علي النقشبندي

علي النقشبندي (شافعي / العراق)

ولد سنة ١٣٧٣هـ (١٩٥٤م) في قرية «بامرني» ناحية سرسنك بمحافظة «دهوك» في العراق، ونشأ في عائلة دينية بارزة، لها طريقة صوفيّة معروفة في أنحاء العراق والعالم الإسلامي، خرّجت الكثير من شيوخ الصوفيّة.

أمّا من ناحية المذهب فهم من أبناء العامّة على المذهب الشافعي، شأنهم شأن أكثر الأكراد في شمال العراق.

واصل دراسته حتّى نال شهادة البكالوريوس في العلوم الزراعية (قسم تربية وتحسين الحيوان)، كما نال شهادة الدبلوم من معهد كارل ماركس في «صوفيا» عاصمة بلغاريا في مجال الاقتصاد وتكنولوجيا تربية الأغنام، عمل صحفيّاً في بعض الجرائد العراقية.

بين التصوّف التقليدي والفكر الاشتراكي الماركسي:

يقول «علي»: «كنت أُؤدّي واجباتي التقليديّة من صوم وصلاة حتّى سن الثامنة عشرة من العمر على قاعدة ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ(1)، ونحن بالأصل عائلة دينيّة لها وزنها في العراق، حيث إنّ جدي الكبير هو الشيخ محمّد طاهر النقشبندي مرشد الطريقة النقشبندية في منطقة «بهدينان» في كردستان العراق، وابنه الشيخ بهاء الدين (عمّ أبي) ورث الطريقة من أبيه، ولهما مرقد متروك في قرية «بامرني»، ولازالت الطريقة في العائلة وهي الآن – في حين كتابة هذه السطور – بيد الشيخ مسعود بهاء الدين النقشبندي.

بعد ذلك دخلت كليّة الزراعة في جامعة الموصل، وهناك اطّلعت على الثقافات المتنوّعة المستوردة، فتولّدت لديّ شكوك لم تصمد أمامها معتقداتي الصوفية التقليديّة المتوارثة، وتركت على أثرها واجباتي الدينيّة، ثُمّ تخرّجت من الكلّية ودخلت الجيش لأداء الخدمة العسكرية الإجباريّة سنحت لي بعد ذلك الفرصة لمواصلة الدراسة في بلغاريا حيث رأيت النظام الاجتماعي والاقتصادي للماركسية اللينينية، كما اطّلعت على كتب الفلسفة الشرقيّة والغربيّة كقصة الفلسفة «لول ديورانت»، ودرست كتاباً فلسفيّاً أكاديميّاً بعنوان (أُسس الفلسفة) كما قرأت كتب معظّم فلاسفة عصر النهضة، وطالعت المذاهب الاقتصاديّة الاشتراكية والرأسمالية ثُمّ عدت إلى العراق وبدأت الحرب العراقيّة الإيرانية التي استمرت لمدّة ثماني سنوات.

أوقعت نفسي في الأسر للخلاص من الجحيم:

يواصل «علي» حديثه بالقول: «تهتمّ الأُمم المتحضّرة بابنائها الدارسين، وتعتني الدول المتقدّمة بالكفاءات، وتهيّء لهم مجالات العمل الشريف للاستفادة من طاقاتهم في تعمير بلدانهم، وبناء حضارتهم، أمّا نحن في العراق وفي زمان حكومة البعث الظالمة، فكان أبناء البلد يساقون إلى الموت في حروب لا يريدونها، ويُجبرون على الدفاع عن حكومة تضطدهم قوميّاً ودينيّاً.

إنّ معظّم أبناء الشعب المتمسّك بدينه الإسلامي مضطهدون لمجرّد أنّهم لا ينتمون إلى طائفة الحزب الحاكم الذي لا يؤمن بالدين، ولكنّه اتّخذ الطائفيّة سلاحاً يدافع بها عن كيانه الفاسد، وفي مثل هذه الظروف ماذا يفعل الإنسان العاقل عندما يجد نفسه مُساقاً إلى حرب البلد المجاور الذي تربطنا معه عرى الدين، ووشائج التاريخ والمصير المشترك؟

خاصة بعد حصول نهضة عظيمة في ذلك البلد، قامت بوجه الاستعمار، وطردت الشاه الفاسد، وأسقطت نظامه العميل، حيث كنّا نرى أنفسنا جنوداً ينفذون مخططات المستعمرين لضرب البلاد التي تريد أن تتحرّر من استغلاله.

كنت أحسّ أنّ من واجبي أن لا أُشارك في هذه الحرب القذرة، ولكنّي كنت – كما كان الشعب العراقي بأجمعه كذلك – بين أُمور: إمّا الموت والإبادة الجماعية التي لا ترحم أحداً، أو المشاركة في الحرب التي هي موت آخر، أو الهرب إلى خارج البلد في وقت أحكمت العصابة البعثيّة سيطرتها على العراق وعلى حدوده وزرعت الجواسيس في كلّ مكان، حيث ربّت الكوادر الحزبيّة البعثيّة على مراقبة أهاليهم وعشائرهم، وتقديم التقارير للحكومة عن كلّ حركة يراها النظام ضدّه ولو كانت كلمة بسيطة تنتقد النظام، وقد أدّت هذه الحالة إلى ذهاب مئات الآلاف إلى الموت لانتقام النظام الحاكم منهم بدون رحمة، فضلاً عن الذين يقتلون في جبهات الحرب القاسية.

في مثل هذه الظروف سنحت لي الفرصة أن أُوقع نفسي في أسر القوات الإيرانية للخلاص من محنة لا يعلم إلاّ الله وأبناء الشعب العراقي مدى شدّتها، وقد لا يفهم الآخرين كيف يُقدم الإنسان على إيقاع نفسه في أسر القوات المعادية، ولكنّها محنة مرّ بها الشعب العراقي، كان لأبنائه فيها مواقف كثيرة مضحكة مبكية تسود فيها العواطف، ولا يقبلها العقل المنطقي الظاهري.

محنة الأسر فرصه ذهبيّة:

يضيف «علي» على ما سبق قائلاً: «هل يصدّق المرء إذ قلت له: إنّي كنت أُدافع عن الثورة في إيران، وقائدها رجل الدين، وأنا الرجل الكردي المشبّع بالأفكار الاشتراكيّة!! الذي يعيش في بلد آخر، وينتمي إلى أُسرة من مذهب آخر بينهما تباعدٌ تَلّفه الهواجس والمخاوف.

ولكنّ هذا هو الواقع الذي قد لا يصدّقه الآخرون الذي دفعني إلى إلقاء نفسي في الأسر، وبالفعل كان الأسر فرصة ذهبيّة لي في المطالعة والتحقيق لمعرفة بواطن الأُمور رغم أنّه لم يخلو من الصعوبات.

كتابان وقعا في يديّ – وأنا في الأسر – في مجالين لي فيهما باع، وسابقة مطالعة ودراسة وتخصّص، وهذان الكتابان هما «فلسفتنا» و«اقتصادنا» للشهيد محمّد باقر الصدر(رحمهم الله) الذي واجه نظام البعث، واستشهد على أيدي جلاوزته.

وكان عجبي كبيراً أن يستطيع عالم شيعيّ يدرس في زوايا النجف القديمة أن يواجه عصارة الفكر الشيوعي والغربي بأفكار مبهرة لأرباب الفن، فضلاً عن المُطالع العادي، ولم تكن فترة الأسر في المعسكرات المغلقة مغلقة ثقافياً، بل على العكس وقع في يدي أيضاً العهد القديم والعهد الجديد، حصلت عليهما من بعض المسيحيّين وقرأتهما بدقّة وكتبت تحقيقاً عنهما لازلت احتفظ به.

من الكتب الأخرى التي أزالت غيوم الشكّ عن المذهب الموالي لأهل البيت(عليهم السلام) والتي تركت في قلبي في الأيّام الغابرة هو، كرّاس الباب الحادي عشر الكلامي للعلاّمة الحلّي المتوفّي في القرن الثامن الهجري، وخصوصاً مبحث الإمامة منه الذي فتح الباب على مصراعيه أمامي للبحث في كتب العقائد والتاريخ في خصوص إمامة المسلمين وخلافة رسول ربّ العالمين.

كما واصلت قراءة كتب الحكمة الإسلاميّة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(2)، «والحكمة هي ضالّة المؤمن»(3)، واتّباع الحقّ هو الهدف، ولعظمة الحقّ كان هو الساحة القدسيّة للمعبود المطلق، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ(4).

هذا وقد اتخذت التحقيق في أُمور الدين، وسيلة لمعرفة الحقّ وأهله، وهم أهل البيت(عليهم السلام) الذين أرجو بشفاعتهم النجاة من الذنوب التي اثقلت كاهلي، وقصمت ظهري.

الجهاد في سبيل الله لخلاص العراق من المجرمين:

وهل يصدّق المرء العاقل إذ قلت له: أنّي عدت للحرب مرة أخرى بعد إطلاق سراحي من الأسر، ولكن عن عقيدة صلبة هذه المرة لمحاربة نظام البعث المجرم، وقد أُصبت بالعوامل الكيمياويّة التي استخدمها الجيش العراقي دون رادع من قانون دولي، حيث تتبجح حضارة الغرب من تحريم الأسلحة الكيمياويّة في المحافل الدوليّة، ولكنّ الواقع المُرّ المُضحك المُبكي أنّ دول الغرب هي التي زوّدت نظام صدّام بالأسلحة الكيمياويّة المدمّرة.

لقد دفعت الثمن غالياً – كما دفع ذلك معظّم أبناء بلدي – لهذه الحرب المدمّرة فضلاً عن إعاقتي بالسلاح الكيمياوي، إذ أُصيبت زوجتي بالكآبة لكثرة بعدي عنها في جبهات القتال وهي وحيدة في بلاد الغُربة، ولكنّ الذي يُهوّن الخطب أنّي أرجو أن يكون جهادي في سبيل الله أُسوة بالإمام الحسين(عليه السلام) الذي حارب الظالمين بنفسه وعياله.

____________

1- الزخرف (٤٣) : ٢٣.

2- البقرة (٢) : ٢٦٩.

3- نهج البلاغة ٤: ١٨، الحكمة: ٨٠، سنن ابن ماجة ٢: ١٣٩٥، رقم ٤١٦٩.

4- الحجّ (٢٢) : ٦٢.