مصطفى خلف البياتي

مصطفى خلف البياتي (حنفي / العراق)

من مواليد بغداد، نشأ في أسرة حنفيّة المذهب، وكان منذ الصغر يهوى المعارف الدينيّة، ويرغب بالحضور في الجلسات القرآنيّة التي كانت تعقد في مسجد منطقتهم، وعندما بلغ سنّ الرشد توجّه إلى العمل في الحدادة، وبعد نشوء الحرب المفروضة من النظام البعثي على إيران، أجبرته الحكومة على المشاركة في جبهات القتال، وبعد فترة وقع في الأسر، فتمّ نقله إلى معسكرات الأسر، فعاش في المعسكر أجواء دفعته إلى البحث حتّى أدّت به في نهاية المطاف إلى الاستبصار.

الاستبصار في معسكر الأسر:

يقول «مصطفى» حول استبصاره في معسكر الأسر:

الحمد للّه‏ الذي هداني إلى الاستبصار، وكان يوماً لا أنساه أبداً، وشعرت في ذلك اليوم كأنّما ولدتُ من جديد، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي قرّرت فيه السير على خطّ ولاية أهل البيت عليهم‏السلام، ويعود سبب شعوري هذا أنّني كنت قبل ذلك أعيش حالة الضياع والتيه في الظلمات، والجدير بالذكر أنّني عاشرت في السجن، الشيعي والسنّي والشيوعي والقومي والبعثي وشتّى أصناف المذاهب والتيّارات،

وكان كلّ واحد من هؤلاء يدعو إلى عقائده وأفكاره ويدافع عمّا يؤمن به، فكنت أسمع وأرى وأناقش الجميع، ولم يكن هدفي البحث عن الحقيقة، وإنّما كان النقاش والجدل والحوار وسيلة للنزهة والتحيّز والتكتّل والصراع وتثبيت الأنا، كما يتعصّب المراهقون لفرق كرة القدم.

ولكن بمرور الزمان طرق سمعي من مذهب أهل البيت كلام هزّ أعماق وجودي وغرس في نفسي الصحوة ووجدت هذا المذهب كالشمس الساطعة في سماء العلم والمعرفة، ووجدت في المذهب الشيعي الدليل العقلي والمنطقي والوجداني والفطري، فدفعني هذا الأمر إلى التأمّل.

ومن جهة أخرى كان إيماني ضعيفاً، فوجدت بأنّ معارف أهل البيت عليهم‏السلامتملأ وجودي بالشحنة الإيمانيّة، وتضيء لي درب الحياة، وتشعّ عليّ كالنور علاوة على ذلك كان الشيعة الذين عشتُ معهم في الأسر أناساً مؤمنين ومهذّبين، ومتّسمين بالأخلاق الحسنة والسلوك الطيّبة، ولم يكونوا متعصّبين، وكانوا يبّينون عقائدهم بهدوء ومن منطلق الدافع الديني لا من منطلق التعصّب أو الأنانيّة أو التغلّب أو المصالح الشخصيّة، وكانوا يحبّون أن يقدّموا الخدمة لكلّ إنسان وبالخصوص لمن يبحث عن الحقيقة.

بدأت أكتب مضامين المناظرات التي تجري بين الشيعة والسنّة حتّى اجتمعت عندي كميّة كبيرة من المعلومات، فبدأت بمرحلة غربلة هذه المعلومات، وترتيبها وكنت أراجع الطرفين من أجل سدّ الثغرات، وبعد فترة تبيّن لي بأنّ الحقّ مع الشيعة، فواجهتني الموانع النفسيّة من الاستبصار، وانهالت عليّ الضغوط

النفسيّة، كيف أترك جماعتي أهل السنّة وأنتقل إلى الفئة المقابلة والمخالفة لنا؟ ولاسيّما أنّ الأنظار كانت متوجّهة لي ؛ لأنّني كنت أكتب البحوث وكان الجميع يعلم حرصي على معرفة الحقيقة، وتراكمت عليّ الوساوس من كلّ حدب وصوب، كنت أعي قوله تعالى:﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(1).

ولكن العلم شيء والمواجهة العمليّة للواقع المرّ وتحمّل المصاعب والضغوط الداخليّة والخارجيّة شيء آخر، وهناك فرق بين من يتحدّث عن الصبر والاستقامة والثبات وبين من يعيش الصبر والاستقامة والثبات، والفاصلة بين القول والعمل هي كالفاصلة بين الأرض والسماء والكثير من يطلب العلم ويحصل على المعرفة ويدرك الفرق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، ولكن الالتزام

العملي أمر صعب جدّاً، ويتطلّب من الإنسان المزيد من الجهد وتحمّل العناء والتعب لاسيّما في الخطوة الأولى ؛ لأنّ الأمور ستسير بعدها على منوالها الطبيعي، ولكنّ العقبة الأولى صعبة جدّاً، وبمرور الزمان بدأت حركة الاستبصار تظهر في المعسكرات شيئاً فشيئاً وهذا ما هوّن عليّ الخطب قليلاً، وقلّل من ضغط المخالفين ومحاربتهم لمن يخرج من صفّهم ويلتحق بالصفّ المقابل، وعموماً توكّلت على اللّه‏

وأعلنت استبصاري، فتفاجأ الجميع، وفي ليلة وضحاها أبدى الذين كنت معهم اشمئزازهم المطلق لموقفي هذا، وطردوني من جمعهم وانتشر الخبر حتّى بلغ أهلي وأقاربي في العراق، فكان موقفهم – كما كانت تصل لي الأخبار – شديداً جدّاً، وعرفت بأنّني أصبحت غريباً، ولكن كان ذكر اللّه‏ وذكر أهل البيت عليهم‏السلام وأخلاق شيعتهم يداوي جروحي ويخرجني من حالة الغربة ويهوّن عليّ المصاعب.

وانشغلت بعد ذلك بقراءة الكتب من أجل تمتين وتقوية بنيتي العقائديّة، وكان كتاب (المراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدين وكتاب (ثمّ اهتديت) للدكتور التيجاني السماوي من أهمّ الكتب التي تأثّرت بها في استبصاري.

تاريخنا المظلم الأسود:

قرأ مصطفى في كتاب (ثمّ اهتديت) بأنّ الدكتور التيجاني يقول:

«أذكر على سبيل المثال أنّ الأستاذ المختصّ في تدريسنا مادّة البلاغة كان يدرّسنا الخطبة الشقشقيّة من كتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه‏السلام، واحترت كما احتار عدد من التلاميذ عند قراءتها وتجرّأت. وسألته إن كان هذا من كلام الإمام علي حقّاً؟

فأجاب: قطعاً، ومن لمثل هذه البلاغة سواه؟ ولو لم يكن كلامه كرّم اللّه‏ وجهه لم يكن علماء المسلمين أمثال محمّد عبده مفتي الديار المصريّة ليهتّم بشرحه. عند ذلك قلت: إنّ الإمام علي يتّهم أبا بكر وعمر بأنّهم اغتصبوا حقّه في الخلافة.

فثارت ثائرة الأستاذ وانتهرني بشدّة، وهدّدني بالطرد إن عدت لمثل هذا السؤال، وأضاف قائلا: نحن ندرّس بلاغة ولا ندرّس التاريخ، وما يهمّنا شيء من أمر التاريخ الذي سوّدت صفحاته الفتن والحروب الدامية بين المسلمين، وكما طهّر اللّه‏ سيوفنا من دمائهم فلنطهّر ألسنتنا من شتمهم.

ولم أقنع بهذا التعليل، وبقيت ناقماً على ذلك الأستاذ الذي يدرّسنا بلاغة بدون معان، وحاولت مراراً عديدة دراسة التاريخ الإسلامي، ولكن لم تتوفّر عندي المصادر والإمكانات لتهيئة الكتب، وما وجدت أحداً من شيوخنا وعلمائنا يهتمّ بها، وكأنّهم تصافقوا على طيّها، وعدم النظر فيها، فلا تجد أحداً يملك كتاباً تاريخيّاً كاملاً.

فلمّا سألني صديقي عن معرفة التاريخ أحببت معاندته فأجبته بـ«نعم» ولسان حالي يقول: أعرف أنّه تاريخ مظلم أسود لا فائدة فيه إلاّ الفتن والأحقاد والتناقضات»(2).

استفاد «مصطفى خلف» من تجربة الدكتور التيجاني السماوي، ونبذ التقليد الأعمى وتخلّى عن العقائد والأفكار المزيّفة، وشقّ طريقه بنفسه من خلال البحث المستند على الأدلّة والبراهين المتينة، وبمرور الزمان تجلّت أمامه الحقيقة بوضوح، وعرف الأسباب التي دفعت وعّاظ السلاطين إلى تحريف التاريخ الإسلامي، وقام بتهذيب التاريخ والتراث حتّى توصّل إلى اللبّ فانكشفت له حقّانيّة مذهب أهل

البيت عليهم‏السلام، فأعلن استبصاره وبدأ حياته الجديدة في ظلّ الجهاد والمثابرة للدفاع عن العقائد الحقّة التي توصّل إليها بنفسه، والتي أملتها الأدلّة والبراهين والحجج عليه.

____________

1- البقرة ٢: ٢٦٨.

2- ثمّ اهتديت، الدكتور التيجاني السماوي: ٣٧ – ٣٨.