعنيها بالتحقيق والتصحيح حتى تبدو وقد تأسّست على الحقيقة واليقين، فلابدّ إذاً من التحقّق من سلامتها بالفحص وإعادة النظر، وتقليب البصر وإعمال الفكر والتدبّر في أحوالها»(4).

ويقول ياسين المعيوف البدراني في هذا الخصوص:

«إنّه من واجب الإنسان الواعي أن يجعل الفكر والتبصّر والتأمّل رائداً له في سلوك الطريق الذي يوصل إلى الحقّ سبحانه وتعالى آخذاً بالعقائد الصحيحة وتاركاً النزعات القبلية والعنصريّة والقوميّة التي لا تولّد عنده إلاّ القلق الدائم، والخوف المستمر، وعدم الاستقرار النفسي»(5).

ويضيف هذا المستبصر قائلاً:

«يا إخوتي! في مثل هذه الحالة العقيمة المرّة التي نعيشها وسط مذاهب متعدّدة وطرق إسلاميّة شتى، لمَ لا نحاول البحث عن المذهب الحقيقي كي نتمسّك به؟ ولماذا نأخذ الإسلامَ من موقع واحد؟ بينما هناك طرق ومشارب عديدة والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(6).

وعلى هذا فمن واجب المسلم أن يدرس، وأن يتأمّل المذاهب المطروحة في الساحة الإسلاميّة، وأن يعتمد على عقله وتفكيره، وعلى عوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه، وعند الاختلاف فإنّ الحق بيّن واضح لا يتعدّد، ولا يأخذ مظاهراً وصوراً وأشكالاً شتّى، خلافاً لما يرى ويقول المصوّبة المغرضون»(7).

دوافع اهتمام المستبصرين بالبحوث العقائدية:

إنّ الشخص الذي يوفّق للاستبصار يكون دأبه التطلّع نحو المعرفة المُبتنية على الأدلّة الرصينة والبراهين السديدة، وديدنه السير في طريق البحث من أجل الوصول إلى الحقيقة.

وحركة البحث من أجل فهم الواقع لا تتقدّم إلاّ عبر وجود ما يحفّزها، ومن جملة الدوافع الكثيرة التي تستثير همّة الإنسان للبحث العقائدي، هي الحقيقة، كما يمكن الإشارة إلى الأُمور التالية:

١ ـ حبّ المعرفة والاستطلاع، والشعور بالرغبة في تلمّس الحقيقة، وتوسيع دائرة الوعي، والنهوض بالمستوى العلمي، والاستزادة من معرفة الحقّ، والوقوف على كنهه وحقيقته.

وهذا هو السبب الذي دفع ياسين المعيوف البدراني للبحث; إذ أنّه يقول:

«طلباً للمعرفة واستزادةً منها التقيت بعيّنات من أهل القرى والمدن، ممّا جعل بيني وبينهم بعض المناقشات والمحاورات، التي ولّدت عندي حافزاً جديداً لأن أُعيد النظر في قراءاتي السابقة، وأن أُقارن بينها وبين كتب أُخرى، وما تحمل في طيّاتها من قضايا التاريخ ومجرياته.

ولقد وجدت عند كثير ممّن كنت أُحاورهم وآخذ منهم تقاعساً عن اقتحام الحقيقة، وصمتاً أمام الدليل الواضح، متمشّين في ذلك مع ما يطلب الواقع، ومع ما هو موروث عن الآباء والأجداد، لكنّني عزمت على العمل الدؤوب، والاستمرار في تقصّي الحقيقة ومعرفتها»(8).

٢ ـ التوجّه بعد سموّ الوعي إلى الاهتمام بتنقيح القناعات وبنائها على ضوء الفكر السليم، والبحث الجادّ من أجل تطهير العقل من الخرافات المحتملة، التي تأخذ بيده إلى عالم الأوهام; لأنّ الرأي الفاسد الواحد يكفي لتهيئة العقل لتقبّل المزيد من شاكلته.

٣ ـ إيقاظ روح الجري وراء الحقيقة وتقصّيها، والتطلّع إلى كسب البراهين، من أجل الوصول إلى العقيدة والرؤى الفكريّة التي لم ينسجها الخيال البشري وفق ما تقتضي مصالحه ومآربه وأهواؤه النفسيّة، ومن ثم التمكّن من صيانة النفس من الاتّجاهات الباطلة، والوصول إلى العقيدة السليمة التي تحفظ الإنسان من قبول الأفكار الضالّة والمنحرفة.

وبعبارة أُخرى، الوصول إلى العقيدة التي تقدّم لصاحبها الحقيقة بصورة مقنعة وشاملة، وتعينه ليحصل على اليقين الكامل والتفكير النهائي، بحيث تهديه إلى الصراط المستقيم وتوصله إلى سبيل الرشاد.

ولهذا يقول إدريس الحسيني:

«والسؤال الذي يجب أن يطرحه كلّ مسلم على نفسه: لماذا أنا من هذه الفرقة ولست مع تلك؟

هل الوراثة هي السبب أم الاجتهاد والقناعة؟

إذا كانت القناعة كما يدّعي بعضهم، فهي تعني الانسحاب من المذهب والبدء في مسيرة بحث محايدة ومتكافئة، أو قراءة التاريخ من أجل البحث عن الصواب، والاستعداد النفسي لخسران الكثير من المسلّمات. والقراءة عن هذه الفرقة وكأنّها فرقة القارئ.. ثم تحكيم العقل، والقرآن، والوجدان… وجدير بنا القول آنئذ: (اللّهمّ ما عرّفتنا من الحَقّ فحمّلناه وما قصُرنا عَنه فبلّغناه).

أمّا أن نصمّ الآذان، ونعمي الأبصار، بحجّة الإيمان والتقوى فهو خداع نفسي، وهروب من ضغوط الحَقّ، ودفن للرأس في الرمال»(9).

٤ ـ إبراء الذمّة أمام الله سبحانه وتعالى; لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) حذّر أُمّته بأنّها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهذا ما يوجب على المسلم الاهتمام بمعرفة الحقّ.

ولهذا يقول محمد علي المتوكّل:

«فالأمر كما ترى جدّ خطير، فمجرد أن يكون هناك احتمال، ولو بنسبة ١ %، أنْ تكون من الأغلبيّة الضالّة، هو أمر يدعو إلى الخوف، ويدفع إلى التدقيق وإمعان النظر في كلّ الموروث ومراجعته، علّه يكون زائفاً.

وطالما أنّ الأمر أمرُ جنة أو نار، فهو جدير بأن ينذر المرء ما تبقى من أيّام عمره ـ إذا تطلّب الأمر ـ للبحث والتحقيق وتحرّي السبيل الذي يقود إلى النجاة، والطريق الذي ينتهي به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثمّ التصميم على اتّباع نتائج البحث حتى ولو كانت نسفاً لكلّ التراث الفكري والعقائدي، وخروجاً على الأُسرة والمجتمع.

قد لا تكون في شكّ من سلامة أيٍّ من معتقداتك ومسلّماتك التاريخيّة، مع أنّها في الغالب تكون مجرّد تقليداً أعمى وتبعيّة ساذجة للأُسرة والمجتمع، فلماذا لا تخصّص جزءاً من وقتك واهتمامك للتحقّق من مطابقة معتقداتك لحقائق الدين، ومسلّماتك التاريخيّة للواقع التاريخي؟

فإنّك إن فعلت لن تخسر شيئاً، بل تكون لك الحجّة اذا ما سئلت عن مصدر قناعاتك، ولا تكون من الذين يقولون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(10)، وعندئذ تكون حجّتك داحضة وعذرك مردوداً»(11).

ويقول طارق زين العابدين في هذا المجال:

«إنّ الاختلاف الذي وقع بين المسلمين إلى اليوم يؤيّد ما ذهبنا إليه في وجوب التحقيق والبحث في ما بلغنا من اعتقاد، وإلاّ فكيف نطمئن إلى حصول السلامة وبلوغ النجاة؟ وكيف نثبت ذلك ونقيم عليه الدليل والحجّة؟

هذا أمر لا أظنّ سيَستَهونَه مسلم ارتبط مصيره بيوم فيه حساب، ثمّ ثواب أو عقاب، ولا أظنّ إنساناً صدّق باليوم الآخر ولا يرجو فيه النّجاة والسلامة.

فالتحقيق والبحث هو السبيل إلى بلوغ هذه الغاية والحصول على النجاة المطلوبة»(12).

ويقول مروان خليفات أيضاً في هذا المجال:

«ونحن نرى اليوم أنّ المسلمين فرق عديدة، وكلّ واحدة تدّعي أنّها على الحقّ، وقد رأيت أنّ هذا الأمر مهمٌّ جدّاً، وعليه يتوقف مصير الإنسان، لذا فحريّ بكلّ مسلم يرجو الخلاص يوم القيامة أن يجتهد في معرفة هذه الفرقة، فيتّبعها…

ومن الغريب أن المسلم يقرأ حديث الافتراق هذا ولا يقوم بواجبه الشرعي في البحث عن هذه الطائفة بحرّيّة وموضوعية، كي تبرأ ذمّته ويلقى ربّه بقلب سليم»(13).

ويقول إدريس الحسيني بشأن أهمية الوصول إلى القَطْع الذي تثبت به براءة الذمّة:

«وليكن ما يكون، ولكن لابدّ لي أن أُفكّر، وأُمارس كينونتي في الوجود; لأُبرىء ذمّتي، طلباً للحقّ والتماساً للنجاة، وبعدها أطلب العذر على تقصيري.

المهم هو: الوصول إلى (القطْع) الذي تثبت به المعذّريّة.

وهذا القطع لابدّ أن يحصل بالاجتهاد والبحث الحثيث»(14).

ويقول التيجاني السماوي عن تأثّره بحديث الافتراق والأهمّية التي يحضى بها هذا الحديث:

«قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): «افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النّصارى إلى اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أُمّتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة».

فلا كلام لنا مع الأديان المتعدّدة التي يدّعي كلّ منها أنّه هو الحقّ وغيره الباطل، ولكن أعجب وأندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث.

وليس عجبي واندهاشي وحيرتي للحديث نفسه، ولكن للمسلمين الذين يقرؤون هذا الحديث، ويردّدونه في خطبهم، ويمرّون عليه مرّ الكرام بدون تحليل ولا بحث في مدلوله، لكي يتبيّنوا الفرقة الناجية من الفرق الضالّة.

والغريب أنّ كلَّ فرقة تدّعي أنّها هي وحدها النّاجية، وقد جاء في ذيل الحديث:

(قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): من هم على ما أنا عليه، أنا وأصحابي).

فهل هناك فرقة إلا وهي متمسّكة بالكتاب والسُنّة؟!

وهل هناك فرقة إسلاميّة تدّعي غير هذا؟!

فلو سئل الإمام مالك أو أبو حنيفة أو الإمام الشافعي أو أحمد بن حنبل، فهل يدّعي أي واحد منهم إلا التمسّك بالقرآن والسُنّة الصحيحة؟!

فهذه المذاهب السُنيّة، وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعيّة التي كنت أعتقد بفسادها وانحرافها، فها هي الأخرى تدّعي أيضاً أنّها متمسّكة بالقرآن والسُنّة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطاهرين(عليهم السلام)، وأهل البيت أدرى بما فيه، كما يقولون.

فهل يمكن أن يكون كلّهم على حق كما يدّعون؟!

وهذا غير ممكن; لأنّ الحديث الشريف يفيد العكس، اللهمّ إلا إذا كان الحديث موضوع، مكذوب، وهذا لا سبيل إليه; لأنّ الحديث متواتر عند السُنّة والشيعة، أم أنّ الحديث لا معنى له ولا مدلول؟ وحاشى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وكلّ أحاديثه حكمة وعبر.

إذاً لم يبق أمامنا إلاّ الاعتراف بأنّ هناك فرقة واحدة على الحق وما بقي فهو الباطل، فالحديث يبعث على الحيرة، كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة.

ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة; فمن يدري لعلّهم يقولون حقاً وينطقون صدقاً؟!

ولماذا لا أبحث ولا أُنقّب، وقد كلّفني الإسلام بقرآنه وسُنّته أن أبحث وأُقارن وأتبيّن; قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(15).

وقال أيضاً: ﴿الذينَ يَستَمعوُنَ القَولَ فَيَتَّبعوُنَ أحْسَنَه أُوْلئكَ الذينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلئِكَ هُم أُوْلوا الألبَابِ(16).

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون); فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كلّ مكلّف»(17).

٥ ـ الرغبة في توسيع آفاق الرؤية والمعرفة وازدياد البصيرة، رفع مستوى الثقافة الدينيّة من خلال الانفتاح على باقي المذاهب.

ويندفع الباحث إلى هذه الأُمور لتكون زاوية رؤيته للأُمور الدينيّة رحبة ومتّسمة بالشموليّة، وليتسنّى له بعد الإلمام بالرؤية الدينية أن يتّبع أحسنها، وأن يسلك أفضلها، ولعلّه يجد ضالّته المنشودة في مذهب آخر!

٦ ـ إنقاذ النفس من التيه والضياع والتخبّط والفوضى في الصعيد الفكري والفراغ العقائدي والخواء الروحي وملئه بعقيدة تعيد للإنسان توازنه المفقود، وتمدّه بالعطاء والغذاء الروحي، وتأخذ بيده إلى الكمال والتسامي، بحيث يترك ذلك أثره الإيجابي في سلوكه وتصرّفاته وتوجّهاته.

٧ ـ ارتقاء المستوى الفكري وبلوغ مرتبة النضج في الإدراك والتفكير، والتمكّن من الموازنة بين الأُمور بتعقّل وحكمة، ومن ثم التوجّه، انطلاقاً من الشعور بالثقة والإحساس بالجدارة، نحو البحث عن مَعين يغذّي العقل بمفاهيم نقيّة لا تشوبها أيّة شائبة.

لأنّ الإنسان نتيجة تراكم التجارب التي يتلقّاها خلال حياته، تنشأ في سريرته مجموعة منبّهات تدفعه ليعيش حالة اليقظة والوعي والبصيرة، فيبدأ الإنسان بعد ذلك بإمعان النظر فيما يدور حوله وما يتلقّاه من أفكار ومفاهيم، ويندفع إلى غربلة خزين أفكاره وتنقية ذهنه من المفاهيم الخاطئة والعقائد الضالّة.

٨ ـ عدم الاكتفاء بما تملي الأجواء من انتماء، بل ربّما الشك في صحّتها بعد إمعان النظر فيها، والشعور بوجود شيء ينقصها، ومن ثم اتّخاذ قرار البحث والتنقيب ليكون المرء على بصيرة من أمر دينه، وعالماً بقضايا مذهبه، وليكون انتماؤه مرتكزاً على الأدلّة الساطعة، ومبتنياً وفق ماتُملي عليه الحجج والبراهين الواضحة.

٩ ـ الاقتناع بأنّ حب الاستطلاع في الأُمور الدينيّة بحاجة إلى فكر ينفتح ويتّسع في آفاق البحث، ليتحرّر من حالة التقليد الأعمى والجمود واحترام المقدّسات المزيّفة، ومن ثم الانطلاق بقوّة وبجدّية نحو البحث وتحدّي كلَّ العقبات التي تعتري حركة البحث باتّجاه الوصول إلى الحقيقة التي يطمئن إليها القلب.

١٠ ـ الشعور بحالة سلبية نتيجة تراكم الشبهات والتساؤلات العقائدية في الذهن، ومن ثمّ الإحساس بلزوم التوجّه إلى مصدر يجيب عن هذه الأسئلة والاستفسارات، من أجل التمكّن من اقتحام جميع المجاهيل المقفلة بعد الحصول على الأجوبة المقنعة للأسئلة الحائرة.

لأنّ الإنسان حينما يسمو وعيه تُساوره بعض الشكوك بشأن المبادىء التي يعتنقها، وتخطر على باله بعض الأسئلة والشبهات، فتعتريه حالة قلق المعرفة، تبدأ هذه الحالة تستشري في نفسه وتلحّ عليه ليتطلّع نحو الحقيقة ولينطلق بفكر منفتح وعقلية واعية ليعبّد لنفسه طريق الوصول إلى العقيدة الحقّة.

١١ ـ الانتباه إلى النفس ورؤيتها بأنّها لا تعتمد على ركن وثيق في أهم جانب من جوانبها الحياتيّة، وهي العقيدة، والاقتناع ـ على أثر النظر إلى البنية الفكرية ـ بالحاجة إلى إعادة النظر في المرتكزات الفكريّة، ومن ثم العزم على تشييد عقيدة مبتنية على الأُسس المتينة والدعائم الراسخة.

١٢ ـ هنالك حالات خاصّة دفعت بعض المستبصرين للبحث في المجال العقائدي، منها:

يذكر أحد المستبصرين قائلاً: ذهبت قبل الاستبصار إلى العلماء من أهل السُنّة لعلّي أجد عندهم ما يدلّني على الانتماء العقائدي الصحيح، وطلبت منهم الإجابة عن الشكوك العالقة بذهني، وإقناعي بردود وإجابات شافية ومقنعة تسكن حيرتي وتشفي غليلي وتريح ضميري، لكنّهم ثاروا بوجهي واتّهموني بالضلال، فقرّرت بعدها الاعتماد على نفسي، فانفردت بنفسي، فوجدت أنّني بحاجة ماسّة إلى التزوّد من المعرفة، ومن هنا نشأت في نفسي رغبة ملحّة للبحث والمطالعة في الأُمور العقائديّة.

وهذا ما حدث مع إدريس الحسيني الذي أراد جملة ممّن حوله أن يمنعوه عن البحث، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، بل أدّت إلى عكس ما أرادوه، يقول إدريس الحسيني عن هؤلاء:

«إنّ الذين لم يكونوا يجيبونني عن تساؤلاتي، وينصحونني بأن لا أقرا التاريخ إطلاقاً، كانوا بمثابة حافز لي لالتماس الجواب بنفسي»(18).

ويذكر مستبصر آخر عن عمّا دفعه للبحث في المجال العقائدي:

سمعت ذات مرّة عن طريق المحاورات التي تجري بين أوساط أبناء منطقتنا بعض الأُمور والقضايا الإسلاميّة بحيث نالت إعجابي; لأنّني وجدتها آراء كاملة ورائعة، فاستفسرت عن القائلين بها، فقيل لي أنّها تابعة للشيعة.

فقررت من ذلك الحين البحث حول التشيّع لطلب المزيد من أمثال هذه الرؤى الإسلاميّة التي أثلجت صدري، وروت ضميري المتعطّش للحقائق الدينيّة.

ويقول صالح الورداني عن الدافع الأوّل الذي دفعه للبحث:

«إنّ ما عايشته وواجهته من قبل التيّارات الإسلاميّة في مصر، كان الدافع الأوّل والأساس الذي أدّى بي للغوص في التراث الإسلامي، المصدر الأساس لهذه التيّارات، كمحاولة للوصول إلى الخلل الذي أوجد التناحر والتكاثر بين هذه التيّارات.. لم أجد هذا الخلل من الحاضر، بل وجدته من الماضي»(19).

ويقول هشام آل قطيط عن أحد العوامل التي حفّزته للبحث:

«إنّ قصّة الانتقال في العصر الحاضر من السُنّة إلى الشيعة، زادتني حيرة وتأمّلاً وتفكّراً في هذا المجال العقائدي، فصرت أتساءل مع نفسي: ما هذا الانتقال الضخم والتحوّل الهائل من التسنّن إلى التشيّع; من علماء أهل السُنّة ومثقّفيهم، ولم أجد العكس…؟!! لماذا…؟!!

فقلت: لو لم تكن الأدلّة مقنعة لَما انتقل هؤلاء بهذه الكثرة وتركوا التسنّن وأصبحوا شيعة»(20).

التفكّر والاستبصار:

إنّ الاهتمام بالبحوث العقائدية هي نتيجة تفكير الإنسان بالمسائل الأساسية التي تبني رؤيته الكونية; فلهذا نرى أنّ معظم الذين وفّقوا للاستبصار هم من أهل العلم والتفكّر، ولا يُستثنى «نيكانور» من هذه القاعدة، فالحمد لله الذي جعل التدبّر والتفكّر طريقاً لهداية الإنسان إلى الحقّ والسير على الصراط المستقيم; لنيل السعادة في الدنيا، والفوز برضا الله جلّ وعلا في الآخرة.

وأمّا «نيكانور» فبعد استبصاره غير اسمه إلى «علي» تيمناً باسم مولود الكعبة أمير المؤمنين(عليه السلام).

____________

1- للمستبصر ملف يذكر فيه أدلّة الاستبصار، وقد زار المركز مرّتين.

2- نقلاً عن: معرفة تحليلية عن الإسلام وبعض الأديان والمذاهب: ٥٦٣.

3- دعوة إلى سبيل المؤمنين: ٨.

4- دعوة إلى سبيل المؤمنين: ١٥.

5- دعوة إلى سبيل المؤمنين: ١٦.

6- ياليت قومي يعلمون: ٤٩.

7- الزمر -٣٩-: ١٧.

8- ياليت قومي يعلمون: ٤٩.

9- ياليت قومي يعلمون: ٥.

10- لقد شيّعني الحسين: ٩٦ ـ ٩٧.

11- الزخرف -٤٣-: ٢٣.

12- ودخلنا التشيّع سجّداً: ٨.

13- راجع: دعوة إلى سبيل المؤمنين: ١٦ ـ ١٧.

14- وركبت السفينة: ٢٢.

15- لقد شيّعني الحسين: ٩٤.

16- العنكبوت -٢٩-: ٦٩.

17- الزمر -٣٩-: ١٨.

18- ثم اهتديت: ٧٤ ـ ٧٥.

19- مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

20- الخدعة: ٤.