محمد أشرف كومارو

محمّد أشرف كومارو (سنّي / باكستان)

ولد عام 1382هـ (1963م) في ولاية السند بباكستان، ونشأ في أسرة سنّية بريلوية، درس الأكاديمية وحاز على شهادة الليسانس في الاقتصاد، اعتنق مذهب أهل البيت(عليهم السلام) سنة 1412هـ (1992م)، ثمّ صار مبلّغاً، وله العديد من النشاطات في الساحة الاجتماعية.

أسباب استبصاره:

وجد “محمّد أشرف” ـ بعد مطالعاته الحثيثة ومتابعاته الجادّة لكتب الشيعة أنّ بين المذهب الشيعي والمذهب السنّي اختلافات كثيرة في شتى الأصعدة الفقهيّة أو العقائدية، فكان هذا الأمر محفّزاً له على البحث والتنقيب من أجل توسيع آفاق رؤيته الدينية ; ليتمكّن من خلال غربلة موروثه العقائدي ومقايسته مع عقائد المذاهب الأخرى أن يكوّن لنفسه رؤية دينية مبتنية على الأدلة والبراهين المقنعة.

وبالفعل وجد “محمّد أشرف” الكثير من الحقائق التي كانت غائبة عن ذهنه، فأتاح له هذا الأمر الفرصة للنظر إلى مذهبه الموروث من خارج دائرة المذهب.

توصّل “محمّد أشرف” بعد المقارنات ومقايسة الأدلّة إلى قناعة لا يخالجها الشك، وإلى يقين لا يصمد أمامه أيّة شبهة، وتوصّل إلى أحقّيّة مذهب التشيّع الإمامي الاثني عشري.

ويقول “محمّد أشرف”: كنت متأثّراً بالفكر الصوفي، ولي اتصالات مع الكثير من فرقها، وأكثرهم يحترمون أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، فصرت أقرأ عنهم، وصار هذا الأمر محفّزاً لي للتعرّف على التشيّع، والسؤال عن مذهبهم ودراسة أفكارهم ومعتقداتهم.

وقد لاحظتُ اختلاف الشيعة عن السنّة في الوضوء والصلاة وموعد الإفطار في الصوم، وغيرها من مسائل العبادات، كما وجدت الاختلاف بعد التحقيق في العقائد والتاريخ كمسألة الخلافة والإمامة وولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)، وعزاء أبي عبد الله الحسين(عليه السلام).

فقرأت الكثير من كتب السنّة والشيعة حتّى عرفت بأنّ الحقّ مع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) فتمسّكتّ بنهجهم وأخذت عنهم ما جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية البشرية.

ولاية الإمام عليّ(عليه السلام) :

تطرّق “محمّد أشرف” إلى عدّة قضايا كانت محل اختلاف بين الشيعة والسنّة، فتوصّل من خلال بحثه وتتبّعه إلى حقّانيّة الشيعة في هذه المسائل، ونحن نستعرض، قضية واحدة من تلك القضايا وهي ولاية أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام).

فإنّ للشيعة أدلّة عديدة على ولاية الإمام عليّ(عليه السلام)، وأنّه الخليفة ـ بلا فصل ـ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، منها أدلّة قرآنية ومنها روائية ومن الأدلّة القرآنية قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1) .

والكلام عن هذه الآية يكون في شأن نزولها، وأخرى في وجه دلالتها.

شأن نزول آية الولاية:

اتفقت الشيعة على أنّ الآية نزلت في الإمام عليّ(عليه السلام) يوم تصدقّه بالخاتم وهو راكع.

ونقلت مصادر أهل السنّة هذه الحادثة أيضاً، فقد دلّت أقوال الصحابة والتابعين والعلماء من أهل التفسير والحديث والكلام على أنّ هذه الآية في الإمام عليّ(عليه السلام) يوم تصدّقه وهو في حالة الركوع.

قال الثعلبي في تفسيره “الكشف والبيان”: “قال ابن عبّاس، وقال السدي، وعتبة بن حكيم، وثابت بن عبد الله: إنّما يعني بقوله {وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} الآية، عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) مرّ به سائل وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه”(2).

وقال الثعلبي أيضاً: أبو الحسن محمّد بن القاسم بن أحمد، أبو محمّد عبد الله ابن أحمد الشعراني، أبو عليّ أحمد بن عليّ بن رزين قال: المظفر بن الحسن الأنصاري، قال: حدثنا السري بن عليّ الوراق، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عبادة بن الربعي، قال: بينا عبد الله ابن عبّاس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمّم بالعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول قال رسول الله، إلاّ قال الرجل: قال رسول الله؟ فقال ابن عبّاس: سألتك بالله، من أنت؟

قال: فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري، سمعتُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين وإلاّ صمّتا، ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا، يقول: عليّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، أمّا إنّي صلّيت مع رسول الله يوماً من الأيام صلاة الظهر، فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: اللّهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان عليّ(عليه السلام) راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا فرغ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال: “اللّهم أن أخي موسى سألك، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}(3)الآية. فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا }(4) اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيك فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأجعل لي وزيراً من اهلي علياً اشدد به ظهري… .

قال أبو ذر: فوالله، ما استتمّ رسول الله الكلمة حتّى أنزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمّد، إقرأ، فقال: وما أقرأ؟

قال: إقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} إلى {رَاكِعُونَ}(5) .

قال الآلوسي في روح المعاني ـ بعد أن ذكر الآية ـ : وغالب الأخباريين على أنّها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه بإسناد متّصل، قال: “أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله، إنّ منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدّث دون هذا المجلس، وإنّ قومنا لمّا رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وصدّقناه رفضونا، وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا

ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا، فقال لهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما وليّكم الله ورسوله، ثمّ إنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى المسجد، والناس بين قائم وراكع، فبصر سائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟

فقال: نعم، خاتم من فضّة.

فقال: من أعطاكه؟

فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى عليّ كرّم الله تعالى وجهه، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): على أيّ حال أعطاك؟

فقال: وهو راكع، فكبّر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ تلى هذه الآية”

فأنشأ حسّان (رضي الله تعالى عنه) يقول:

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي وكلّ بطيء في الهدى [الهوي]ومسارع
أيذهب مدحي المحبر ضائعاً ومـا المـدح في جنب الإلـه بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً زكـاة فـدتك النفس يـا خـير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية واثبتهـا في محكمـات الشـرائع(6).

قال ابن كثير: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا الفضل بن دكين أبو نعيم الأحول، حدّثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، قال: “تصدّق عليّ بخاتمه، وهو راكع، فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(7).

قال أيضاً: وقال ابن جرير: حدثني الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدثنا غالب بن عبد الله، سمعت مجاهداً يقول في قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} الآية فنزلت في عليّ بن أبي طالب، تصدّق وهو راكع(8).

ثمّ ذكر ابن كثير عدّة روايات مسندة بهذا المضمون.

قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج الخطيب في المتفّق عن ابن عبّاس، قال: تصدّق عليّ بخاتمه وهو راكع، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) للسائل من أعطاك هذا الخاتم؟

قال: ذاك الراكع، فأنزل الله تعالي {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ}(9).

ثمّ ذكر السيوطي عدّة روايات بهذا المضمون.

قال ابن عساكر في تاريخه: أخبرنا خالي أبو المعالي القاضي، نا أبو الحسن الخلعي نا أبو العبّاس أحمد بن محمّد الشاهد، نا أبو الفضل محمّد بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن الحارث الرملي، نا القاضي حملة بن محمر، نا أبو سعيد الأشح، نا أبو نعيم الأحول، عن موسى بن قيس، عن سلمة، قال: “تصدّق عليّ(عليه السلام) بخاتمه، وهو راكع، فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(10).

وروى حديثاً آخر بسند آخر بهذا المضمون.

وقد نقل القاضي عبد الرحمن الأيجي في المواقف ـ عند عرضه لأدلّة الخصم على إمامة الإمام عليّ(عليه السلام) ـ إجماع المفسّرين على أنّ الآية نزلت في عليّ(عليه السلام)، وعند ما كان في مقام الجواب لم يناقش في ذلك(11) وكذا الجرجاني في شرح المواقف(12)، والتفتازاني في شرح المقاصد(13).

وهناك مصادر كثيرة أثبتت أنّ الآية نزلت في عليّ(عليه السلام)، كما لا يخفى على المتتبّع.

دلالة آية الولاية:

قد عرفنا إلى الآن أنّ المتصدّق وهو راكع في صلاته، هو الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وأنّه ولي، فما معنى الولاية التي ثبتت للإمام(عليه السلام)؟

حصرت هذه الآية المباركة الولاية في ثلاثة، لله سبحانه وتعالى، وولايته تعالى معروفة وواضحة، فله تعالى التصّرف بالأشياء وهو الأولى بذلك.

ثمّ عطفت الآية بالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ولي، وولايته(صلى الله عليه وآله وسلم) معروفة أيضاً ومشخصّة، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(14) فهو أولى منهم بالتصرّف بكل شؤونهم.

ثمّ عطفت الآية المباركة بالمؤمنين من تصدّق بخاتمه وهو الإمام عليّ(عليه السلام)فعلى ما يقتضيه وحدة السياق في الآية المباركة أنّ ولاية الإمام عليّ(عليه السلام) فهو أولى بالتصرّف من غيره في شؤون المؤمنين والأمّة الإسلاميّة.

ومن ثبت له هذا الحقّ هو الإمام بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والخليفة الشرعي.

الإشكالات الواردة على الاستدلال المتقدّم:

أشكل على دلالة هذه الآية المباركة على إمامة الإمام عليّ(عليه السلام) بعدّة إشكالات:

الإشكال الأوّل:

أنّ لفظ “وليكم” في هذه الآية لابدّ من حمله على الناصر والمحب، وهذا المعنى نستكشفه من وحدة سياق الآيات، فإنّ الآية التي قبل هذه الآية هي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء}(15)، فمعناها لا تتخذوهم أحبّاء وناصرين، ولا معنى أن يقال: لا تتخذوهم أئمّة متصرّفين في شؤونكم، فعندما نهى تعالى عن هذه الولاية أمر بولاية أخرى، لابدّ أن تكون من نسخ الولاية المنهي عنها لوحدة السياق.

وأمّا الآية التي بعد آية “إنّما وليكم…” هي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء}(16)وهذه أيضاً لا يصح حملها على الأولوية بالتصّرف، بل معناها النصرة والمحبة.

الجواب عن هذا الإشكال يشتمل على عدّة أمور:

الأمر الأوّل:

أنّ الولاية في هذه الآية لا يمكن حملها على ولاية النصرة في النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يصح أن نقول: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ناصر للمؤمنين ; وذلك لأنّ النصرة التي يذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في كثير من الآيات هي النصرة في الدين، فيصحّ أن يقال: إنّ الدين لله بمعنى أنّه مشرعه وجاعله، فيكون الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ناصراً لله وكذا المؤمنون، وهذا لا إشكال فيه، قال تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}(17)، وكذا يصحّ أن يقال إنّ الدين للنبي ; لأنّه صاحب الشريعة ومبلّغها، فيكون المؤمنون ناصرين له(صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: {وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}(18) وقال تعالى: {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(19).

ويصحّ أن يقال: إنّ الدين للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وللمؤمنين بمعنى أنّهم المكلّفون بشرائعه وأحكامه، فيكون الله ناصرهم، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَْشْهَادُ}(20).

ولكن لا يصحّ أن يفرد الدين للمؤمنين خاصّة ويكونوا هم الأصل، والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بمعزل عن ذلك ; لأنّه ما من فضيلة إلاّ والرسول مشاركهم فيها على أحسن وجه، فلا يصحّ أن يكون الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ناصراً للمؤمنين(21)، قال السيّد العلاّمة في الميزان: ولذلك لا نجد القرآن يعدّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة(22) فإذا لم يصح ان يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ناصراً، فإن سياق الآية الذي ادعاه المستشكل قد اختل ولا يمكن الاعتماد عليه.

الأمر الثاني في ردّ الإشكال:

أنّ الآية حصرت بكلمة (إنّما) الولاية في الله تعالى والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وعليّ(عليه السلام)، فلا يصحّ أن نحمل الولاية في هذه الآية على النصرة والمحبّة ; لأنّ النصرة عامّة ومطلوبة من كلّ المؤمنين، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض}(23)، ففي هذه الآية تحمل كلمة (أولياء) على النصرة والمحبّة، وأمّا قوله تعالى: (أنّما وليكم..) فالحصر يمنع تفسير الولاية فيها بمعنى النصرة والمحبّة.

الأمر الثالث في ردّ الإشكال: 

إنّ هذه الآية قيّدت في ذيلها الولاية بحال الركوع (وهم راكعون) فلو كانت هي ولاية النصرة فستكون مقيّدة مع أنّ النصرة مطلوبة على كلّ حال سواء في حال الركوع أو غيره، حتّى لو فسرّنا الركوع بمعناه اللغوي: الخشوع، فإنّ النصرة مطلوبة حتّى في غير حال الخشوع .

فالولاية في هذه الآية هي ولاية التصرف، وهي ولاية محصورة ومقيّدة.

الإشكال الثاني: على دلالة الآية:

أنّ الألفاظ في هذه الآية جاءت بصيغة الجمع: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فكيف يكون المقصود عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)وهو مفرد؟

توجد عدّة أجوبة لهذا الإشكال:

الأوّل: جواب الزمخشري صاحب الكشّاف، وهو من كبار علماء السنّة، ما ملخّصه: إنّ الفائدة في مجيء اللفظ بصيغة الجمع هي ترغيب الناس في مثل فعل عليّ(عليه السلام)، وأن يكون المؤمنون حريصين على مساعدة الفقراء والمساكين حتّى في حال الصلاة(24).

الجواب الثاني: أنّ الله تعالى أراد ان يعظّم هذه الفضيلة لعلي(عليه السلام) فجاء بلفظ الجمع.

الجواب الثالث: هناك آيات كثيرة وردت بلفظ الجمع مع أنّه أُتفق على أنّها نزلت في المفرد، من قبيل آية المباهلة فإنّها وردت بصيغة الجمع مع الاتّفاق على أنّها نزلت في مفرد، فقوله تعالى: {وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ}، مع أنّ المراد هو عليّ(عليه السلام)، وقوله {وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ}، مع أنّ المقصود فاطمة الزهراء(عليها السلام).

وقوله: {أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} مع أنّ المقصود الحسن والحسين(عليهما السلام)، وهذا لا خلاف فيه بين المفسّرين.

والآية الأخرى التي جاءت بلفظ الجمع مع أنّ المقصود منها هو المفرد هي الآية التي قبل آية الولاية، قال تعالى {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}، فقال المفسرون: المقصود هو عبد الله بن أبي، فهو القائل.

وهناك نظائر كثيرة في القرآن الكريم في كلام العرب بصورة عامّة لهذا الإطلاق وهذا الاستعمال.

الجواب الرابع: وهذا جواب ذكره السيّد العلاّمة في الميزان، قال: “إنّه فرق بين إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد واستعماله فيه، وبين إعطاء حكم كلّي أو الإخبار بمعرف جمعي في لفظ الجمع لينطبق على من يصحّ أن ينطبق عليه، ثمّ لا يكون المصداق الذي يصّح أن ينطبق عليه إلاّ واحداً فرداً، واللغة تأبى عن قبول الأوّل دون الثاني”(25).

الإشكال الثالث على دلالة الآية:

إنّ استدلال الشيعة على إمامة عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بهذه الآية يلزم منه نفي إمامة من تأخّر عن عليّ(عليه السلام) من باقي الأئمّة الاثني عشر ; لأنّهم قالوا: إنّ الآية حصرت الولاية في الله تعالى والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ(عليه السلام)، وهذا معناه نفي الإمامة عن الباقين، فتنفي إمامة من تقدّم على عليّ(عليه السلام) ولكن هذا كما ينفي إمامة من تقدّم على عليّ(عليه السلام)، كذلك ينفي إمامة من تأخّر عنه.

جواب الإشكال:

مقتضى الحصر في الآية أنّه مع وجود الإمام عليّ(عليه السلام) وحين حياته لا تصحّ إمامة غيره، أمّا بعد وفاته فالآية ساكتة عن ذلك، والخلفاء الثلاثة حكموا في حياته(عليه السلام)، فحكومتهم باطلة بمقتضى الحصر، وأمّا إمامة باقي الائمّة الاثني

عشر(عليهم السلام) فإنها كانت بعد حياته(عليه السلام)، وبعد وقت إمامته، فلا تعارض بين إمامته(عليه السلام)وإمامتهم(عليه السلام).

وبعبارة أخرى: أنّ الحصر في الآية بنفي الإمامة العرضية لأمامة الإمام عليّ(عليه السلام) لا ينفي الإمامة الطولية.

الإشكال الرابع على دلالة الآية:

وهذا الإشكال يتفرّع نوعاً ما على الجواب المتقدّم وهو:

إذا كانت ولاية الإمام عليّ(عليه السلام) مطلقة فهذا يعني انّه(عليه السلام) إمام وولي حتّى مع وجود رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما لا يلتزم به أحد، وإذا جاز أن تكون إمامته متأخّرة ومقيّدة بزمان دون زمان فيجوز أن تكون إمامته بعد من تقدّمه من الثلاثة.

جواب الإشكال:

الجواب عن هذا الإشكال بعدّة أمور:

الأمر الأوّل:

أنّ وجود حقّ لشخص لا يعني إعمال ذلك الحقّ، فمن الجائز أن يكون حقّ لشخص ولكنّه لا يستخدم ذلك الحقّ ولا يفعله، فإنّ نائب الرئيس له صلاحيات الرئيس، فله إعمالها مع عدم حضور الرئيس، أمّا مع حضوره فالنائب له هذا الحقّ وهذه الصلاحيات، ولكن لا يعملها ولا يفعلها.

فالإمام عليّ(عليه السلام) ولي وله حقّ التصّرف، ولكن مع وجود الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعمل ذلك الحقّ ولا يفعله، أمّا بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يكون حقّ التصرف مباشرة للإمام وبلا فصل، وهذا مقتضى الحصر.

وبعبارة أخرى: أنّ المنفي في زمن الخطاب هو الولاية “الفعلية الاستقلالية” لا “الانشائية” الثابتة بمقتضى الآية.

الأمر الثاني في ردّ الإشكال:

الجواب: لو تنازلنا، وقلنا: إنّ ولاية الإمام عليّ(عليه السلام) مقيّدة بزمان دون زمان لأنّها لم تكن زمن حياة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا لا يجوّز أن يتقدم على الإمام(عليه السلام) غيره بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ; وذلك لأنّ الآية حصرت الولاية في الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والإمام عليّ(عليه السلام) ومعنى الحصر نفي الإمامة عن الغير، فإمامة من تقدّم على عليّ(عليه السلام) منفية بمقتضى الحصر، فكيف يجوّز تقدّم الثلاثة عليه بحجة أنّ ولايته مقيّدة بزمان دون زمان؟!

وبعبارة أبسط : إذا كانت الولاية منحصرة في الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام عليّ(عليه السلام)ومقتضى الحصر نفي الولاية عن غيرهما، فمع وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لمن تكون الولاية؟

والجواب عن هذا السؤال واضح وبيّن للمنصف المحايد، وأنّ الولاية للإمام عليّ(عليه السلام) بعد الرسول بلا فصل، ولا يكابر في ذلك إلاّ معاند أعمت العصبية قلبه، أو جاهل سدّ التقليد نوافذ فكره وعقله.

الأمر الثالث في ردّ الإشكال:

وهو ما ذكره الشريف المرتضى في الشافي، قال: “أمّا الذي يدلّ على اختصاصه بموجب الآية في الوقت الذي ثبت له(عليه السلام) الإمامة فيه عندنا، فهو أنّ كلّ من أوجب بهذه الآية الإمامة على سبيل الاختصاص أوجبها بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل”(26).

الإشكال الخامس على دلالة الآية الكريمة:

إنّ الآية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ…} خطاب إلى الأمّة، والأمّة كانت تعلم أنّ الله تعالى هو الأولى بالتصرّف، فلا معنى لأن يجبرهم الله تعالى بذلك، فلابدّ أن يكون المعنى أنّه ناصرهم، حتّى يثبّت قلوبهم ولا يتّخذوا اليهود والنصارى أولياء.

جواب الإشكال: 

أوّلاً: أنّ الأمّة كما تعلم أنّ الله تعالى هو الأولى بالتصّرف، كذلك تعلم أنّه تعالى هو الناصر، وقد وردت آيات قرآنية عديدة تثبت هذا المعنى، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(27).

ثانياً: هناك معاني عديدة تعلمها الأمة، مع ذلك تكرّر ذكرها في القرآن، كما في صفاته تعالى، فإنّ الله غفور، رحيم، كريم، عليم، رازق، فهذه أمور تعلمها الأمّة، فهل يلزم من تكريرها إشكال؟!

ثالثاً: أنّ الآية لم تثبت أمراً معلوماً فقط ، بل أثبتت وبيّنت أمراً جديداً، من خلال ربطه بالأمر المعلوم، فإنّ الله تعالى هو الولي المتصّرف، وهذا معلوم، ثمّ عطفت الآية بالرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى تعطيه هذا المقام وهذه الخصوصية، ثمّ عطفت بالمؤمنين الذين يؤتون الزكاة وهم في حال الركوع، وهو عليّ(عليه السلام) حتّى تثبت له هذا المقام وهذه المنزلة.

فكما نرى هذا الإشكال وغيره من الإشكالات المتقدمة في غاية الوهن والضعف، وهناك إشكالات أخرى، أضعف من هذه الإشكالات، لم تنطرق لوضوح بطلانها، وليست هي إلاّ جهد العاجز، والذي يريد أن يحاجج بلا بيّنة ولا برهان.

أمّا “محمّد أشرف” فإنّه كان يمتلك نظرة موضوعية للأمور، ولم يترك للعصبية والتحجر منفذاً إلى ذهنه وفكره، بل أراد الحقيقة كما هي، ناصعة مشرقة، فإنّه عندما قرأ هذه الآية المباركة واطّلع على وجوه الاستدلال بها، اطمأنّت نفسه لها، وانقاد عقله إلى نورها وضيائها، فأصبحت له دليلاً أو طريقاً إلى الحقّ.

فتمسّك “محمّد أشرف” بالمذهب الإمامي الاثني عشري، معلناً ذلك للجميع بكل شجاعة واطمئنان.

وكيف لا يطمئنّ إلى عقيدته من قادته الأدلّة الواضحة والبراهين الساطعة إلى ذلك؟!

____________

1-المائدة (5) : 55.

2-تفسير الكشف والبيان 4: 80

3-طه (20) : 25 ـ 31 .

4-القصص (28) : 35.

5-تفسير الكشف والبيان 4: 80 ـ 81 .

6-روح المعاني 3: 334 وقد ورد في المصادر بصيغ متنوعة لكنها متقاربة المعنى.

7-تفسير القرآن العظيم ابن كثير 2: 75.

8-المصدر السابق.

9-الدر المنثور 2: 519.

10-تاريخ مدينة دمشق 42: 357.

11-المواقف: 405.

12-شرح المواقف 8 : 360.

13-شرح المقاصد 5: 270.

14-الأحزاب (33) : 6.

15-المائدة (5) : 51 .

16-المائدة (5) : 57 .

17-الصف (61) : 14.

18-الأعراف (7) : 157.

19-الحشر (59) : 8 .

20-غافر (40) : 51 .

21-الميزان 6: 6، بتصرّف.

22-الميزان 6: 7 .

23-التوبة (9) : 71 .

24-تفسير الكشاف 1: 636.

25-تفسير الميزان 6: 9.

26-الشافي في الإمامة 2: 234.

27-الروم (30) : 47.