لقد تشيعت بسبب الحسين!

فصل من كتاب: نعم لقد تشيعت وهذا هو السبب،

تأليف: محمد الرصافي المقداد.

ذكر المؤلف في هذا الفصل من كتابه بأن أحد أسباب تشيعه هو حقية نهضة الإمام الحسين (عليه السلام):

الحلقة الرابعة والعشرون

شيّعني الحسين(عليه السلام)

جاء مرافقاً لاحد الإخوة المستبصرين ، لم أكن أعرفه من قبل ، قال عنه مرافقه : إنّه قد استبصر حديثاً ، وعرف حقيقة الإسلام المحمّدي الذي لم تخالطه شائبة من شوائب المستكبرين والمشركين ، وكان ذلك من طريقه ، ثمّ قدّمه : الأخ عماد ، شاب من شباب الإسلام العظيم ، تربّى في أسرة ملتزمة بدينها ، في عصر قلّت فيه الأُسر الملتزمة ، أخذ أبجديات العبادة عن والده ووالدته ، قبل أنْ يبلغ سن التكليف ، فزاده ذلك دفعاً نحو الالتزام الكامل ، تعرف على إسلام أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وبحث في خصوصيّاته وتفاصيله ، فرآه أقرب إلى الوحي والنبيّ(صلى الله عليه وآله)من غيره من المذاهب التي تسمّت بأسماء أصحابها ، فالتزم به وباشر تطبيق شعائره وأحكامه ، وأحلّها محلّ الشعائر والأحكام التي كان يطبّقها بطريق التقليد الوراثي ، حدّثته عن فكرة الإدلاء بإفادات المستبصرين ، فرغب في أن يكون ضمن مَنْ سيُدلي بدافع تشيّعه لأئمة أهل البيت(عليهم السلام) .

فما كان منّي إلاّ أنْ رحبّت بقدومه ، وشكرت له سعيه من أجل إظهار الحقّ ، ثمّ طلبت منه أنْ يدلي بإفادته فقال :

كم يشعر المرء بالغباء والغبن عندما يستفيق من غفوته ، ويخرج من غفلته ، وكم تكون ردّة الفعل سريعة ، لطرد كلّ تلك الآثار التي علقت بنفسه ، وأعاقتها ردحاً من الزمن .

فيما مضى من عمري ، كنت من بين ملايين المسلمين الذين دخلوا الدين من بوابّة التقليد المجرّد من العلم والمعرفة ، ومع أنّني انتهجت بعد نضجي وإدراكي


الصفحة 234

لبعض التكاليف الواجبة عليّ ، منهج الإسلام الشمولي الذي لا يفصل الدين عن الحياة ، والذي يعتبر أنّ السياسة جزء أساسيّ لا يتجزّأ من الدين الحنيف ، فقد بقيت سالكاً نفس النهج التقليدي للعبادة والفهم ، ومتّبعاً أثر التديّن الذي اكتشفت فيما بعد أنّه من املاءات الأنظمة التي خضعت لها رقاب المسلمين بالجبر والإكراه قرون عديدة ، دون أنْ ألتفت إلى مصدر هذا الفقه ، ولا العصر الذي جاء منه ، وطبيعيّ أن يكون نتاج الظلم تحريفاً لحقيقة الدين وسموّ معانيه ، ووضوح أحكامه ; لأنّ طبيعة الانحراف لا تولّد إلاّ انحرافا مثله .

لم أسمع أو أقرأ عن المسلمين الشيعة إلاّ كلّ منكر وسوء ، فقد كان منطق التكفير هو السائد حيال تلك الفرقة ، من جانب الخطّ الذي كنت منتسباً إليه ، والمعروف بالخطّ السنّي ، استناداً إلى جملة من التهم التي ألصقت بواجهة تلك الطائفة ; لذلك لم أكلّف نفسي عناء البحث عنهم ، ولا تبادر إلى ذهني ، ولا خالطني شعور أو إحساس بالسؤال عنهم والاهتمام بهم ، حتّى الثورة الإسلاميّة في إيران ، لم تكن عندي بالمقدار والأهميّة التي كان يجب أن تكون عليه ، وقد استغلّ الاستكبار العالمي هذه الفجوة ليعمّق الشرخ ، ويباعد بين عموم المسلمين وبين تلك النهضة المباركة ; تأصيلا منه لروح العداء والضغينة التي أسّسها المتسلطون الأوائل على رقاب المسلمين ، فالشيعة في محصّلة الفكر السنّى ، كفار مارقون ، وروافض حلّت دماؤهم وأموالهم وأعراضهم ، واستمرّ اعتقادي في الشيعة بتلك القناعة ، إلى أنْ جاء يوم شاهدت فيه بالصدفة مراسم عاشوراء التي دأبوا على إحيائها ، من خلال قناة تلفزيونية فرنسيّة ، فشكّلت مشاهدتي لتلك المظاهر صدمة نفسية ، كان لها الأثر الكبير في تحوّلي من الخطّ الوراثي الذي كنت أسلكه ، إلى الخط المعرفي الذي استبدلته به .

فنهضة الإمام الحسين(عليه السلام) ، وثورته المباركة ، وشهادته العظيمة ، وتضحيته من


الصفحة 235

أجل الإسلام ، لم تكن تعني شيئاً عند أتباع خطّ الإسلام السنّي الأشعري ، الذي اعتمده أغلب حكّام المسلمين ، الذين لا يحبّذون الثورات والثوار بطبعهم ، ويرون فيها وسائل لهدم أنظمتهم ، وتقويض أسسها المبنيّة على الظلم والتعدّي والاستكبار . دفعتني صدمة تلك المشاهد إلى الاستغراب والسؤال : لقد تعوّد مجتمعنا على الاحتفال بيوم عاشوراء ، على أساس أنّه يوم مبارك يفرح فيه المسلمون ، ويطبخون فيه الحبوب ، ويظهرون فيه الزينة ، والتوسعة على العيال ، ويصومون ذلك اليوم قربة إلى الله ، فإنّهم قد بنوا صيامه على مقالة منسوبة لليهود تقول : إنّ عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى من فرعون ، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله)لأصحابه : “أنتم أحقّ بموسى منهم ، فصوموا”(1) ، ووجدت خبرين أخرين يقولان مع اختلاف في أسماء الأنبياء بينهما ، بأنّه اليوم الذي أنجى فيه الله سبحانه وتعالى عشرة أنبياء(2) ، فلماذا يكون يوم العاشر من المحرّم عندنا يوم فرح وسرور ، ويكون عند الشيعة يوم حزن وبكاء وسواد؟ أين تكمن الحقيقة يا ترى؟

هالني وأنا أتابع باهتمام كبير مراسم الحزن والعزاء التي يقيمها المسلمون الشيعة على الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء ، ووجدت نفسي أتساءل عن معنى تلك المراسم وحقيقتها .

ورغم حصول تلك الرجّة ، لم استطع أنْ أتبيّن حقيقة الإمام الحسين(عليه السلام)ويومه العظيم ، إلاّ بعد أنْ التقيت بأحد أفراد الشيعة في المدينة التي أعيش فيها ، رأيت أنْ أسأله عن تلك المظاهر التي تراءت لي غريبة في بعض تفاصيلها .

قلت له : لماذا يفرح المسلمون السنّة يوم عاشوراء ويفرح اليهود فيه أيضاً ، ومقابل ذلك نجد الشيعة يكثرون من مظاهر الحزن فيه؟

____________

1-صحيح البخاري 5 : 212 .

2-انظر على سبيل المثال تاريخ دمشق 62 : 264 ، مواهب الجليل للحطّاب الرعيني 3 : 314 .


الصفحة 236

فقال : إنّنا أمام خبرين أحدهما رواية والآخر دراية ، فخبر أنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وأنّ اليهود يصومونه تبرّكاً به ، ليس له أصل في الواقع ; لأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) ليس له مصدر لاستقاء معلوماته غير الوحي فلم يؤثر عنه أنّه اتّبع يهوديّاً أو نصرانيّاً في مسألة من المسائل ، ويكفي الرواية وهنا وبطلاناً أنّ اليهود لا يعتمدون التقويم القمري ، ولو قدّر للرواية صحّة ، ووافق ذلك اليوم يوم العاشر من المحرّم فانّه لا يتّفق قطعاً مع بقيّة الأعوام ; لنقص تعداد السنة القمريّة عن السنة الشمسيّة ، ومنه يتضح حال الخبر القائل بأنّه اليوم الذي أنجى الله فيه عشرة أنبياء منهم نوح وإبراهيم ، النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) ، أولى باللطف الإلهي والعناية الربانيّة ، فإنّ خبر استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) ، وخيرة أهل بيته(عليهم السلام) وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، يوم عاشوراء خبر دراية ; لذلك اعتمد المسلمون الشيعة على الدراية ، ورأوا التعامل مع ما هو قطعيّ الدلالة على اتّباع الظنّ ، والتعبّد بالموضوعات التي اختلقها الطغاة ، من أجل التغطية على جرائمهم .

قلت له : فلماذا كلّ هذا الحزن على الحسين بن علي(رضي الله عنه) ؟ ألا يكفي ما أظهره عليه أهله وأتباعه عند موته؟ ألا يعتبر ذلك من البدع المنسوبة للشيعة؟

فقال لي : قد لا تختلف معي إذا قلت لك إن الإمام الحسين(عليه السلام)هو ريحانة النبي(صلى الله عليه وآله)(1) ، وقد لقبّه هو وأخوه الحسن بن علي(عليهما السلام)بسيدي شباب أهل الجنة(2) ، وهو خامس أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير التي تقول :{إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3) وقد نسبه النبيّ

____________

1-صحيح البخاري 4 : 217 .

2-سنن الترمذي 5 : 321 ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 2 : 423 ، ح796 .

3-الاحزاب : 33 .


الصفحة 237

إلى نفسه نسباً باطناً فوق نسبه الظاهر فقال : “حسين منّي وأنا من حسين أحبّ الله من أحبّ حسينا” (1).

قلت له : كلّ ذلك واضح وصحيح ونعترف به ، مع أنّنا لا نجد فيه مبرّراً لإقامة تلك المراسم .

فقال : ذلك ممّا لم تتبيّنه أنت ولا أتباع خطّك ، من خلال رؤيتكم للأشياء بعين العصبية المذهبيّة ، لذلك فإنّني أرجو أنْ لا تقاطعني حتّى أكمل كلامي في بيان حجّتي المتمثلة في الحزن على أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) ، في محنته ومصيبته يوم عاشوراء ..

سكت قليلا ثمّ قال : هل تعلم أنّ من بين التكاليف التي ألقيت على جميع المسلمين ، مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى : {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2) وقد سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن ماهيّة القربى الذين أشارت إليهم الآية ؟ فقال : “علي وفاطمة وأبناهما” . وقد أراد الله تعالى أنْ يكرم نبيه بأن ألزم المسلمين محبّة قرباه(صلى الله عليه وآله) واحترامهم ، وتقديمهم ، وتبجيلهم ، وتوقيرهم ، وجعل ذلك أجراً لرسالة الإسلام التي جاء بها إلى الأمّة ، وذلك كلّه يندرج في معاني المودّة التي تضمنتها الآية الشريفة . ومودّة القربى تلك كماترى ، أصبحت تكليفاً واجباً على كلّ جيل من أجيال المسلمين ، ممّا يترتب عليه بالنسبة إلى تلك الأجيال أن تلتزم بإيفاء النبيّ(صلى الله عليه وآله) حقّه في مودّة قرباه ، طاعة لله تعالى وامتثالا لأمره . ومحنة الإمام أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء هي محنة النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وخروجه طلباً للإصلاح ، هو طاعة لله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

____________

1-سنن الترمذي 5 : 324 ، مسند أحمد 4 : 172 .

2-الشورى : 23 .


الصفحة 238

قلت له : لكنّنا نحن أهل السنة نحبّ أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله)ونحترمهم ، لكنّنا لا نغالي في ذلك كما تفعل الشيعة .

قال : بيّن لي كيف تحبّون أهل البيت؟ وكيف يمكنكم تجسيد ذلك وإظهاره ؟ وماذا قدّمتم للأطهار(عليهم السلام) حتّى توفون بواجبكم نحوهم ، ويعتبركم أهل البيت(عليهم السلام)من محبيهم حقّا؟ فللمودّة والحبّ تطبيقات ، كما تظهر لهما من خلال ذلك علامات ، لابدّ من تجليها على المحبّ ، وإلاّ لم يكن الأمر كذلك .

ونظرت بيني وبين نفسي ، وغصت في أعماق مشاعري وأحاسيسي ، باحثاً عن مظهر أو علامة استدلّ بها على حبّي ، وحبّ أهل السنّة لأهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فلم أجد شيئا ألوذ به ، فلم أجد له تجسيداً ولا عثرت على دليل يكون إلى جانبي ..

خيّم عليّ صمت أشبه بالوجوم ، فقال : لماذا سكتّ؟ ألأنّك لم تجد ما يصدق دعواك في محبّة أهل البيت(عليهم السلام) ، وأضيف لك أنّ المحبّة اتّباع وتأس ، وهو الركن المهم والمطلوب في هذه المودّة ، قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ}(1)فهل اتّبعتم أهل البيت(عليهم السلام) في شيء من الأشياء ، وهي كلّها سنن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، تعلّموها وورثوها منه؟ أنا لا أظنُّ ذلك ، بل أجزم أنّكم لم تتّبعوهم في شي مطلقاً ، ونفضتم أيديكم منهم ، ووقفتم في صفّ المحاربين لهم بدءاً من السقيفة وانتهاءً ببقائكم على ولاية من ظهر عداءه للدين ، من هؤلاء الفسقة والظالمين ، الذين يجثمون على صدوركم ، وتعتبرونهم أولياء أموركم .

قلت : على رسلك ، فإنّ جانباً هامّاً من أهل السنّة ، والمتمثّل في طلائعه المثقّفة لا تؤمن بولاية هؤلاء الأشرار من أتباع حزب النفاق ، والحركات الإسلاميّة الحديثة قد خرجت من قمقم طاعة الظالمين ، بعد أنْ جرّبته طويلا

____________

1-آل عمران : 31 .


الصفحة 239

ووقفت على بطلانه .

قال : وهل تعتقد أنّه خروج حقيقيّ ، ألا ترى أنّها ما تزال مقيمة على تلك المذاهب التي أسّسها هؤلاء الظلمة ، ألم يكن مالك على سبيل المثال صنيعة أبو جعفر المنصور العباسيّ ، وذلك من أجل حمل الناس على ترك سادس أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) ، الذي كان وأبوه محمّد بن عليّ الملقب بالباقر وبقيّة الأئمّة(عليهم السلام) أساتذة كلّ هؤلاء الفقهاء .

قلت : هذا صحيح ، إلاّ أن ذلك مردّه قلّة الوثوق بالبديل الذي يستطيع تعويض منهجهم القديم .

قال : بل إنّي أراه نتاج ثقافة أسّست على الكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وحاكمية وقعت ضحيّة أناس ليسوا أهلا للقيام بها .

قلت : فإلى أيّ حدّ تذهبون بمودة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟

قال : ليس للمحبّة حد يا صديقي ، أحبب أهل البيت(عليهم السلام) ، وكلّ الذين وصلوا إلى مقام القرب الإلهي ، بقدر ما تشاء وتريد ، فقط لا تخرج بهم من دائرة المخلوقيّة ، وافعل ما بدا لك ; لأنّنا في هذه الشعيرة متنافسين من أجل تحصيل الأجر الأكبر ، كما ترغّبنا فيه بقيّة الآية : {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}(1)ثمّ تعال لأقرّب لك فهم المودّة : لو أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان في زماننا وخرج من أجل أنْ يُصلح في أمّة جدّه ، ماذا أنت فاعل؟

قلت : أخرج معه قطعاً .

قال : لا تستعجل على نفسك هكذا ، فلو كنت فاعلا ذلك حقّاً ، لما استكثرت عليه هذه الجموع المحيية لذكراه ، والهاتفة باسمه .

قلت : ألا يكفي بكاء القرون الأولى ، ألم يقل النبيّ(صلى الله عليه وآله) : لا عزاء بعد ثلاث؟

____________

1-الشوري : 23 .


الصفحة 240

قال : لقد قلت لك إنّ كلّ جيل له تكليفه بخصوص المودّة ، فنصرة الحسين(عليه السلام)واجبة على من سمع بخروجه ، والبكاء عليه من الأمور المطلوبة والمحبّذة ، حتّى لو كان ذلك بعد أربعة عشر قرناً ، لأنّ الإمام الحسين رمز الإسلام ، وبقيّة أصحاب الكساء ، فالبكاء عليه في محنته أمر عبادي يراد به وجه الله تعالى ; أحد أوليائه المقرّبين ، وأحد القربى الذين فرض الباري محبّتهم ، وفوق ذلك كلّه ، فقد بكى النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ولده الحسين(عليه السلام) .

قلت : وكيف بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله) على سيدنا الحسين(رضي الله عنه)وحادثة كربلاء لا تزال في رحم الغيب ، وبينها وبين النبيّ(صلى الله عليه وآله) أكثر من خمسين عاما؟

قال : الروايات في ذلك عديدة متكاثرة وهي تنصّ وتصرّح بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، بكى على ولده الحسين وأقام عليه العزّاء في أوقات عديدة لعلّ أوّلها في يوم ولادة الحسين(عليه السلام) . وها أنا أورد لك روايتين على سبيل المثال فقط :

الأُولى : أخرج الحاكم بسنده إلى أمّ الفضل بنت الحارث : “أنّها دخلت على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فقالت : يا رسول الله ، إنّي رأيتُ حلماً منكراً الليلة . قال : و ما هو؟ قالت : إنّه شديد . قال : وما هو؟ قالت : رأيتُ كأنّ قطعة من جسدك قُطّعت ، ووضعت في حجري . فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : رأيت خيراً ، تلد فاطمة إنْ شاء الله غلاماً فيكون في حجرك ، فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فدخلت يوماً إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة ، فإذا عينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، تهريقان من الدموع . قالت : فقلتُ : يا نبي الله بأبي أنت وأمّي مالك؟ قاله : أتاني جبريل(عليه السلام) فأخبرني أنّ أمتي ستقتل ابني هذا . فقلت : هذا . فقال : نعم ، وأتاني بتربة من تربته حمراء .

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(1) .

____________

1-المستدرك على الصحيحين 3 : 176 ، وانظر أيضاً تاريخ دمشق 14 : 197 .


الصفحة 241

الثانية : أخرج الطبراني بسنده إلى أمّ سلمة قالت : “كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يلعبان بين يدي النبي(صلى الله عليه وآله) في بيتي ، فنزل جبريل(عليه السلام) ، فقال : يا محمّد ، إنّ أمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، فأومأ بيده إلى الحسين ، فبكى رسول الله(صلى الله عليه وآله)وضمّه إلى صدره ، ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : وديعة عندك هذهِ التربة ، فشمّها رسول الله(صلى الله عليه وآله)وقال : ويح كربّ وبلاء . قالت : وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : يا أمّ سلمة ، إذا تحوّلت هذهِ التربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قتل . قال : فجعلتها أمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلت تنظر إليها كلّ يوم وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيم”(1) .

إذن ، فالنبي(صلى الله عليه وآله) بكى على ولده وهو بين يديه ، وكانت عيناه تذرفان الدموع كلما رآه ، لذلك حاول أنْ يبني في قلوب المسلمين محبّة أهل بيته ، والحسين منهم(عليهم السلام) ، زيادة على تأسيس رابطة الأخوّة والمحبّة بين جميع أفراد الأمّة نافياً الإيمان عن كلّ من لا يتقيّد بتلك الثوابت ، فقد قال أكثر من مرّة : “لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه”(2) ، بكاه خيرُ أهل الأرض ، أفلا ترى عدم البكاء عليه إجحافاً في حقّ الإسلام وقيَمه العظيمة . وتدلّ على أنّ صاحبه يتميّز بقلب رقيق وفيّاض بالمودّة والرحمة ، والخطر كلّ الخطر من أولئك الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة ، خرجت الرحمة منها فتركتها صلدة بلا شعور أو إحساس ، والنبيّ يعقوب(عليه السلام) بكى على فقد ابنه يوسف حتّى ذهب نور بصره ، ويعني ذلك أنّه بكى سنين طويلة ، وهو يدرك جيّداً أنّ ابنه لم يمت ، وسوف يلتقي به ، فلم يعاتبه الله سبحانه وتعالى على فعله ذلك ، ولا طلب منه الإقلاع عنه ، فكيف بالله عليك ترى أنت وخطّك الذي تتبعه في البكاء نكارة ومذمّة ، ولا

____________

1-المعجم الكبير 3 : 108 ، تاريخ دمشق 14 : 192 .

2-صحيح البخاري 1 : 9 ، صحيح مسلم 1 : 49 .


الصفحة 242

أراكم متّبعين فيه سنّة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) ، فليس هناك ما يشير من قريب ولا بعيد إلى نهيه عن البكاء ، وما هي والله إلاّ سنّة صاحبكم في نهيه عن البكاء ، بعدما اتّبعتموه في بدع عديدة ، كالبدعة التي استحدثها جماعة في نوافل ليالي شهر رمضان والمعروفة عندكم بالتراويح(1) .

قلت : دعني من هذا كلّه وقل لي الآن ، ما الفرق بين ثورة الحسين(عليه السلام) ، وثورة عبد الله بن الزبير .

قال : كالفرق بين واضحة النهار ، وظلام الليل الدامس .

قلت : كيف ذلك ، وهما ثورتان إسلاميتان؟

قال : لم يخرج الإمام الحسين(عليه السلام) إلاّ بعد أنْ حوصر وضُيّق عليه من أجل أخذ البيعة ليزيد الفاسق لعنه الله ، وباعتبار أنّ أبا عبد الله(عليه السلام) يمثّل القدوة الإسلامية وقمّة التقوى التي يمكن أنْ توجد في المجتمع ، فمثله لا يبايع مثل ذلك الخبيث ، ولم يكن خروجه لنفسه ، أو لحاجة شخصيّة يريد قضاءها ، بل خرج طلباً للإصلاح في أمّة جدّه ، ورغبة منه في إبطال بيعة الظالمين عمليّاً ، وكان هو القدوة المؤهّل لتلك المهمّة ; لتكون الدلالة الكبرى على بطلان مبايعة كلّ ظالم إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها ، لقد جسّد الإمام الحسين الرؤية القرآنية في التعامل مع الظلم ، وبمقارعته له في قلّة قليلة ضرب مثلا قرآنيّاً يقول فيه سبحانه وتعالى : {كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(2) .

فرغم استشهاده(عليه السلام) ومن معه من أهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، فإنّه من يعرف حقيقة الشهادة وفلسفتها ، يؤمن بأنّ الإمام أبا عبد الله

____________

1-والتي اعترف عمر نفسه بأنها بدعة فقال : “نعم البدعة هذه” ، صحيح البخاري 2 : 252 .

2-البقرة : 249 .


الصفحة 243

الحسين(عليه السلام) ، قد حقّق نصراً لم يتسنّى لمن سبقه في ميدان بذل النفس في سبيل الله تعالى ، بحيث حقّقت نهضته المباركة ما كان يؤمّله من يقظة شاملة ، أوقفت الأمّة على حقيقة كانت غافلة عنها ، وتمثّلت في أنّ الأرض حلبة صراع بين الحقّ والباطل ، وكلّ تخاذل من جانب أتباع الحقّ يقابله تطاول من جانب الباطل ، فلا يمكن للدين أنْ تقوم له قائمة وأتباعه متخاذلون متواكلون ينحى بعضهم باللائمة على بعض ، وقد فرّطوا في أسباب عزّتهم ، ورضوا بالمذلّة والمهانة تحت تيه الظلم والظالمين ، ومن لا أهلية له في قيادة الأمّة الإسلامية .

أمّا بالنسبة إلى ثورة عبد الله بن الزبير ، فإنّها لم تكن بذات الصفات التي عليها ثورة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) ، لأنّ ابن الزبير كانت له أطماع في نيل السلطة ، فقد توثّب مع خالته يوم الجمل يريد الفتنة ، وقتل بسبب ذلك آلاف المسلمين ، ولمّا انهزم وقبض عليه ، عفا عنه الإمام عليّ(عليه السلام) ، ومع ذلك بقيت في نفس ذلك الرجل أحقاد ورثها عن خالته ، فلم يشكر اليد التي أنقذته من الموت ، وقابلها بالامتناع عن الصلاة على النبيّ(صلى الله عليه وآله) أيام استيلائه على مكّة ، فمكث أربعين جمعة لا يصلي عليه ، فلما سئل عن سبب إحجامه عن ذلك قال : إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره”(1) . فظهر من خلال ذلك ، بغض الرجل لأهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ومن أبغضهم فهو منافق باتّفاق عقلاء المسلمين ، لقول عليّ(عليه السلام) نقلا عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) : والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، إنّه لعهد النبيّ الأميّ(صلى الله عليه وآله) إليّ ، أنْ لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق(2) . ولو كان الرجل فقيهاً عارفاً ، لما التجأ إلى البيت الحرام ، وكان السبب في انتهاك حرمتها ، وقذفها بالمنجنيق وسفك الدماء فيها ، وقد أشير على أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) بالبقاء في بيت الله الحرام ;

____________

1-تقدّم في حلقة سابقة .

2-صحيح مسلم 1 : 61 .


الصفحة 244

ليسكن عنه طلب جلاوزة يزيد ، فرفض من أجل أنْ لا تنتهك حرمة البيت العتيق .

فالفرق واضح بين الثورتين ، ثورة أسّست لثورات عديدة تمكّنت من الثأر للحسين(عليه السلام) ، و للمبادىء التي حملها ، ولا تزال تقدّم المزيد من الشهداء ، ولا يزال الأحرار يقتبسون من سيرتها ونهضتها الفريدة ، أسلوب الثورة الحقيقيّة ، الخالية من كلّ أطماع الدنيا ، بينما لم يبق لابن الزبير وثورته غير أسطر معدودة ذكرها التاريخ على مضض .

قلت : فلماذا لا يضع أهل السنّة ثورة الحسين(رضي الله عنه) ، ومصيبته في كربلاء موضعها الصحيح الذي يراه الشيعة؟

قال : لأنّ سياسة الظالمين كانت وراء ذلك التجاهل والجفاء ، وقد نهجتْ طرقاً ملتوية من أجل طمس معالم تلك الثورة ، حتّى ظهر من علمائهم من زعم أنّ الحسين قتل بسيف جدّه(1) .

قلت : بارك الله فيك يا أخي ، فهل لديك كتاب يروي تفاصيل تلك النهضة المباركة فإنني أجهل تفاصيلها كما لا يخفى عليك .

قال : وأخيراً ألفت انتباهك إلى نقطة مهمّة في هذا الإطار تقول : إنّ الذين لم يرعوا حرمة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بقتلهم الإمام الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) ، لا يمكنهم مراعاة حرمة سنّته ، ولا إعطائها القيمة التي تستحقّ ، وهي التي لم تكتب عند هؤلاء إلى ما بعد شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) بأكثر من نصف قرن فقتل أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)وذبحه وقطع رأسه الشريف والتمثيل بجثمانه الطاهر ، ما هو في

____________

1-وهو ابن العربي المالكي كما نصّ على ذلك المناوي في فيض القدير 1 : 265، 5: 313 والآلوسي في تفسيره 26 : 73 ، ونقل ابن حجر على أنّه ابن خلدون المالكي كما نقل ذلك السخاوي في الضوء اللامع 4 : 147 .


الصفحة 245

حقيقته وواقعه إلاّ قتل للنبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، وذبح لسنّته ودينه ، وأنت ترى اليوم أنّ مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام) قد أظهرت مكانتها ، وتجلّت أحقيّتها في هؤلاء الأبرار الذين يبذلون النفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، بينما لم يظهر من الجانب الآخر غير المواقف المزرية والتبعيّة المذلّة للظلم والظالمين .

ولمّا لاحظ شدّة اهتمامي وإلحاحي عليه أجاب قائلا : سوف أعطيك كتاب يشفي غليلك .

وتملّكني شعور بالانكسار والخجل من كلّ أسئلتي التي نطقت بلسان تربية مذهبيّة بغيضة ، أسّسها الغاصبون لحكومة الإسلام ، والعابثون بمقدّرات الإسلام والمسلمين ، فزدتُ في إلحاحي على الرجل لكي يستعجل في الإتيان بالكتاب ، فما كان منه إلاّ أنْ لبّى طلبي ، وعاد إليّ بعد برهة وهو يحمل كتابا عن ثورة الإمام الحسين(عليه السلام) .

قرأت الكتاب ، بل التهمت محتواه التهاما لم يحصل لي أن فعلته بكتاب قبله ، فأحداثه وقصّته حتّمت عليّ ذلك .. وبكيت كما لم يبك أحدٌ من الناس ، وعلا صوتي في البيت بصورة لم يكن في إمكان عائلتي التغاضي عن ذلك ، فهرعوا إلى بيتي مُسرعين ، تحلّقوا حولي ليستجلوا الأمر ، لم أقدر على أنْ أمسك نفسي ، فلم أرد على أحد إلاّ بعد أنْ أخذت أمّي برأسي ، ووضعته على صدرها ، وانخرطت هي معي في بكاء لا تعرف المسكينة له سبباً .

ولمّا هدأت أشجاني ، حدّثتهم عن مصيبة الإمام الحسين(عليه السلام) يوم عاشوراء ، والتي هي في حقيقة الأمر مصيبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ريحانته وأهل بيته(عليهم السلام) ، وقرأتُ عليهم مقاطع من تلك المصيبة ، فكان تأثير ذلك كبير إلى حدٍّ دفع بهم إلى البكاء .


الصفحة 246

وتوالت الأيّام بعد ذلك ، وكنت في كلّ مرّة أنهي فيها مطالعة كتاب من الكتب التي كان ذلك الشيعي يقدّمها لي ، أبسط الحديث مع عائلتي بخصوص المحصّلة التي خرجت بها ، ولم يمض وقت طويل حتّى كنت وكامل أفراد عائلتي قد تبينّا صراط الله المستقيم الذي دعانا إلى نهجه ، وهو صراط أهل بيت نبيّه(صلى الله عليه وآله) ، الذين جعلهم الله ورثة علم نبيّه(صلى الله عليه وآله) ، وحفظة دينه ، وأولياء أمور عباده ، والحكّام بأمره ، فأقرّوا جميعا بولايتهم ، وبايعوهم بيعة رضا وقناعة وتسليم ، شاكرين الله سبحانه وتعالى على نعمة الهداية بمعرفة حقيقة الولاية وحقيقة أصحابها .

فكان الحسين(عليه السلام) وثورته ومصيبته ، ومحنة أهل بيته(عليهم السلام) ، السبب في معرفتي لحقيقة التشيّع لهؤلاء الأطهار عليهم الصلاة والسلام ، واقتنعت أنّ الخطّ الذي لم يرع أمر الله في مودّة قربى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وعمل فيهم بخلافها من قتل وتشريد وسجن وتعذيب ، بغضاً وضغينة ، لا يمكنه أنْ يحفظ سنّته التي أهملت عندهم ، وهي التي تمثّل الفهم الكامل للقرآن والتشريع .

أحمدُ الله على الخير العميم الذي أولانيه باتّباع أهل بيت نبيّه الأكرم(صلى الله عليه وآله) ، في زمن بدأت أنوار الحقيقة تتراءى للمبصرين ، وأشكره على نعمة الهداية التي أسبغها عليّ ، أنا عبده الصغير الحقير ، موجّهاً ندائي ودعوتي إلى من لم يتعرف على إسلام أهل البيت(عليهم السلام) ، ليكسروا عنهم أسوار الوهم والزيف والكذب ، ليقفوا على الحقيقة جليّة واضحة ، سائلا الله لهم التوفيق والسداد والسلام .