لقاء خاص مع الشيخ فضيل الجزائري

mqdefault7

س1/ بداية؛ شيخنا الفاضل نودّ أن تعطونا إضاءات على مسيرتكم العلمية.

      أوّلاً: أهلا و سهلا بكم، نشكركم على هذه الثقة التي أولتها لنا.

  1. نشأت في منطقية تقع شرق العاصمة الجزائرية في قبيلة كبيرة ثريّة و ثورية قدمت في ثورتنا مع المستعمر الفرنسي التي أسفرت عن الإستقلال ما يعادل 68 شهيداً كلهم من الشباب. ما يميّز هذه القبيلة أنّها تتنفس في أعراف مشبعة بحب آل  البيت ( عليهم السلام )، كان لوالدي علاق عقدية بالإمام حسين ( عليه السلام ) عجيبة، و كان عند القبيلة عرف سائد هو أنهم يجرحون الأطفال الصغار في جبينهم يوم عاشوراء حتى يغرسوا في ذاكرة الطفل عظمة ذلك اليوم و أنّه في ذلك اليوم سالت فيه دماء زكية طاهرة، و يطعمون أفراد القبيلة في الصباح الباكر القديد ( لحم مجفف بالملح ) ثم يمتنعون عن الأكل إلى العصر كي يعيش الفرد عطش الحسين و أولاد الحسين، و غيرها من العادات التي لم أشاهد ما يماثلها في الشرق. قطعت مسار الدراسة أوّلاً الإبتدائية و كنت أحسن طالب في المرحلة، ثم انتقلت إلى المتوسطة و كنت أيضاً أحسن طالب في مادة الرياضيات، ثم بعد ذلك انتقلت إلى ثانوية في العاصمة تُعَدُ أحسن ثانوية على مستوى كل القطر الجزائري سميت باسم الشهيد ( عمارة الرشيد ) حيث درست هناك ثلاث سنوات أخذت الثانوية العامة سنة 1978 م، ثم التحقت بعدها بجامعة العلوم و التكنولوجية سنة 1979م. و صادفت هذه السنة أكبر ثورة دينية عرفها التاريخ المعاصر أعني الثورة الإسلامية بقيادة المجاهد الكبير الإمام الخميني ( ق.س ). هناك بدأت أنفتح على هذه الثورة المباركة و قائدها العظيم شيئاً فشيئاً، الأمر الذي جرني في نهاية المطاف إلى الإنفتاح على المدرسة العظيمة التي ارتكزت عليها هذه الثورة العظيمة بزعامة شخصية تعد من الشخصيات البارزة في المدرسة في كل تخصصاتها. و هذه الشاخصة في تصوري هي التي ساعدت كل من تبنى هذه المدرسة عقديا و فقهياً من المستبصرين؛ إذ لو كان الإمام الخميني مجرد زعيم سياسي و قائد ثوري لكانت علاقة عشّاق الإمام محصورة بهاذين البعدين فقط. بعد تعرفي على مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) من خلال كتب قليلة قررت الإلتحاق بالحوزة العلمية، و لم أوفّق لتحقيق هذه الأمنية الغالية إلى بداية التسعينات لظروف موضوعية كانت مانعة. المهم في نهاية المطاف التحقت بحوزة قم المقدسة سنة 1992 م. درست فيها على الطريقة التقليدية وكان اتجاهي في الأغلب ينحو نحو المعقول حيث درست ( الإشارات ) بأجزائها الثلاثة: 1.المنطقيات، 2. الطبيعيات، و 3. الإلهيات، عند أستاذ متخصص هو الشيخ حسن رمضاني الخراسانيالمعروف بتقواه وتواضعه وأخلاقه العالية. ثم دورة كاملة في برهان الشفاء عند الشيخ حسن أيضا، كما درست كتاب (تمهيد القواعد) أوّل متن متين في العرفان النظري عند الأستاذ الجليل، ثم دورة (شرح فصوص الحكم) التي استغرقت 9 سنوات. و درست عنده دورة في علم الفلك القديم (شريح الأفلاك) للشيخ البهائي، ودورة في الأخلاق، وباب الزكاة من كتاب اللّمعة الشريف، والمياه والطهارة من كتاب رياض المسائل، ومقدمات في التفسير كانت في غاية الروعة والدقة. كل ذلك في مدة 16 سنة بدون انقطاع. ودرست الحلقات عند الشيخ أسد قصير (حفظه الله تعالى)، و درست كتاب المكاسب. ثم التحقت بمدرسة الإمام الصادق التي يشرف عليه آية الشيخ السبحاني(حفظه الله تعالى) قسم الدكتوراه استغرقت أربع سنوات درست فيها عند أساتذة يعدون من المتخصصين على مستوى الحوزة، منهم: الشيخ الجليل فياضيدرست عنده (نهاية الحكمة) دورة كاملة والجزء السادس من الأسفار. وشرح التجريدعند علي الكلبيكانيو الكلام الجديد عند الأستاذ مالكيان، ودروس أخرى عند الشيخ السبحاني، وغيرهم من الأساتذة الأجلاء. وأما الدرس الخارج فحضرت مدة درس الأصول للشيخ صادق اللاريجاني، وحضرت عند آية الله الشيخ الخائفيالقواعد الفقهية ودورة في ولاية الفقيه ودورة في القضاء. كما حضرت درس (مصباح الأنس) ما يقرب 6 سنوات عند السيد الجليل يزدان بناه الآملي. وحضرت عند الشيخ قائمي نيا المتخصص في فلسفة الدين دورة في الهرمينوطيقا ودورة في اللّسانيات الإدراكية. وحضرت دورة كاملة حول الإمامة والشبهات الواردة عليها عند أستاذ متخصص السيد صادقي. كما حضرت  دورة في (فلسفة الأخلاق) عند الشيخ صادق اللارجاني، ودور في شبهات الدكتور سروشعند الشيخ خسروبناه. كما أستفدت كثيرا من الشيخ الحجة عابدي الشهروديالذي يعد من نوابغ الحوزة العلمية في مسائل كثيرة تتصل بالدراسات الحوزوية وغير الحوزوية. وحضرت سنة كاملة أسفار الجزء الأول عند السيد كمال الحيدري. هذا المسار الدرسي، والحمد لله تعالى وفقت للتدريس في الحوزة العلمية لمدة أكثر من 15 سنوات دروس حرة ودروس في الجامعات في قم المقدسة في المنطق والكلام القديم والجديد، والحكمة بجميع مدارسها والعرفان والمعرفة الدينية وفلسفة الدين غيرها من الفروع الأخرى. ولا أنسى مجال التحقيق والترجمة والكتابة، ولي مشاريع علمية مستقبلية نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإنجازها. وكذلك مجال التبليغ الذي إذا دخلنا فيه ما نخرج منه.

س2/ كيف تقرأ نموّ حركة التشيع في العالم والمغرب العربي بالخصوص؟

  1. أما فيما يتصل بالسؤال الثاني فالجواب عنه طويل الذيل، لنبدأ الكلام من الوضع الذي كان عليه المسلمين قبل الثورة المباركة. كانت الساحة تخضع لتيارات يمكن اختزالها في أربعة: 1. القوميون، 2. الليبراليون، 3. الشيوعيون، و4. الأصولوين. أما القوميون فلا يملكون مشروعاً عقدياً تغييرياً، فقد أفرزهم الوضع الإستعماري الذي كان مخيّماً على العالم العربي، وكانت لهم المبادرة لتحرير أوطاننا العربية من نير الإستعمار، فهذه حسنة تحسب لهم، لكن وراء ذلك: لا شيء: لا مشروع فكري ولا عقدي ولا حتى اقتصادي يسعى إلى تغيير وضع الأمة المزري. أما اللبراليون فقد ذابوا في الفكر الغربي ونمط تعامله مع الأمور في جميع المجالات. فلا ينتظر من هذا الإتجاه أن يفكر في الأمة وهمومها، غير أن مقاليد الأمور بأيديهم في دولنا لأنّ القومي لا يحسن إدارة الأمور فأوكلها إلي هؤلاء، ولذا تجد القومي يتبنى الإسلام في دستوره ولا أثر للإسلام ولا عين له في نظامه السياسي والإقتصادي والثقافي، وهذه مفارقة لا حلّ لها عند القوميون، الأمر الذي جعل المشروع القومي يُرفَض من جميع الأطراف، حتى اللبرالي يراه متخلفاً ظلامياً لا يصلح لتسيير الدولة ولا المجتمع، وكذلك الأصولي يرفضه لأنه يراه متميّعاً دينيناً متساهلا في اللأمور المقدسة. أما الشيوعية فقد كانت تمتاز بشاخصة جميلة هي (الثورية) غير أن النسق العقدي الخشن و المتعفن جعل هذه الشاخصة يمجها الذوق السليم و العقل الراجح. فالشيوعية لا تختلف عن اللبرالية في الرؤية الكونية مادية خالصة حاقدة على الإنسان بخاصة المتديّن منه، تمثل حركة تدميرية لكل ما هو جميل ومقدس في المجتمعات. لهذا السبب لم يكتب لها النجاح ولن يكتب. نأتي إلى الحركة الأصولية التي كانت سادئة في ذلك الزمان (السبعينات)، لم تكن هناك حركة بأتم معنى الكلمة إلاّ حركة الإخوان. هذه الحركة اختارت استراتجية في العمل الإسلامي أنها لا تسخدم العنف وتركّز على العمل الدعوي، وإلى حد ما بعض الممارسات السياسة المحدودة تغازل بها الحكومة، فلم تكن تؤمن بالعمل الثوري في فضاء الإسلام العام، إذا استثنينا السيد قطبالذي تبنى النهج المقاوم، لكن الرجل كان ينقصه نسق فقهي يقنن له هذا النهج كما كان متوفراً عند الإمام الخميني(ق.س). في هكذا أجواء جاءت الثورة المباركة حاملة لمشروع فيه جمال كل الحركات التي مر ذكرها وخالية عن سلبياتها. ففيما يتصل بالثورة التي يتبجح بها الشيوعي فنهضة الإمام كلها هيجان ثوري ما كان الشيوعي ليحلم به، الثورية عند الشيوعي تمرد عن النظام السائد، اما عند الإمام فنمط حياة (نحو وجود) وعقيدة تأسست في تمامها في أرض كربلاء. وأما المشروع الدعوي فالنهضة ترفع شعار الثقلين: وصية إليهية تبلورة نهائيا في غدير خم بأمر إلهي على يد خير البشر. أما الخط الليبرالي فهنضة الإمام ترتكز على حكمة أهل البيت وعرفانهم عليهم السلام، عرفان يطال كل الإنسانية ويقبله عقل كل حرّ. أما القومية فما حققت النهضة المباركة من مكاسب قومية لم يكن يحلم بها كبار مؤسسي القومية في العالم،لأن الإسلام الأصيل لا ينافي الوطنية والإرتباط بالوطن، وخير شاهد حزب الله في لبنان الذي لا يشكّ منصف في اخلاص هذا الحزب المباركة لوطنه. وعلى هذا، فالشخص الذي كان يعيش في هذا المُنَاخ العام و يمتلك قسطا من الفكر الحر وحضاً من العقل، لا يقدر على رفض هذا الخط العظيم، وهذا الذي حدث معي شخصياً، وقد حدث لغيري أيضا، والآن الحركة مستمرة مباركة

س3/ أين تكمن أسباب هذه الحركة في نظركم ؟

  1. أسباب هذه الحركة المباركة ترجع في تصوري إلى المذهب العظيم، لكن بفهم الإمام الحي والمتنوّر، وزيادة إلى وعي الشعب ونصرته لإمامه. كان للإمام مبنىً يخالف به باقي المراجع، فإنّ النصرة (تأييد الشعب) عندهم حصولية أيّ أنّه إذا حصلت النصرة حينها يتصدى المجتهد الجامع للشرائط، فيما هي عند الإمام تحصيلية أيّ على المرجع أن يسعى إلى تحقيق النصرة بتوعية النّاس وتحريكهم، وهذا الذي حصل مع الإمام الخميني (ق.س).

 Capture

س4/ هل يمكننا أن نفرّق بين حركة التشيع إبّان انتصار الثورة الإسلامية وحركته الآن في الأسباب ووضع المتشيعين فكريا؟

 

  1. الحركة في أيام الثورة عرفت بصبغتها السياسية، ولم تكن معروفة في بعدها العقدي والفكري، ولذا من استبصر في ذلك الزمان كان لأجل البديل السياسي والثوري الذي عرفت به الثورة. أما الآن فالوضع يختلف تماماً، الآن ظهر إلى الوجود آليات إعلامية وتبليغية ما كنا نحلم بها زمان بداية النهضة. ففي تصوري الآن جاء دور المعرفة، فحان الوقت لنشر المدرسة في بعدها المعرفي، لكن مع الأسف لم نصل إلى الآن إلى هذا الهدف لأسباب موضوعية لا داعي إلى ذكرها في هذا الحوار. فالعالم الآن منفتح على مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وهذا طبيعي بعدما فشل المشروعي السلفي واللبيرالي والقومي. لكن مع الأسف ماذا صدرنا لهم فقط الخلاف والجدال والخرافة، ونسينا أهل البيت عليهم السلام. والعجيب أنّ المستبصر قد ينفق من وقته الكثير في هاته الأمور كأنّ مدرسة أهل البيت هي الخلاف فقط، فنعرف علياً ( عليه السلام ) من خلال غيره، أين علي ( عليه السلام ) في مصادرنا أين الحكمة العلوية أين التربية العلوية والساسية العلوية والعرفان العلوي و

 

س/ هل هناك عوائق لنموّ هذه الحركة سواء كانت داخلية أو خارجية؟

 

  1. الحركة لا يعيقها عائق لأنّها متصلة بالعصمة والطهارة، لكنها قد تعرقل، وبالتالي تؤخر عن مسيرها المقدس والمبارك؛ وذلك لعوامل داخلية وخارجية، أما العوامل الداخلية فمتعددة منها الطرح الظلامي الذي يتبناه بعضهم ويوهم الطرف المقابل أنّه هو الطرح الأصيل والصحيح الذي يمثل بحق وحقيقي مدرسة أهل البيت، وهو طرح يركّز كثيرا على الجانب الغيبي والخرافي، يتصور أنّه إذا صوّر الأئمة بتلك الصورة الأسطورية فقد جعل المدرسة مميّزة وبالتالي تكون قوية، لكنه نسيّ المسكين أن هذا الطرح جربته الكنسية الكاتولكية ولم توفق في ذلك، بل بالعكس أدى إلى ردة فعل جعلت النّاس يبتعدون عن الدين أكثر فأكثر. ومن العوامل الداخلية المشروع الذي يرى تكليف الحوزة ضيق جدا، يقتصر فقط على بيان التكاليف الشرعية أو الوظيفة العملية التي يحتاجها المكلَّف. لكن المبنى الصحيح في تصوّرنا أن الحوزة يتعيّن عليها الآن البدأ في التأسيس للعلم الديني، وبدون هذا التأسيس تبقى في الحاشية ولا يكون لها دور يذكرحين الظهور. وإن سألتني عن العلم الديني ماذا يمثل؟ أجيبك سريعاً وباختصار شديد: هيمنة تعاليم أهل البيت على مدرجات الجامعة على مستوى جميع التخصصات حتى يكون الجامعي حاملاً لعقل علمي إيامني، وإلاّ نبقى عالة على ما تنتج الجامعات الغربية من أفكار ونظريات. أما العوامل الخارجية فثمة عامل أراه يعيق تطور الحوزة هو الإفراط في تضخيم الوهابية وجعلها هي الهم الأساس في تعاملنا مع الآخر، مع أنّ الوهباية غائبة عن الساحة، جعلها الإستعمار كعائق أمام المشاريع الإسلامية الأصيلة سنية كانت أم شيعية. أما العامل الخارجي الأساس فهو الطرح الليبرالي المتوحش والصهيونية المسيحية، الأول له صبغة اقتصادية فيعمل ليلا نهارا حتى يعرقل المشاريع التي تزاحمه، أما الصهيونية المسيحية فعلاقتها بنا هي علاقة عقدية، فهي أخطر مشروع ننواجهه في حركتنا النهضوية، وهذا يشكّل في حد ذاته موضوع مستقل. فالأخطار تلفنا من كل جانب وشريحة منا لا زالت غير واعية بالأمور، تتصور أن ما تملكه من فكر قديم (مع صحته) يكفي لمواكبة العصر.

 

س6/ ماذا ينتظر الإنسان المتشيّع في المغرب العربي من الفكر الشيعي والمؤسسات العلمية؟

 1147604633

  1. الشيعي المغربي يختلف في ماهيته عن الشيعي المشرقي، هناك في منطقته تقام سنوياً مؤتمرات لشخصيات علمية تاريخية أو حديثة، مثل ابن رشد وابن عربي و فوكو و …  في المشرق ما زلنا نسمع هذه النغمة: محي الدين كافر أم مؤمن، شيعي أم سني، الذنهية المشرقية كأنها لا تحسن إلاّ التكفير، ما زالت أسيرة لذهنيات قروسطية ظلامية. فالشيعي المغاربي يريد مشروع أهل البيت في العرفان، في الفلسفة، في التربية، في السياسة، في الإدارة، في التعليم، في الفقه الحي والمتطور، في الكلام الجديد، في القرآن الذي يفسر لهم مقتضيات الحداثة من علوم وفنون ومجتمع مدني وقانون يحكم المؤسسات. وباختصار شديد ما يريده المغاربي هو تفعيل فكر الإمام في جميع الميادين وشؤون الحياة.

 

س7/ في جانب الدرس الفلسفي؛ عل ترون أهمية في النظر إلى الفلسفة الغربية الحديثة – إن صح التعبير- من قبل أساتذة الفلسفة الإسلامية؟

  1. أما فيما يتصل بالسؤال عن الفلسفة، فالسؤال يزعجني كثيراً، لماذا؟ لأنّ تصور الشيعي العربي عن الفلسفة ظلامي إلى درجة يثير الدهشة. ما زال المسكين يتصور الفلسفة (مطلق الفلسفة) مجموعة من الكفريات والضلالات يحملها ذهن أسود يعادي الديني. وهذا التصور إن دل على شيء فإنما يدل على التخلف الفكري الذي يعاني منه الشيعي العربي. أذكر كنا في درس الشيخ السبحاني في بحث الكلام الجديد، فذكر الشيخ كتاباً له طبع في تلك الفترة، فسألته شخيصا هل الكتاب باللّغة العربية؟ أحابني الشيخ: العرب ليسوا في هذا الوادي، العرب أهل شعر وأدب وتاريخ. انظر كيف ينظر إلينا غيرُنا؟! فالذي أعتقده أنَّ التخصص في هذا المجال أمر ضروري، والإنفتاح على الفلسفة الغربية أمر حتمي، فإنّ كلّ الشبهات التي أثارها الدكتور سروشو غيره والتي أخذت من وقت الحوزة 10 سنوات كلها طرحت في السياق الغربي في مجال التأويليات وفلسفة الدين والكلام الجديد وفلسفة العلم وفلسفة الأخلاق وفلسفة اللّغة. هذا جانب، وهناك جانب آخر مهم هو تفعيل ما يحتويه تراثنا من كنوز، المثل يقول: بالأضداد تتميّز الأشياء، إذا جئنا مثلاً إلى (فلسفة الدين) – التي تعد من المجالات المهمة في الغرب – نجد الموضوعات التي تعالجها بالتحقيق والتحليل معظمها مطروح في تراثنا ربما بشكل أجمل وأعمق، من باب المثال: مسألة حمل الصفات التي نعاينها في الممكتات على الذات المقدسة، يسأل في فلسفة الدين في باب (اللّغة الدينية) عن الضابطة(الملاك) التي تحمل بها مثلاً صفة العلم أو القدرة أو الحياة على الذات؟ طرحت للإجابة عن هذه المشكلة محاولات متعددة كلها فاشلة، أما إذا جئنا إلى تراثنا الفلسفي والكلامي نجد الحل المعرفي عميقاً ومتينا. وكذلك في الحقول الأُخرى. غير أنّ هاته الكنوز نجدها مبعثرة في حقول متعددة لم تعالج في مجال واحد.كنت في خدمة الشيخ الجليل صادق اللاريجاني فقلت له: سمعت أنكم ستتناولون هذه السنة الهرمينوطقا الفلسفية في درس الأصول، وأنكم تعلمون أن هذا الاتجاه التأويلي تهديمي، لا يقول بتعيّن المعنى (المراد الجدي)؟ فقال لي: بلى: لإجل هذا الأمر أريد دراسة هذا الإتجاه حتى أبيّن من خلال هذه الدراسة قوة الطرح الأصولي، و زيادة على ذلك افعل ما عندنا من موضوعات عميقة. و سمعت منه  كذلك هذا الكلام فيما يتصل بموضوعات (فلسفة الأخلاق)، و(الفلسفة التحليلية). وهذا الأمر عجيب يشكّل مادة علمية غزيرة للحوزة ومجالاً واسعاً للدراسات المقارنة. وإذا انفتحنا على (فلسفة القانون) نجد موضوعات قد تنوالها علماؤنا في مجال الفقه عجيبة ومتينة لن نلتفت إليها بدون هذه الدراسة المقارنة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التأويليات القدسية واللّسانيات، وعلم النفس الفلسفي، ونظرية المعرفة، ونظرية المعرفة الدينية. وكثير من المجالات الحية مفعلة في السياق الغربي، في الكمون والفتور في سياقنا المعرفي.

 mqdefault8

س8/ هل ترون وجودا لإبداع فلسفي في المرحلة الحالية، أم أن المشهد الفلسفي الآن – كما يدعي بعضٌ- شرح للفلاسفة الماضين خصوصا العلامة الطباطبائي باعتباره آخر فيلسوف يستحق هذا العنوان بجدارة ؟

 

  1. أمافيما يتصل بالسؤال عن الإبداع الفلسفي، فالجواب يتضح عند معرفة الأنساق الفلسفية في ديارنا. الأنساق الفلسفية في ديارنا مع الأسف الشديد أنساق مغلقة، غير قابلة للتفعيلدخلانياً فتحتاج إلى التفعيل البراني، بإثارة مسائل جديدة على مستوى الحقل غير معهودة، وهذا الذي يحدثنا في حزوتنا الآن لكن بخطوات بطيئة إلى حدٍ ما. و ما يُذكَرُ من إبداع للسيد الطباطبائي (ق.س) لم يكن نتاج الطفرة، فما أثاره من أراء إبداعية كانت مجودة عند أساتذته: منها نظرية الإعتبارات فهي للشخ الأصفهاني، والنكات التفسيرية التي أثارتها في الميزان الشريف لأستاذه العارف الكبير علي القاضي، ما يرجع للسيد من فضل هو بلورة تلك الآراء وإيصالها إلى مستوى النظرية، وهذا عمل ليس هينا في حد ذاته. أما أنّ الإبداع الفلسفي أو غير الفلسفي قد توقف، فهذا كلام مبالغ فيه كثيرا، بل الذي أراه أنّ الإبداع جاء زمانه في جميع المجالات على مستوى الدراسات الحوزوية؛ لأنّ عصرنا يختلف عن عصر السابقين، نعيش في عصر تحكمه المعلومة، الآن الغرب يوظف (السمياء) أي علم العلامات للهيمنة على الإعلام والإعلان، وهذا علم يدرس كما تدرس البلاغة والفقه، فهذا الحقل فيه مجال للإبداع. فعصرنا كما ألحمت عصر العلم والمعلومة، وهذا مجال الحوزةوالجامعة. العناية الإلهية هندسة قابليات الإنسان بحيث تتفتق وتتفجر بما يناسب كل العصر. والآن فيه مجالات واسعة وكثيرة يمكن للعقل الشيعي أن يبدع فيها، ولا يوجد في العالم الإسلامي من هو مؤهل لهكذا عمل إلاّ العقل الشيعي.

 

س9/ إلى ماذا ترجعون غياب – أو شبه غياب – الفكر الشيعي عن نظر الكتابات الفكرية العربية المعاصرة، هل هو قصور أدوات التواصل عندنا، أم هو تقصير من قبل المثقفين العرب؟

  1. أما فيما يتصل بغياب الفكر الشيعي في الأوساط الثقافية العربية المعاصرة، فقصة طويلة الذيل. التقيت برئيس (معهد الفلسفة) بثاني جامعة في الجزائر، قال لي: كتبت ملزمة عن الفلسفة عنوانها: انتهت الفسلفة الإسلامية بموت ابن رشد، فلمّا استبصرت تبيّن إني كنت مشتبهاً، فندمت على هذا الفعل. فغايب الفكر الشيعي واضح جدا على مستوى المؤسسات الثقافية العربية. السرّ في اعتقادنا يرجع إلى عدة أسباب: 1. إنّ الدين جاء بقضايا إيمانية وقدسية حتى يفهمها الإنسان،وبالتالي يهتدي إلى الحق ويتكامل إذا فعّل إردته وحسن إختياره. لكن بلورة هاته القضايا الإيمانية يحتاج إلى لسان يفهمه العقل الذي يحرك المجتمعات، واللّسان هو لسان العقل والحقل المعرفي هو الفلسفة بمعناها الواسع أيّ تلك الفعالية الذهية التي تركّز على مفاهيم عامة وانتزاعية في مجال التواصل المعرفي، والموضوعات التي تتحرك فيها هذه الفعالية قد تكون تشريعة وقد تكون عقدية تفسيرية أخلاقية، لا تهم نوعية الفعالية، المهم أن تكون عندنا هكذا فلسفات، والآن ما عندنا هذا الأمر على مستوى الحوزة العربية. فالتواصل المعرفي مع الخارج فاتر ويبقى ضعيفاً ما دمنا لم نفكر في هذا الموضوع. عامل آخر:إننا نفتقد لآليات حدثية تساعدنا على تطوير خطابنا الديني. نفتخر بالحكمة المتعالية (إلى درجة أن بعض المحققين يراها نهاية الفلسفة) هل عندنا آليات معرفية حَدَثَية نوصل بها هذا التراث الفلسفي الضخم إلى الآخر؟ لا أعتقد ذلك. وكذلك المسائل المعرفية في الحقول الأخرى. نعاني عجز كبير في تفعيل الخطاب الديني في ديارنا. أشاهد بعض فضلائنا على الفضائيات يتكلمون عن المفاهيم العالية التي تمثلها مدرستنا بخطاب ديني متخلف ينقص من قيمة تلك التعاليم المعرفية والجمالية. فإذا نجحنا في تفعيل الخطاب الديني بآليات تناسب العصر فلا تصمد أمام ثقافتنا ثقافة من الثقافات. فالعالم العربي الآن في غاية الحاجة إلى ثقافة أهل البيت الجميلة والرائعة على مستوى المعقول وعلى مستوى المعنويات والأخلاقيات.