كل ما في مسرا البرهمي

(هندوسي ـ الهند)

ولد في ما يقارب العام ١٣٠٠هـ ، ونشأ في أسرة هندوسية، وواصل دراسته الأكاديمية إلى أن نال شهادة الهندسة.

شاءت الأقدار الإلهية أن يدخل (كلّ ما في مسرا) العراق مع الجيش الهندي في ابتداء الحرب العالمية وهو من أبناء الأربعين، وأصبح فيما بعد رئيس الهندسة على جدول (جورجي) في الفرات الأوسط.

التأثر بالتزام المسلمين بدينهم:

في العام ١٣٣٦هـ دخل السيّد محمّد مهدي آل قنبر على العلامة السيّد هبة الدين الشهرستاني في كربلاء؛ يستأذن السيّد لقبول (كلّ ما في مسرا) مباحثاً معه في الديانة الإسلامية، ولمّا سأله الشهرستاني عن السبب الحقيق لطلبه البحث قال آل قنبر: إنّي موظف عند البرهمي، وكان يراني أصوم شهر رمضان مع حرّ البر، فصار يحادثني عن الشؤون الدينية أوقات فراغه؛ حتّى قال لي ذات يوم: إنّ شدّة التمسك منكم بدين الإسلام دليل على أنّ الإسلام دين ينطوي على حكمة جذّابة؛ استهوت عقولكم وعواطفكم إلى درجة التعشّق، لكنّني آسف على أنّك لا تعرف من بواطن دينك ومعارفه شيئاً، حتى تجيبني عمّا أسأل.

ثم سألني: هل عندكم علماء مرشدون يسهل السبيل إليهم، والتحاور معهم؟

فقلت له: نعم.. وها هو قد جاء ونزل في دار السيّد أبي جعفر صاحب المعظم.

فتأمّل السيّد الشهرستاني، ثم قال: أنا أزوره، فإنَّ القادم يزار، والضيف يُكرم، ولو كان كافراً.

مناظرته مع السيّد الشهرستاني:

لما جاء السيّد الشهرستاني ـ وفي المجلس السيّد محمّد الحكيم، وميرزا محمّد باقر خان بهادر، وجماعة آخرون ـ وتبودلت عواطف الولاء، قال (كلّ ما في مسرا) : إنّ الإسلام يفرض على الجميع عبادة شيء لا يُحَسّ ولا يُمسّ، لا لون له ولا شكل، ولا… ولا.. لكن هذا غير معقول، ومخالف للمصلحة.

أما أنّه غير معقول؛ لأن العقل لا يمكنه أن يعترف بثبوت شيء لا يُحس ولا يُمس، لا لون له، ولا شكل.. أرجو العفو في قولي: إنّ العقل مهما كان دقيقاً، فلا يستريح عند التصديق به. وأما قولي: إنّه خلاف المصلحة؛ فلأن الدين قد يعتبر بعض الأشياء لمصلحة، وبما أنّ العبادة أساس الديانات، ولا يستثنى منها أحد، فالمصلحة تبعث إلى جعله سهلاً واضحاً نافعاً، حتى يرغب العموم فيه، ويقتدون به، فسامحوني إذا قلت: إنّ أكثر البشر لا يقدرون على الاعتراف بوجود شيء غير محسوس.

أما نحن البراهمة فنرفض إجبار الجميع على العبادة، ونتركهم أحراراً في انتخاب ما يعبدون ممّا يحسبونه عظيماً، فالجاهل قد يعبد أبويه، أو المنعم عليه، ثمّ يترقّى إلى عبادة أعظم ما يراه بين يديه، وهكذا إلى أن يصير فيلسوفاً، فيعبد إله الآلهة فوق السماوات العلى !

فأبهر الحاضرين حسنُ بيانه، وكان السيّد محمّد الحكيم يترجم ما قاله باللغة الهندية بكل براعة، وبلاغة.

فقال الشهرستاني: سامحني إذا سألت: هل فيك وفي جمهور البشر روح وعقل؟

فأجاب (كلّ ما في مسرا): نعم بديهي وجودهما في الجميع!

فواصل الشهرستاني كلامه قائلاً: وهل هما محسوسان ؟ وما لونهما ؟ وكيف شكلهما ووصفهما؟

فأجاب البرهمي: العفو! لا يدّعي أحد أنّه رأى الروح أو العقل، حتّى يصف لونهما أو شكلهما، فإنّهما غير محسوسين بالحواس البشرية. فقال الشهرستاني: إذن قد اعترفت بأنّ كلاً من الروح أو العقل لا يُحس ولا يُمس، ولا يوصف بلون أو شكل.. ومع ذلك تعترف بأنّه موجود فيك، وفي غيرك، فأرجوك أن تتذكر قولك سابقاً في الاعتراض على معبودنا بأنّه لا يُحس ولا يُمس… وتتذكّر قولك: إنّ العقل لا يسعه أن يتصوّر وجود غير المحسوس، فضلاً عن عبادته… الخ، فإذا بقيت الآن على اعتراضك يلزمك أن تنكر العقل والروح أيضاً؛ لأنّهما موجودان، وغير محسوسين، وإن عدلت عن قولك تحوّلنا إلى بحث آخر!

فقال البرهمي: العفو! أوضح لي كيف أنّ العقل يؤمن بغير المحسوسات؟

فقال السيّد الشهرستاني: بما أنّ العقل ثابت وغير محسوس بنفسه، بل هو محسوس بأثره، فإنّه يؤمن بتحقّق أمثاله من الحقائق الخفية التي تبدو آثارها محسوسة، ودلالة الأثر على وجود المؤثر مسألة طبيعية، ومنطقية معاً.

مثاله: أنّ الانسان يحسّ من أخيه باليقين آثاراً لا تنفكّ عن العلم والعقل معاً، مثل الكلام، والكتابة، وهندسة البناء، وغيرها، فيجزم باليقين أنّ في صاحبه عقلاً مدبّراً لأفكاره وأعماله، ولكنّه مع يقينه بتحقّق العقل جاهل بحقيقة أصله، وهكذا يعرف الإنسان ربّه.. أي: يحسّ بكائنات الأرض والسماء، ويرى لهن أنظمة متقنة، فيعتقد أنّ لهذه الكائنات مدبّراً حكيماً، ومنظّماً عظيماً.فالعقل يعتقد من ذلك بثبوت هذا الربّ المدبّر الحكيم، القادر العليم، وإنْ جهل أصله، وتفاصيل كنهه.

فقال (كلّ ما في مسرا) بكل مسرة واستحسان: هل هذا من فكرتكم؟ أو موجود في كتاب نبيّكم، ويعرفه المسلمون؟

فأجاب الشهرستاني: نعم توجد إشارات إلى ذلك في كتاب نبينا محمّد صلي الله عليه وآله، كما في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ(1).

وفي آية أخرى : ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي(2) .

وكذلك:﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ (3).

وفي الحديث عن النبيّ صلي الله عليه وآله : (من عرف نفسه عرف ربه)(4).

فقال البرهمي: كفاني هذا الكلام الصحيح! ولكن أتجاسر بأن أقول: إنّ هذه الحقيقة العالية لا يدركها إلّا عظماء الحكماء، والعبادة عمل العموم، فلا بدّ أن تؤسَّس على صورة سهلة الحصول، وهي التي لدينا من التدرّج في المعبودات حسب تدرّج عقلية العابد.

أجاب السيّد قائلاً: لا يسع المقام بيان نظرية التدرّج والتطور، ولكنّها إن تمّت في عوالم المادة، فإنّها لا تتمّ في التديّن والروحانيات العالية.ولكن يسعني القول في جوابكم بأنّ العبادة ـ كما قلتم ـ هي: الحجر الأساس القائم عليه بناء الدين، فإذا استقام من مبدئه على صحة، استقام كلّما بني عليه.. وهذا أصل مسلّم. ومسلّم أيضاً قولك : إنّ الديانة ضرورية للبشر، فلا بدّ وأن تؤسَّس على أصول بسيطة سهلة القبول، سمحة المفعول، وعلى هذين الأصلين اُعاهدك على أنّ أساس العبادة في الإسلام مبني على الصحّة والاستقامة، وهي عبادة الإنسان لخالقه؛ الذي هو: خالق الكائنات عامّة، وهذا الخالق بما أنّه مبدأ وجود الكلّ ومنعم الكلّ، حقيقي يتوجّه الكلّ إليه وحده في العبادة، وأنّ هذا المعبود، وإن خفي على حواسّنا، فإنّ خفاء حقيقته لا ينافي ظهور تحققه بالآثار، كما أنّ الروح التي هي آية الله في كلّ انسان، خفيت أيضاً عن الحواس، ولكن خفاؤها لا ينافي إيمان الجميع بثبوتها..إذن فعبادة المسلمين صحيحة متينة، وسهلة القبول، حسب الأصلين السالفين.

أمّا ذهاب البراهمة إلى نظرية إرخاء العنان للإنسان حتّى يعبد كلّما يخاله أعظم من نفسه، فيصبح البرهمي عابداً لأبويه، ثم يضحي عابداً الأشجار، ثم يمسي عابد الرعود والبروق.. أمر باطل، وصعب القبول على العقول، وخلاف المصلحة العامة.

أمّا بطلانه: فلأن العبادة خضوع اختياري من العابد للمعبود، ومثله لا بدّ وأن يوجد بسبب غير القوة والقهر، أعني به: استحقاق المعبود للخضوع له، فبأيّ سبب استحقّ منك الحجر والشجر والبقر أن تخضع لها، وأنت أقدرمنها، وأرقى وأنفع لها، وأدرى؟ فعبادة الإنسان لما دونه غير صحيحة، وباطلة.

وأمّا كونه صعب القبول لدى العقول: فلأن البرهمية تولّد لك في كلّ عام ألف معبود، ونفس الإنسان لو خيّر بين عبادة واحد هو أعظم الكلّ في الكلّ، وبين عبادة آلاف الالوف، من صغار وكبار، فأيّهما السّهل المقبول، وأيّهما الصعب الموجب للنكور؟

وأمّا كونها مضرّة ومخالفة للمصلحة العامّة: فلأن البرهمية تريك في تجوّلاتك من معبود إلى معبود خطأك في الأوّل، ثم في الثاني، ثم في الثالث، وهلّم جرا، فتربّي فيك وفي أمثالك صفة العكوف على الأباطيل والأكاذيب والأوهام، وسهولة الإقامة على الضلّة والذلة، وتمحو منكم نفسية الحاكمية، وهنّ من أمّهات الرذائل والأخلاق الذميمة.

فما أن اختتم السيّد الشهرستاني كلامه حتّى بدت دلائل الانفعال في وجه (كلّ ما في مسرا)، وأظهر بقوة لهجته انقياده للحجة، واعترافه بفساد ما كان عليه سابقاً، وأنّ التوحيد هو الدين المكمِّل لنفسية الموحدين.

اتّباع الدين الإسلامي ومذهب أهل البيت عليهم السلام:

جرت بعد ذلك مباحثات هامّة أخرى في فصول النبوة والإمامة، أسفرت عن اعتناق (كلّ ما في مسرا) لدين الإسلام الحنيف ومذهب الشيعة؛ مذهب أهل البيت عليهم السلام، ثم سأل عن شرائط التديّن، فأملى عليه السيّد الشهرستاني الشهادة الكاملة، وهي الإقرار لله بالوحدانية ولنبينا محمّد صلي الله عليه وآله بالنبوّة، ولعلي وأبنائه المعصومين بالإمامة والخلافة عليهم السلام.

وقد ألّف (كلّ ما في مسرا) بعد استبصاره عدّة كتب مهمّة، إحداها حول الصلاة، والأخرى حول بطلان ما عليه البرهمانية(5).

____________

1- فصلت (٤١): ٥٣.

2- الأسراء (١٧): ٨٥.

3- إبراهيم (١٤): ١٠.

4- راجع: بحار الأنوار ٢: ٣٢.

5- ما أشير إليه هنا ذكره البجنوري في كتابه (المستبصرون) : ١٧٧ ، نقلاً عن: ماذا في التاريخ٢٥: ٣٧٩ . (بتصرّف يسير).