تعلّموا آداب المناظرة من السيد شرف الدين الموسوي

بقلم السيد إدريس هاني الحسيني.

ليس من الغرابة في شيء أن ينحدر من قلل عامل الشامخة كل هذا السيل العبقري، الذي غمر مشهدنا بروائعه، علما وجهادا وأخلاقا. فلم يكن السيد شرف الدين الموسوي بدعا في هذا الانبجاس السمح من بلد كريم معطاء ، وسماء تزاحمت نجومها العاملية وتثاقل بها الجبل.بل إن السؤال الأوجب في المقام ، ليس في أن يكون الشخص عامليا عالما، فهذه الأرض لم يحاصرها ضيق المجال ، لتكون قلبا نابضا بالعلم الذي غمر العالم الإسلامي، وإنما السؤال هنا، كيف تكون عامليا عالما تفرض نهجك وتميزك في بحر علمي متلاطم.هاهنا تحضر العبقرية التي هي الضميمة الضرورية ، حيث لا يكفي أن يكون العاملي عالما وحسب، بل تعين أن يكون بذله يفوق غيره بمرتبتين: أن يكون عالما أولا، وأن يحقق تميزه في هذا المجتمع العلمي ثانيا. ولا يخفى أنه إذا كان التميز بالعلم كافيّا في الأول، فإن التميز في الثاني لا يكون إلا بضم العبقرية إلى العلم.ولقد كان السيد عبد الحسين الموسوي قدس سره الشريف، عالما عبقريا بامتياز.

خصائص الشخص
تميزت شخصية السيد شرف الدين العاملي بجملة خصائص قلما تجتمع في عظيم. ولعلها هي الخصائص التي برز بها كواحد من نوابغ عصره ومحلته. من هذه الخصائص تعدد أبعاد عطائه ونشاطه، فلقد كان متفانيا عاملا في مديات مختلفة ، لم يمنعه بعضها من استفراغ الجهد في الأخرى. فهو في جهاده المستميت ضد الاحتلال الفرنسي، كمقاوم لا يلوى له ذراع، وهو في نضاله المعرفي وتحقيقاته الفذة مجتهد بارع التحقيق والتصنيف، وهو في المدى الدعوي والتبليغي خير رسول للكلمة الطيبة السمحة، يكسر مكابرة المتلقي المعاند، ويبلغ عبر منطق البيان إلى حيث يداعب ذوقه وسماحته ونبله، فإذا به يجسد نموذجا للشخصية الرسالية التي قال عنها البارئ تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) وقوله تعالى: (وقل لهم قولا بليغا).
شخصية السيد شرف الدين العاملي ، مركبة تركيبا عبقريا قل له نظير، وناذرا ما يتحلى بتلك الخصائص مجتمعة شخص آخر.
براعة الاحتجاج الصريح و أخلاقيات التواصل الرفيع
لقد أرسى السيد شرف الدين منهجا فريدا في إعادة ربط الوشائج مع الآخر المختلف مذهبيا أو دينيا بما يكثف من عنصر الثقة. فقد سلك بالفعل مسلكا تواصليا يصلح أن يكون مدرسة في فن التواصل وأصول الحوار، لم يرد موارد التنظير له بقدر ما مارسه بالفعل ووسم كل آثاره. لقد أدرك السيد الموسوي أن مفتاح الحقيقة و رفع الحجب والعوائق المعرفية بين المختلفين هو التواصل. واعتقد بأن للتواصل شروطا وقواعد يتعين على الشخصية التواصلية التقيد بها قدر الوسع ، حيث أولها الشجاعة في قبول الآخر والاستئناس برأيه والإطلاع على فكره وتمكينه من التعبير عن رأيه واحترام شخصه والحفاظ على أعلى حد للتخلق في محاورته مميزا بين قوة العلم وسماحة الخطاب وأيضا بين الحق في المعرفة والحق في التقارب والتوحد.
تكثيف الثقة عند الآخر
في لحظة طغى فيها التحيز وازداد فيها سعار العصبيات الطائفية والمذهبية، وفي لحظة لم يكن فيها لأتباع مدرسة أهل البيت (ع) أرضية استقواء سياسي أو أي نفوذ يدفع عنهم سطوة التكفير والتجريم والتهوين، أدرك السيد شرف الدين قيمة التواصل التي لا سبيل لتحققها إلا عبر تكثيف عنصر الثقة بين الفرقاء. وقد أظهرت نشاطاته وحواراته قيمة الثقة في تطوير عملية التواصل ودعمها. لم ينخرط سماحته في أشكال التهريج الطوائفي التي كانت سائدة يومئذ، ولم يسمح لردود الفعل أن تؤثر على حراكه الرسالي الذي كان يدفع إلى مزيد من التقارب والوفاق.فهو لم يخض في الحوار العقائدي والكلامي مع المخالف تعصبا لمذهب يتبناه، بل أراد أن يجترح طريقا في الحجاج ، يكون طريقا للتعارف وبالتالي للتقارب.فبينما كان النقاش في مثل هذه القضايا مثار إشكال طائفي ، كان السيد شرف الدين يرى في مثل هذا النقاش ما يحرر عقدة الجهل بين الطرفين، فالتقارب يزداد بقدر ازدياد التعارف.فالطريق إلى التقارب هو نفسه طريق المعرفة والفهم.ولا شك أن الحوار الذي أجراه السيد شرف الدين مع الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر آنذاك هو ثمرة لتكثيف الثقة بين ضفتي العالم الإسلامي.لقد آمن سماحته بأهمية الخروج من العزلة والتواصل وزرع الثقة عند الآخر وتمتين العلاقة بين المسلمين.وأحسبه نجح في ذلك أيما نجاح.
التواصل والحوار بالفعل لا بالنظر
إذا كان العلماء منذ فترة طويلة اهتموا بأسلوب المناظرة وتحدثوا بما يكفي عن أهمية الحوار، فإن ما يميز طريقة السيد شرف الدين الموسوي ، أنه مارس التواصل والحوار بالفعل ، كما أظهر جانبا كبيرا من تقنيات الحوار وآدابه بالفعل . بل إن طريقة السيد الموسوي في تدبير الخلاف الكلامي والعقائدي شكل مدرسة قائمة تستحق التوقف عندها محطة محطة . فهي تكشف عن أن عقلا كبيرا كان على علم كبير بما ينبغي أن يكون عليه فن المناظرة ، وبأن ملكة كبيرة كانت تقف وراء كل هذه الممارسة التواصلية المميزة في كياستها وعمق محتواها ومقاصدها. ويمكننا الإشارة إلى أهم مقومات المدرسة التواصلية للسيد شرف الدين، وفلسفته في الآتي:
ـ الشجاعة
أظهرت الملحمة التواصلية للسيد شرف الدين، جملة من الشروط الضروري في الحوار الناجح. وأول هذه الشرائط: الشجاعة ، من حيث هي جرأة واقتحام للممنوع . وغالبا ما تكون هذه الممنوعات محض أوهام تعيق إرادة الناس وترسم حواجز من جليد بين الكيانات. والشجاعة هي الوسيلة لاقتحام هذه الأوهام وأشكال الخواف التي تنتجها عقول استبد بها الوهم ويتأطر بها سلوك المختلف. وشجاعة السيد شرف الدين في هذا المجال تتجلى في أكثر من مدى:
1 ـ شجاعة في الخطاب
مصداقها أن سماحته أدرك أهمية الصراحة في القول ، وتجاوز من خلال الفعل ما راكمه الآخر عن الطائفة الشيعية من إغراق في تقيتها وباطنيتها في السلوك والعمل. وقد أظهرت طريقة السيد شرف الدين أن ما يحمله الآخر من تصور قدحي لهذا المبدأ الذي يتحدد بأحكام وموارد مقررة، ليس إلا محض أوهام، فالشيعة ككل الناس لديهم نزعة للإقدام والفروسية والصراحة والشجاعة بل لا مراء أنهم فاقوا بها سائر الأقوام . لقد تحدث السيد شرف الدين بوضوح وصراحة عما يعتقد به ، واكتسب من الشجاعة ما جعل الآخر يطمئن إليه سواء أقبل برأيه أم خالفه. لقد أكدت طريقة السيد الموسوي على أن لا تقية في الدفاع عما يدين به ، وبأن جزءا من هذا الحاجز الجليدي بين الفرقاء ناتج عن تراكمات من العلاقة التاريخية المرتهنة للسلط السياسية ، كرسها واقع العزلة والاستهانة بالتواصل والحوار. ففي عصر العقول المنفتحة والثقافة المفتوحة يجزي الحديث بصراحة وعقلانية فلا حاجة للتقية التي إنما شرعت يوم كان الإنسان ينشر بالمناشير لقاء فكره واعتقاده. فهذا الزمان ولّى. وبدل أن نحاسب القوم على تقيتهم التي هي إجراء طبيعي في ظل كيانات متوحشة ومجرمة ، علينا أن نحاسب تلك الحقب نفسها التي اضطرت الناس إلى إخفاء آرائهم ، لا أن نعتبرها خاصية مذهب من المذاهب.
2ـ شجاعة في العمل
ومصداقها ، المبادرة الفردية التي أظهرت إلى أي حد بلغت قناعة السيد الموسوي بضرورة التواصل وأهمية الحوار، كما لو كان بصدد الاشتغال بأمر تكليفي طلبا لاستفراغ الذمة. فكل ما تبقى من آثار وما خلده التاريخ من مواقف ونشاط عن السيد العاملي، يعكس روح المبادرة الفردية، فكان باندفاعه وشجاعته كمؤسسة قائمة بنفسها.ولا يخفى أن لا مبادرة تصدر عن غير الشجعان. فالمبادرة شجاعة.
ـ أخلاقيات الحوار:
بقدر ما هي مبادرة شجاعة وبقدر ما كانت طريقة السيد الموسوي واضحة صريحة ، كانت غاية في السماحة والتخلق. وبهذا أكد على أن التخلق في الحوار هو نفسه قوة ينبغي أن يتحلى بها الأقوياء. ففي كل قول وفي كل حجاج كان السيد طودا أخلاقيا أشم. فلا يكاد ينهي حجاجه حتى تغمر محاوره طمأنينة وتتلبسه حالة من الوجد، لا يدري أيهما أسبق هل حسن بلاغته أم نافذ حجته أم سماحة خطابه..هل علمه يسبق أخلاقه أم أن أخلاقه يسبق علمه. يحار المحاور والمتلقي، لكنه يقطع بأن شخصا كالسيد الموسوي ، لا يمكن إلا أن يكون استثناءا،ككل العباقرة الذين يجود بهم الزمان في لحظات متقطعة، وإن كان هذا الجبل العاملي محظوظا لاندكاك المسافات بين ورود عبقري وآخر.ويتميز النهج الأخلاقي عند السيد العاملي بعدة شرائط منها:
القول الحسن
إن الناظر في تفاصيل المحاورة التي جرت بين السيد الموسوي والشيخ سليم ، يخرج بانطباع أولي ، هو أنها محاورة تنتمي لجنس المحاورات الأخلاقية التي قل لها نظير في كل المناظرات المأثورة. وهي الآداب والأخلاق السمحة التي رافقت المحاورة من بدايتها إلى منتهاها لم يعترضها ما من شأنه الخروج بها عن طورها الذي اختارته لنفسها. لقد تدفقت أخلاقيات المتحاورين تدفقا واحدا ، حتى في أكثر اللحظات التي تكثف فيه الخلاف واشتد فيه المنحى التناظري ارتفاعا بين المتحاورين. لقد كان خط التخلق يسلك منفردا ومستقلا عن المنحى التوتري العلمي، ما يؤكد على ركنية التخلق في الحوار في منهج السيد الموسوي.ولا شك أن مثل هذا الإلتزام الكامل بأخلاقيات الحوار والمناظرة، يتطلب فضلا عن الشعور العام بالتخلق مع الآخر كما حثت عليها القيم الإسلامية عموما،عرفانا وفلسفة وفنا، تؤمنه مقاومة نفسية وروحية وعقلية لخطر السقوط فيما يتهدد الحوار.ويمكننا إجمال مقومات خلفية التخلق المناظراتي في التالي:
ـ المقوم العقلاني:
مفاده، أن الأخلاق صمام أمان الحوار الجاد والمناظرة القاصدة. فالذي يتخلى عن أخلاقيات الحوار، ليس فقط ممن دل على ضعف محاورته أو فشل مناظرته، بل يكون قد أشار إلى إيقاف سير المناظرة والحوار، وهذا بخلاف المطلوب، حيث قيمة المناظرة الصحيحة، الانتهاء من سير النقاش والوصول به إلى منتهاه. وبما أن السيد الموسوي أدرك بأن السقوط في النمط المناظراتي التقليدي نفسه المهجوس بالغلب والعصبية، لن يجدي شيئا وهو تحصيل حاصل، فكان لا بد أن يتجنب نهجا كذلك، عقيما..وبهذا تتجلى الروح التجديدية عند السيد الموسوي واستيعابه التاريخي وإفادته من كل أخطاء الماضي..
المقوم العقلائي:
إن المقام الذي يحتله السيد الموسوي كعالم دين مجتهد ومحقق ، كافي لتمتيعه بلياقة أخلاقية عالية ، نابعة من إحساسه بالمسؤولية تجاه ما يقوله وما يفعله. فهو يدرك أنه مطالب بأن يكون لآل بيت النبوة زينا ، لا شينا عليهم، حيث لا مصداق أقوى على ذلك الشين من التراخي الأخلاقي في المناظرة. وبذلك أكد السيد الموسوي على ركن ركين في نجاح المناظرة والحوار، قوامه: أن التخلق شرط في قوة الحوار واستمراريته ونجاحه ، فالمحاور الجيدة هو أولا وقبل كل شيء المتخلق الجيد.. فليس التخلق مجرد واجب . فلا يخفى على دارسي الفقه ونكاته ما بين الركنية والواجب من فرق، حيث يمكن أن يكون للإخلال بالعنصر الأخلاقي في المناظرة ما يفيد النقيصة أو ما يوجب الإثم مع انحفاظ الإجزاء، لا الفساد المقوض لأصل المناظرة.فقد يكون هاهنا الأمر واجبا لكن ليس بالضرورة أن يكون مخلا بالمناظرة، لكن إذا ثبتت ركنية التخلق في المناظرة ، لزم عن الإخلال به فساد في المناظرة وانحلال ، تمام كانحلال العقود الفاسدة، لجنبة المشابهة بين المتناظرين والمتعاقدين. فالخروج عن مقتضى النظر العلمي إلى التحلل الأخلاقي في المناظرة استقواء بفحش القول أو إمعان في التنقيص من المحاور، تحويلا للمناظرة من إصابة الموضوع بالدليل إلى إصابة الشخوص بالهجاء، يكون إخلالا بإحدى شروط العقد الضمني بين المتناظرين.
ـ المقوم الروحي:
لقد أدرك السيد الموسوي أنه يخوض في أمر ديني ، فهو بقدر ما يرى نفسه بصدد وظيفة دينية وإفراغ الذمة من أمر تعبدي، يرى أن الوسيلة إلى ذلك لا بد أن تكون تعبدية. إن السيد الموسوي كان يتقرب إلى الله بتخلقه مع مناظره الأزهري، وليس فقط أنه يداريه أو يجامله بحكم الصداقة. وهذا يعني أن التخلق في المناظرة والحوار يستدعي سموا روحيا وورعا وتقوى كما لا يخفى.
ـ المقوم الإسلامي:
لا ننسى أن المناظرة التي جرت بين السيد و نظيره سماحة الشيخ سليم، كانت مناظرة بين قطبين من أعلام الأمة وعلمائها. فلم يكن ليغيب عنهما طيلة المناظرة أنهما ينتميان لأمة واحدة، وبأن في عهدة كل منهما واجبا تجاه وحدة المسلمين ، هو الأهم والآكد مهما اشتد الخلاف . بل إن السيد الموسوي أدرك بأن الطريق الأخصر للوحدة وإن كان صادما ، هو التعريف بمعتقدات المختلفين والنقاش حولها ليعرف الجميع أين يكمن الخلاف وأين لا يقع، حتى لا يعم الجهل ، وتستبد الإشاعات ليسهل على مريدي الفرقة غايتهم، ولو بوسائل لا تخلو من تجديف.
ـ المقوم الإنساني:
لقد أظهرت مناظرة السيد الموسوي ما يتمتع به هذا الأخير من حس إنساني مرهف. حيث لا يخفى ما في رعونة الخطاب وقسوة الخطاب من ازدراء بالإنسان مهما كان هذا الإنسان مختلفا..لقد أظهر بأن الخلاف في التفكير وفي الاعتقاد لا يرخي اللجام لقلة المروءة وفحش القول، بل إن التخلق واجب في حق الإنسان لجهة إنسانيته ، أو كما قال جد ه علي بن أبي طالب( ع ) : ( الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
معرفة الآخر
لقد كرس بالفعل السيد الموسوي ركنا آخر في منطق المحاورة ، مفاده أن أي مناظرة مع المختلف لا تستقيم مع الجهل بمدعاه. فمثل هذا النوع من المناظرات التي يختل فيها هذا الركن تتحول بالضرورة إلى حوار طرشان، ومشهد لصولات الجهل المركب. إن المعرفة بالآخر ومدعاه ومجمل الشبهات والصورة النمطية المتخيلة عنك، هي مقدمة الواجب في الحوار الصريح والمناظرة الناجحة. ولا يخفى أن السيد الموسوي قدم نموذجا رائدا في هذا المجال، كمحقق تعدى ببراعة التحقيق متون مدرسته لينكب تحقيقا ودراسة لمتون المختلف، وأيضا لإطاره المعرفي ولغته العلمية ونكاته الفقهية والكلامية الخاصة، حتى باتت معرفته بالآخر المختلف لا تقل عمقا ودقة من معرفته بفنون وصنائع مدرسته.وقد أظهر كتابه المراجعات هذا الاقتدار المنقطع النظير، حيث دل العنوان على أن السيد الموسوي كان بصدد تذكير مناظره بأصول مذهبه وما طواه النسيان في متون القوم..فكان كلما ذكره بذلك أردف بقولته التي رافقت كل المناظرة: فراجع! ولعل أهم وأدق ما كان لفت إليه السيد الموسوي انتباه مناظره ، لما شكك المناظر في صحة ما يأتي من رواة مدرسة أهل البيت ، حيث ليس من منطق المناظرة أن تستند على روايات لم تصح عند القوم.ومع أن هذا الأسلوب في المناظرة غريب، حيث يفترض المناظر أن رجاله صحاح بينما رجال غيره مطعون فيهم،استخرج له السيد الموسوي عشرات الرواة الشيعة المعتمدين في صحاح القوم، وكأنه يريد القول، هاهم هؤلاء معترف بصدقهم ووثاقتهم ، فكيف يصدقون هناك ولا يصدقون هنا. والشاهد هنا أن مثل هذا التفنن في رد شبهة المناظر كاشف عن علم بالآخر ومصادره ومتونه، مما جعل المناظرة ترقى إلى مستوى أعلى من كونها مناظرة سطحية بين متحاججين على سبيل الهزل أو المغالبة. وكأنه بذلك أرسى قاعدة في المناظرة: معرفة الآخر شرط في نجاح المناظرة
حسن الإنصات والسماع
ثمة مقوم آخر لا يقل أهمية في كل مناظرة ناجحة، ألا وهو قيمة الإنصات والسماع. فالذي لا يحسن الإنصات ولا يقوى على السماع هو مخل بشرط الشروط في نجاح أي حوار أو مناظرة. فليس السماع هنا مجرد قيمة أخلاقية فحسب ، بل هي قيمة معرفية ، دل على ذلك قوله تعالى: ” وبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”…ليس السماع هنا سماعا ناشيا من فراغ المحتوى أو تبلد الأذهان كما هو حال الذاهل عن قواعد تلقي الفكر وانتقاء الأجود منها في مقام المحاورات التي ليس بالضرورة أن تكون مقارعات فكرية لا متسع فيها للمقابسات والمثاقفات. وليس سماعا مفروضا من عل، استكبارا من طرف على آخر وإجبارا له على السماع، فمثل ذلك كسماع الداخل في سوق الصفارين لا يد له فيما يسمعه، ولا اختيار له في ذلك. بل المقصود بالسماع المطلوب، ذلك الضرب من الإنصات الواعي الاختياري المبني على خطة معرفية لاصطياد الحقائق ، سماع يشكل مداخل ضرورية لاستيعاب مقولات الآخر وهضمها، قبل الدخول في المحاورة أو المناظرة.ولعل كل أشكال حوار الطرشان والمناظرات العقيمة راجعة إلى سوء الإنصات للآخر واستيعاب مدعاه قبل الحكم عليه. وفي مثالنا الأخير، كان السيد الموسوي نموذجا لهذا المستوى من السماع الحاكي عن روية فكر متأمل ناظر برباطة جأش في مقول محاوره، لا يستبق إلى الحكم إلا بعد إكمال المحاور لحجته.فكان للسماع مدخلية في استحكام ردوده وحجاجاته على الطرف المناظر.وفي تصميمه قدس سره الشريف على حسن الإنصات والسماع ، ليس من باب التشرع من حيث أن المحاور المسلم مأمور بحسن السماع والإنصات،فحسب ، بل لقد أكد السيد الموسوي على استيعابه لأكبر آفات المناظرة العقيمة، والتي طبعت تاريخ المتناظرين عبر أجيال كثيرة، ألا وهو سوء الإنصات للمحاور وغياب فريضة السماع.وكأنه بذلك أرسى قاعدة من قواعد المناظرة: المحاور الجيد هو المستمع الجيد.
فضيلة الاعتراف
يكاد تاريخ المناظرة يخلو تماما من عنصر الإعتراف..وكـأن المتناظرين قد حسموا مسبقا في إمكانية الإعتراف مهما بدت حجة الخصم المناظر قوة وشدة . ومع أن السيد الموسوي لم يبد اعترافا في كتاب المراجعات من جهته، فإنه لم يفته استعراض فضيلة الاعتراف ولو في شخص محاوره، حيث شكلت اعترافات المحاورة العنصر الجديد في تقاليد الحوار، وأيضا العنصر الأبرز في المحاورة . وقد تفنن السيد الموسوي في استعراض اعترافات المحاور جاعلا من ذلك شجاعة وفضيلة وتقوى وحرصا على تمحيص الحقائق، ولم ير في ذلك هزيمة أو ضعفا في علم المحاور. وبما أن المحاورة في مضمونها كانت حدثا واقعيا ودائما مثل هذه الأجوبة عرفتها كل الأزمنة السابقة ، فإن السيد الموسوي لم يكن يريد استثناء نفسه من أي اعترافات من هذا القبيل، من حيث لم يجد في أسئلة المحاور واستدراكاته وشبهاته ما أعجزه عن بيان الحجة من مصادر المحاور أو من مصادره عند الإقتضاء.لقد كان السيد الموسوي بطل الإحتجاج والتدقيق والتحقيق، وكان السيد البشري بطل التثبت والمراجعة وفضيلة الإعتراف.على أن فضيلة الإعتراف وعدم المكابرة عند حضور الحجة لا يقل عن فضيلة الاحتجاج وفحم الخصم.فالمكابرة مع وجود الدليل جهل ، والاعتراف مع وجودها عين العلم. فما العلم إن انقياد العقل لحجة الدليل والبرهان. وكأن السيد الموسوي بتعظيمه لفضيلة الإعتراف كان قد أرسى قاعدة في المناظرة: الاعتراف فضيلة المتحاورين، ومع الاعتراف لا ينتصر طرف على آخر، بل كلاهما ينتصران للحقيقة.
هدف الحوار
لقد اعتاد المتناظران في مواقع الحجاج أن يهدف كل منهما إلى الإقناع. فكان هذا هو مفهوم الحجاج نفسه بوصفه وسيلة المتناظرين.فالحجاج يهدف إقناع الطرف المقابل أكثر مما يهمه الاستدلال على صدق الفكرة. لكن مناظرات السيد الموسوي كانت ، رغم توسلها بفن الحجاج المسند لقوة البيان وحسن التعبير وسحر اللغة، تتترس بعتاد منهجي ومعطيات ضخمة واستدلالات منطقية، ما يجعل المناظرة أكبر من أن تكون محض حجاج هادف للإقناع، بل هو استدلال يهدف لبلوغ الحقيقة وإن لم يسلم بها الخصم المناظر. لهذا تحديدا ظلت كتاباته موضوعا للبحث والنظر في الخلاف على أسس علمية مسندة بحسن التدقيق والتحقيق ،ما جعلها مناظرة حية ومستدامة ومفتوحة مع كل قارئ يحمل الشبهات المطروحة في ذلك الإحتجاج ، وكأنه بذلك أرسى قاعدة في المناظرة: أن المناظرة المستندة إلى صناعة علمية وحسن التحقيق ، هي مناظرة مفتوحة ومستدامة تتعدى إلى غير المتناظرين، ويفيد منها الأجيال اللاحقة.أو بتعبير آخر ، إنها المناظرة الحية مقابل المناظرة الميتة التي تموت وتندثر مع انتهائها بين متناظرين في الزمان وفي المكان المخصوصين.
وليس ذلك فقط هو هدف المناظرة التي أرسى قوانينها المجدد السيد الموسوي، بل كانت هناك أهداف إضافية لم يفت السيد الموسوي التعرض لها بين الفينة والأخرى، أعني ما عدا الهدف العلمي القاضي ببيان الحقيقة سواء أقر بها المناظر أم لا، بل لقد جعل السيد الموسوي هدفا شرعيا، ألا وهو وحدة الأمة والتحامها . إنه الهدف الذي لم يغب عن رجل ناضل من أجل الوحدة الإسلامية باستماتة منقطعة النظير شأنه في ذلك شأن علماء عامل. ولسائل أن يسأل : كيف يستقيم ادعاء كهذا مع وجود أعمال للعالم المذكور ، نظير كتاب المراجعات أو النص والاجتهاد؟ والحق أن مثل هذه الأسئلة طرحت مرارا، وربما تراءت للبعض بأنها من مفارقات نهج السيد الموسوي.غير أن المتأمل المستبصر المستوعب للأهداف الكبرى التي كان السيد الموسوي يتحرك باتجاهها، يجد جوابا شافيا عن هذه الشبهة . لقد كان قلب السيد الموسوي وعقله معا مع الوحدة الإسلامية.دل على ذلك قوله معللا فكرة كتابته “المراجعات” :”أما فكرة الكتاب فقد سبقت مراجعاته سبقا بعيدا، إذ كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب، التماع البرق في طيات السحاب، وتغلي في دمي غليان الغيرة ، تتطلع إلى سبيل سوي يوقف المسلمين على حد يقطع دابر الشغب بينهم، ويكشف هذه الغشاوة عن أبصارهم، لينظروا إلى الحياة من ناحيتها الجدية ، لراجعين إلى الأصل الديني المفروض عليهم ، ثم يسيروا معتصمين بحبل الله جميعا، تحت لواء الحق إلى العلم والعمل، إخوة بررة يشد بعضهم أبعض ، لكن مشهد هؤلاء الإخوة المتصلين بمبدأ واحد، وعقيدة واحدة كان ـ واأسفاه ـ مشهد خصومة و عنيفة، تغلو في الجدال، غلو الجهال ، حتى كأن في مناهج البحث العلمي من آداب المناظرة ، أو أنه من قواطع الأدلة .ذلك ما يثير حفيظتي ويدعوا إلى التفكير، وذلك ما يبعث الهم والغم والأسف فما الحيلة؟وكيف العمل؟هذه ظروف ملمة في مئتين من السنين وهذه مصائب محدقة بنا من الأمام والوراء وعن الشمال وعن اليمين…..” [1].
إلا أنه نظر إلى الوحدة نظرة واقعية، بحيث أقام مفهومها على عنصرين: أحدهما أن الوحدة من حيث المبدأ مطلب شرعي وهي أمر واجب على أي حال ، اتفقت آراؤنا أم لم تتفق. وهذا هو الشكل الرائج لطلاب الوحدة حيث ذهبوا أحيانا إلى نبذ الخلاف وعدم التطرق لموارده خشية إثارة النعرات.وهنا يأتي العنصر الثاني الذي يشكل وجهة النظر الموسوية ، هو أن الطريق الأخصر لمزيد من الوحدة هو الدخول في جيل جديد من الحوار العلمائي فيما هو محل نزاع وخلاف بين الفرقاء. إن شرط الوحدة أن نعرف بعضنا البعض ثم يستوعب كل منا حجج البعض ، فيعذر بعضنا بعضا عن علم لا عن مسامحات غير مسندة بسند عقلي معتبر. ولعل هذا مغزى كل اعترافات الشيخ البشري رحمه الله ، حيث ليس قيمتها في اعترافه بالضرورة بأصل الفكرة، بل المعتبر في المناظرة هو التسليم بوجود أدلة بها يتحقق تعبد أتباع مدرسة أهل البيت بما هم فيه من اعتقاد. فهم معذورون على الأقل في نظر المخالف ، لقيام معتقدهم على دليل .وما كان قائما على دليل ، إن لم يستوجب التسليم به ، فلا أقل يستوجب العذر وذلك أضعف الإيمان. وهذا هو شرط وحدة الأقوياء لا الضعفاء، ومعه فقط تندثر كل الشبهات والمسافات التي تسمح بالتجديف واختلاق الإشاعات المغرضة التي تنال من كرامة وشرف وحرمات ومقدسات الفرقاء.إن العلم والمعرفة خير على كل حال ، كما أن الجهل عار على كل حال. فلا تكون الوحدة المنشودة غاية لا تنال إلا بفرض الجهل بمحل النزاع، بل إن الوحدة الحقيقية هي باستئناس الفرقاء بمقولات بعضهم البعض وإخضاع النقاش إلى مستويات تصان فيها شرائط الحوار الناجح البناء من علم وتحقيق وتخلق ، ما يفوت الفرصة على سقوط الحوار والمناظرة بيد الدهماء ، فيفسدون وظيفتها وغايتها ، فيكثر الجهل والتغليط، ويقل الورع وأخلاقيات الحوار. ولعل هذا ما كان سببا في تفرق الأمة وتشتتها.ومن هنا يبدو أن السيد الموسوي كان قد أرسى قاعدة أخرى في الحوار والمناظرة: الحوار الصريح والأخلاقي قوة الأمة وضامن وحدتها.والمناظرة هي لما جعلت له.
المتقولون في السيد الموسوي
على الرغم من التخلق البادي والمتجلي في كل مناظرات السيد الموسوي ، إلا أن ثمة من المخالفين من لم يهمهم كل ذلك، محملينه وزر صراحته واستقوائه بالحجة في مقام الاعتقاد. وقد اتهمه بعض الكتاب تحت تأثير سكر الطائفية العمياء بالرافضي الكاذب، وما إليها من عبارات ، أراد من خلالها أصحابها الطعن في شخصية السيد المحبوبة لدى جمهوره العارف بقدره واقتداره، بعد أن أعجزهم قوة احتجاجه وأخلاقيات مناظراته. وقد أكد أولئك ومنهم متأخرون ، وبعضهم مبتدئون في العلم ، بأنهم يطعنون بذلك في شخص الشيخ البشري الذي انطلت عليه حيلة هذا الرافضي ، وهي تهمة له أيضا لما عجز عن رد احتجاجات هذا الأخير، لأنهم يفترضون بأن ليس للمناظرة إلا اتجاه واحد ونتيجة واحدة ، أن ينتصر فيها طرف معين ، وإلا كان الأمر مرفوضا أصلا. فماذا لو كانت النتيجة غير كذلك، ألم يكن من أمرهم حينئذ أن يهللوا ويضعوا فوق المناظرة تاجا، وحينئذ يكون الرافضي اليوم ، عالما جليلا لأنه اعترف وأذعن. وحينما أعجزهم ذلك النقاش العلمي والأخلاقي الرفيع، حاولوا التشكيك في أصل المناظرة. وكان ذلك إمعانا منهم في التكذيب، بناء على مسلمة التكذيب المطلق والمسبق للمقول الشيعي.
مثال عن افتراء صاحب البينات
ولبيان التجديف الذي ارتكب في حق هذا العالم الفاضل الجليل، نسوق مثالا يكفي لمعرفة الحجج التي يستسهل بها خصومه نعته بالتزوير والكذب ظلما وعدوانا وافتراء. لقد أورد صاحب ” البينات في الرد على أباطيل المراجعات” محمود الزعبي في الجزء لأول ، بخصوص قول صاحب المراجعات :” وذكر ابن خلكان في أحوال مالك من وفيات الأعيان أن مالكا بقي في بطن أمه ثلاث سنوات” يقول الزعبي معلقا:” وأما إن كانت الثانية (يقصد إرادة الغمز بالإمام مالك) وهي التشنيع على أهل السنة ـ فإنه ليس في وفيات الأعيان في ترجمة مالك ما ادعى المؤلف، بل فيه : وقال ابن السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الأصبعي ، إنه ولد في سنة ثلاث أو أربع وتسعين. والله أعلم بالصواب”.بهذا حاول الزعبي الاحتجاج على تزوير السيد الموسوي وكذبه المفترى عليه.مؤولا كلام السيد على غير وجهه ، مسقطا عليه كل هذه الخلفية من الكراهة وإرادة الغمز ، هو الذي فاض كسن الأدب ورفيع التخلق ما أبهر به كل خصومه الحاقدين عليه. ويكفي أن نحقق في افتراء الزعبي واتهامه الأخير لنتعرف على المستوى العلمي والأخلاقي لخصوم السيد الناعتين له بنزق وقلة وربما لم يكن من شأنه ولا من صفاته المغمورة بقيم الصراحة والشجاعة والصدق. إننا إذا راجعنا المجلد الرابع من وفيات الأعيان،دار صادر بيروت ، من تحقيق الدكتور إحسان عباس، وابحث عن حرف الميم(550).وأبدا بالإمام مالك ، سوف نجده يقول ـ أي ابن خلكان نفسه ـ في الصفحة 137 في السطر الثامن .يقول بن خلكان: ” وكانت ولادته (أي مالك ) في سنة خمس وتسعين للهجرة ، وحمل به ثلاث سنين ، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة وسبعين ومائة.”.بينما العبارة التي أوردها الزعبي ، موجودة في وفيات الأعيان، لكنها عبارة متأخرة عن العبارة التي استشهد بها السيد الموسوي.فهي في السطر الثالث عشر، فكيف لا يرى العبارة الأولى، ويقفز إلى الثانية؟ وقس على ذلك باقي افتراءات الزعبي ضد السيد الموسوي. ومثل ذلك ادعائهم بأن كتاب المراجعات ، كتابا منحولا وأنه ما رأت الغبراء ولا سمعت السماء بمحاورة بين الشيخ والسيد. والحق أن السيد الموسوي قد عبر بما فيه الكفاية عن تأخر صدور الكتاب لجملة من الأسباب وما اعترض طريقه من تعدد الانشغالات، حيث لا يخفى أن السيد كان فقيها وعالما ومقاوما ، وكل ذلك يبرر تأخر عدد كبير من مؤلفاته عن الصدور في وقتها، وأخرى اندثرت أو عدت في ما تم حرقه من قبل قوات المستعمر الفرنسي باقتحامه بيته إبان الاحتلال الفرنسي للبنان. وقد بين في مراجعاته وتحدث عن بعض الإضافات لمزيد من السبر والتدقيق، لكن المحتوى ظل هو هو لم يطرأ عليه جديد. بقد تحدث بعض التكفيريين وبالغوا في أن صاحب المراجعات لم يفعل أكثر من اختلاق قصة الحوار. في حين أنهم دلّسوا كثيرا لخداع جمهورهم. فهم قرؤوا مقدمة السيد شرف الدين ووظفوها ضدّه دون أن يوردوا رأيه. فلقد تحدث في المقدمة عن أنه تصرّف في المتن بما يوجبه الحال ، مما يوحي بأنه عمل على تلطيفها وجعلها مفيدة أسلوبا وعبارة وأدبا وربما تحقيقا ودعما وإسنادا. ولا أرى ردّا على هذا الافتراء أفضل مما جاء على لسان إبنه سماحة السيد عبد الله شرف الدين في إحدى حواراته حينما سئل:
ـ هناك من يدعي بأن هذا الكتاب مفترى على الشيخ البشري مستدلين على ذلك بأنه لم يطبع في حياته؟
فكان الجواب:
ـ هذا ادعاء كاذب لا دليل عليه سوى ما ذكره السيد الوالد نفسه في مقدمة كتابه حيث قال: وأنا لا أدعي أن هذه الصحف هي التي جرت بيننا آنذاك غير أن جميع ما جرى بيننا هو موجود بين الدفتين مع زيادات اقتضاها الحال. إذن فلم يأتي مدعي الافتراء بدليل وإنما هو قرأ المقدمة فحسب؟!
لكن هب أننا اعتبرنا الكتاب متخيلا، فإن معظم الإشكاليات المطروح فيه هي نفسها الإشكاليات الواردة على اعتقادات مذهب أهل البيت ، بل إنها شبهات أعمق وأكثر دقة من كل الشبهات التي غدت ممضوغات على ألسن طائفية طولى، لا زالت تغتدي على شبهات تمت الإجابة عنها منذ قرون.
لقد أرسى السيد الموسوي قدس سره، معالم مدرسة تواصلية قوامها البحث والتحقيق وأخلاقيات الحوار. وقد اختط لنفسه نهجا قويما، ظل به شامخا ضد كل الخصوم الذين لم يأنسوا بالأهداف النبيلة والكبرى التي ناضل من أجلها رجل صرف حياته لخدمة الإسلام والمسلمين ، عالما مدققا وباحثا محققا وخطيبا أديبا ومناضلا مقاوما و حركيا اجتماعيا وفقيها معلما. لا شك أن المتتبع لهذه المقومات والمبادئ التي تميزت بها المدرسة التواصلية للسيد شرف الدين الموسوي يدرك ، أنها كانت بالفعل مدرسة فذة لأخلاقيات الحوار.ومع أننا حاولنا التفصيل في مستويات التخلق وأنواعه في هذا المسلك العاملي المميز، إلا أنه لا غرو أن الأخلاق تظل ماء واحدا ، وإن تعددت القيم وتمركزت حول قيمة القيم. فيكفي أن تقف على شجاعة الشخص لتدرك إن كان كريما أو صادقا..فالقيم تترتب طوليا كمتوالية متصلة، فالشجاعة والكرم والصدق وما شابه تحيل إلى بعضها البعض. فلا يكون الشجاع بخيلا ولا الصادق جبانا. منهج السيد شرف الدين وأسلوبه الأخلاقي والعلمي في المناظرة والحجاج ، أسلوب فريد يفضح انحراف طرق المناظرة وأساليب التجديف الطائفي التي تخلوا من العلم والأخلاق ، وتقودها الغريزة والاحتقان والكراهية والجهل. بهذا المعنى ندرك أن المدرسة التواصلية الموسوية هي مدرسة أخلاقية وعقلانية بامتياز. ولإدراك مغزى هذا الكلام، وللوقوف على قيمته الأخلاقية والعلمية، فما علينا إلا أن نراجع كتابات هذا العالم العاملي، وفي