صلاح الدين الحسيني الفلسطيني

صلاح الدين الحسيني (سنّي / فلسطين)

ولد عام ١٣٨٠ هـ (١٩٦١م) في «فلسطين» ، في أُ سرة سنّية المذهب ، واصل دراسته الأكاديمية حتى الحصول على شهادات عليا في اختصاص الطب والدراسات الإسلامية .

كان «صلاح الدين» ـ وبحكم البيئة التي نشأ فيها ـ يسعى دائماً للالتزام بالدين الإسلامي وتعاليمه ، هذه النشأة جعلته دائم البحث والتقصّي في الأمور الدينية ، وممّا لفت نظره في هذا المجال كثرة التساؤلات الاعتقادية التي طالما غاب جوابها عنه ; الأمر الذي جعله يستمر في أبحاثه بجدّية أكبر من ذي قبل .

يقول «صلاح الدين» : لقد كنّا دائماً منذ صغرنا نصطدم بكثير من الحقائق ، وخصوصاً الأحداث التي حصلت في عصر نبيّنا الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) وفي عصور الخلافة الأولى ، ونحتاج إلى أجوبة مقنعة ، ولكن كانت تُبرَّر من العلماء بمبرّرات أظنّها ليست مقنعة لهم ، وكنّا نتخيّل تاريخنا خال من التناقضات ، وكنّا نسمع عن تجاوزات كثير من الخلفاء الأمويين والعباسيين ، ونقرأ الكثير عن سهرات المجون والفسق ، وكلّ ذلك كنّا نجد له تبريراً عند علمائنا ، صحيح أنّ التبرير غير مقنع ومخالف للواقع ، لكنّ المهم أنّ التبريرات كانت جاهزة .

وبعد الرجوع والتدقيق في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وعصر الخلافة الأُولى والثانية

الثالثة ، اصطدمت بكثير من الحقائق ، والتي كنّا إذا سألنا عنها أحداً من العلماء ، لا نجد جواباً إلاّ الصدّ والوجوه المكفهرة ، وربّما الاتّهامات الباطلة والقدح والذم .

لقد لفت نظري كثيراً الحديث النبويّ الذي يقول : تفترق أمّتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة(1) ، وهذا الحديث في اعتقادي أنّه يوجب على المسلمين جميعاً ، البحث والنظر من أجل أن يكونوا في صفّ الفرقة الناجية ومعها .

ومن القضايا التاريخية التي تلفت النظر حقيقة تغييب أهل البيت (عليهم السلام)وفضائلهم ، مع أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة أكدّا على فضلهم ووجوب اتّباعهم وطاعتهم ، فلماذا لم تتبعهم الأمّة ؟ ! بل تركتهم ولم تطع الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في شأنهم ، بل وعلى مرّ التاريخ كانت تضع المبرّرات لتأويل النصوص وصرفها عن معناها أو تضعيفها ، ولازال هذا الأمر هو الشغل الشاغل لعلماء أهل السنّة ، فدائماً تراهم يؤوّلون النصوص المتعلّقة بولاية أهل البيت (عليهم السلام) أو يقومون بتضعيفها ، وكأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما تحدّث بتلك الآلاف المؤلّفة من الأحاديث التي تأمر باتّباع أهل البيت (عليهم السلام) ، يظهروه وكأنّه يتحدّث للتسلية وليس للتشريع .

ومن القضايا التي كان لها الأثر الكبير في البحث هي : مواقف الصحابة الكثيرة والعديدة ، والتي لا يجد الإنسان المنصف إلاّ تفسيراً واحداً لها ، وهو : عدم الصدق والإخلاص في متابعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

لماذا قاموا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمعاداة أهل البيت (عليهم السلام) ، وأظهروا البغض لهم ، واعتدوا على السيّدة الزهراء (عليها السلام) وهجموا على بيتها ، وأسقطوا جنينها ؟ !

لماذا توفّيت السيّدة الزهراء (عليها السلام) ، وهي غاضبة على أبي بكر وعمر ، مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ؟ !(2)

____________

1- راجع الحديث بألفاظه المختلفة في : مسند أحمد ٣ : ١٢٠ و٤ : ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٣٩٠ .

2- المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥٤ ، المعجم الكبير ١ : ١٠٨ .

لماذا قُتل الإمام عليّ (عليه السلام) ، ولماذا قُتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، ولماذا قُتل جميع الأئمّة (عليهم السلام) من قبل المسلمين والسلطة الحاكمة ؟ !

لماذا عندما بويع لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قام معاوية بن أبي سفيان بالخروج عليه وقتاله ؟ !

لماذا خرجت عائشة لقتال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، مع أنّ الله أمرها بأنّ تقرّ في بيتها ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قد حذّرها كثيراً من ذلك ؟ !

وأيضاً من القضايا التي لا يمكن السكوت عليها ، بل كانت دائماً محلّ تساؤل عندي ، مواقف الصحابة في أحد وحُنين ، وكذلك في معركة الخندق عندما دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمبارزة عمرو بن ودّ العامري ، على أن يضمن لمن يبارزه الجنّة ، فلم يقم لا أبو بكر ولا عمر ، ولكن قام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) .

وأيضاً لماذا هرب عمر بن الخطّاب وغيره في حُنين ، وترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

أمّا القضيّة الأخطر ، والتي صدمتني ولم أجد لها جواباً عند العلماء سوى التبريرات التي لا تقنع أي إنسان ، هي قضيّة رزيّة الخميس ، عندما دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً ، فمنعه عمر بن الخطّاب من ذلك ، واتّهمه بالهجر والهذيان ، وقال : حسبنا كتاب الله(1) .

لماذا قام أبو بكر بحرق سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكذلك عمر قام بحرقها أيضاً ، ومنعا من التحديث بها وتدوينها ، ممّا أدّى إلى ضياعها ؟

لماذا لم يؤمن عمر بن الخطّاب برسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم صلح الحديبية ، مع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له : إنّي رسول الله ولن يضيّعني(2) ، ولكنّ عمر بن الخطّاب لم يقتنع ، وظلّ يخذّل المسلمين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

____________

1- راجع : صحيح البخاري ٥ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، و٧ : ٩ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٦ .

2- صحيح البخاري ٦ : ٤٥ ، صحيح مسلم ٥ : ١٧٥ .

لماذا قام المسلمون في زمان حكم الأمويين من معاوية بن أبي سفيان وحتى زمان عمر بن عبد العزيز بسبّ وشتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر لأكثر من ثمانين عاماً ، وسكتوا حتى عن تبرير ذلك الأمر ، مع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : من سبّ علياً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله(1) ؟ !

مواقف عجيبة وعديدة ، المئات منها ، يصطدم بها الباحث المسلم دون أن يجد لها جواباً .

كل هذه الأسئلة كانت محلّ تساؤل وحيرة عندي وعند كثير من المؤمنين ، بقيت ولفترة طويلة دون إجابة شافية إلى أن منّ الله علَيّ بالهداية والولاية ومعرفة الصراط المستقيم ، أهل البيت (عليهم السلام) ، سفينة النجاة والعروة الوثقى(2) .

وكان تاريخ استبصاره عام ١٤١٨ هـ (١٩٩٨م) .

ما دوّنه بعد الاستبصار :

لقد قام «صلاح الدين الحسيني» وبعد أن منّ الله عليه بالاستبصار بكتابة عدّة مؤلّفات في مجال الشريعة الإسلامية والعقائد ، ومنها :

١- الابتلاء سنّة إلهية على بساط العبودية ـ مخطوط ، وهو موجود في مكتبة موقع مركز الأبحاث العقائدية www.aqaed.com .

وقد حاول فيه المؤلّف تسليط الضوء على مسألة الابتلاء الإلهي ، وعلاقة هذه المسألة بالقرب والبعد من الله سبحانه وتعالى .

يقول «المؤلّف» في مقدّمته للكتاب : السؤال المهم في هذا البحث المختصر هو : لماذا أكثر ما يكون الابتلاء عند الرسل والأنبياء والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)وأتباعهم ؟

____________

1- المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ .

2- مقتطفات من مقدمة كتابه : «سبيل المستبصرين إلى الصراط المستقيم» : ١٢ ـ ١٦ . (بتصرف يسير) .

ولماذا اختص أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم والمؤمنون الصالحون من أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) بالابتلاء ؟ !

فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن أئمّتنا من أهل بيت الرحمة والعصمة عشرات الروايات تشير إلى ذلك المعنى .

فقد روى أحمد وأبو يعلى والحاكم وصحّحه : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : نحن معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاءً ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلي العبد على قدر إيمانه ، فإن كان صلب الإيمان شدّد عليه البلاء ، وإن كان في إيمانه ضعف خفّف عنه البلاء(1) .

وقد أخرج الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة وابن ماجة : عن عبد الله بن مسعود ، قال : بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل فتية من بني هاشم ، فلما رآهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) اغرورقت عيناه وتغيّر لونه ، فقلت : ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه ، فقال : «إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً ، حتى يأتي قوم من المشرق معهم رايات سود ، فيسألون الحق فلا يعطونه ، فيقاتلون فينصرون ، فيعطون ما سألوا ، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي ، فيملؤها قسطاً كما ملؤوها جَوْراً ، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج(2) .

وروى ابن حجر في فتح الباري ، والسيوطي في الجامع الصغير ، والمناوي في فيض القدير ، وغيرهم عن عدد من الصحابة : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : ما أوذي أحد ما أوذيت(3) .

فالنبي محمّد والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) هم حجج الله على عباده ، وهم

____________

1- مسند أحمد ٦ : ٣٦٩ ، مسند أبي يعلى ٢ : ٣١٣ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٠ .

2- راجع : المستدرك على الصحيحين ٤ : ٤٦٤ ، المصنف لابن أبي شيبة ٨ : ٦٩٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٦٦ .

3- فتح الباري ٧ : ١٢٦ ، الجامع الصغير ٢ : ٤٨٨ ، فيض القدير ٥ : ٥٥٠ .

المصطفَون الأبرار ، وهم أفضل خلق الله ، فلماذا تعرّضوا إلى الظلم والأذى وجميع أنواع الابتلاءات ؟ وما علاقة الابتلاء بهم وبنا ؟ وما أثر الابتلاء عليهم وعلينا ؟ وما الذي يجب أن يكون عليه موقفنا اتّجاه ابتلاءاتهم ومظلومياتهم ؟

لم يكن أحد أكثر ابتلاءً وتعرّضاً للظلم والتطريد والتشريد من أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم وشيعتهم ، كان ذلك منذ انتقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى وحتى يومنا هذا ، وأتصوّر أنّ ذلك صار يدركه كل من يقرأ التاريخ بإنصاف أو يتابع المحطّات الفضائية وبشكل يومي .

لقد ذكر ذلك أئمّتنا من أهل بيت النبوة والعصمة (عليهم السلام) ، وقالوا : ما منّا إلاّ مسموم أو مقتول(1) .

ولو راجع المسلم المنصف تاريخ الإسلام والمسلمين ، لعرف بعضاً ممّا تعرّض له رسول الله وأهل بيته (عليهم السلام) من الظلم والأذى والاضطهاد ، ويكفي أن نتذكّر مصيبة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأنصاره ، حيث ظلموا وقتلوا في كربلاء ، وسلبوا وسبيت نساؤهم» .

ولكي يكون البحث في هذا الموضوع كاملاً دخل «المؤلّف» في شرح لبعض المصطلحات والمفاهيم الشرعية التي تنبثق عنها قضية الابتلاءات ، فشرح حقيقة معنى الابتلاء وأنواعه ونتائجه ، وأجاب على التساؤلات المطروحة عن العبوديّة لله تعالى وأوصافها ، والربوبيّة وحقوقها وقدّم بعض الأمثلة عليها من الشريعة المقدّسة ، كما بحث معاني الفتنة والتمحيص والاختبار والاستدراج وما يتعلّق بتلك المفاهيم ; إذ لا يمكن تجريد معنى الابتلاء وحقيقته عن كل تلك المعاني .

٢- «محورية حديث الثقلين في العقيدة والأحكام» ـ مخطوط ، هو الأخر أُدرج ضمن كتب مكتبة موقع المركز على شبكة الإنترنيت .

____________

1- كفاية الأثر : ٢٢٧ ، الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي ٢ : ١٢٨ ، وبحار الأنوار ٢٧ : ٢١٧ .

يرى مؤلّف هذا الكتاب أنّ حديث الثقلين من الأحاديث المهمة التي غابت أو غُيّبت عن أغلب المسلمين بفعل سياسات التجهيل التي قام ويقوم بها أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من تواتر الحديث عند سائر المسلمين ، ثم يذكر علماءنا الأجلاّء الذين بحثوا هذا الحديث من جهة السند ، ويقول : « . . .ولأجل استنفار العقول نحو محورية الحديث ، آليت على نفسي الخوض في مضمار متن الحديث ، لعلّي أضع خطوطاً عريضة أقدّمها بين يدي القارىء العزيز ، لنصل معاً إلى حقيقة واحدة ، وهي : أنّ دين الله تعالى المأخوذ من الكتاب والعترة الطاهرة ، مترابط مع بعضه ، ومنسجم في عقائده وأحكامه مع ضرورات الحياة في كل نواحيها ، ولا يتطرّق إليه التناقض أو الاختلاف ; لأنّه من مصدر واحد ، من الله تعالى الذي خلق هذا الكون فأبدعه ، قال تعالى : ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً(1) .

فكما لا يدخل الخلل أو التناقض في أنظمة الكون الفسيح ; لأنّها من بديع صنع الله ، وتتجلّى فيها قدرة الله تعالى ، ينطبق الأمر على النظام الديني والمنهج الإسلامي والإيماني ، الذي أنزله الله تعالى إلينا من خلال رسولنا الأكرم وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)» .

وقد قام «المؤلّف» بشرح هذا الحديث من خلال متونه المختلفة ، وقد بيّن في كتابه أن : لا يوجد على وجه الأرض أحد يطبّق مضامين ومواضيع حديث الثقلين غير الشيعة الإمامية ; أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ، وأمّا غيرهم فلا وجود لحديث الثقلين عندهم .

٣- «سفينة الناجين» ـ مخطوط .

٤- «نظرات المستبصرين» ـ مخطوط .

٥- «الفتنة في الفكر الإسلامي» ـ مطبوع سابقاً .

____________

1- النساء -٤- : ٨٢ .

٦- «معالم الشخصية الإيمانية» ـ مخطوط ، وهو أيضاً أدرج ضمن كتب الموقع .

إثر اطّلاع «المؤلّف» على الكثير من الأبحاث التي دوّنت عن «الشخصية وعملية بنائها» من قبل علماء النفس والاجتماع الغربيين ـ والتي ما زالت تؤثّر على الجيل المسلم ـ وجد أنّ ما يحمله المفهوم الغربي لعملية بناء الشخصية لا يجعل من الحلال والحرام والمبادىء والقيم الدينيّة ميزاناً لعملية البناء تلك ، بل إنّه يركّز على المادّة وكيفية جمع الثروات وتطوير القوى المادّية ، فقرّر «المؤلّف» التصدّي لتلك الرؤى وتبيين الموازين الصحيحة في بناء الشخصية الإيمانية ، وذلك عبر التراث الواصل إلينا من قبل أهل البيت (عليهم السلام) .

يقول «صلاح الدين الحسيني» في مقدّمته للكتاب : «إنّ الناظر في عملية بناء الشخصية عند الغرب ، يجد أنّها لا تبحث في موضوع العدل والظلم ، أو الكرم واللؤم ، أو العزّ والذلّ ، بل إنّها تركّز على كيفية جمع المال ، أو كيفية تطوير العلوم التي تخدم شهوة الناس أو قوة غضبهم وتسلّطهم ، وبحسب مقاييسهم فإنّ الشخصية الناجحة هي التي تملك المال ، فمن لم يملك المال يعدّ فاشلاً .

بينما لو دقّقنا نحن المسلمون فإنّنا نجد أنّ أغلب الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحين خرجوا من الدنيا ولم يكنزوا فيها الأموال ، ولم يكن المال هو شغلهم الشاغل في عملية بناء شخصية الفرد ، بل إنّ الانكباب على الدنيا وحطامها آخر ما يمكن أن يشغلوا أنفسهم به ، فهل هم شخصيات فاشلة بحسب مفهوم تكوين الشخصية المعاصر ، أم أنّ موازين الشخصية هذه الأيام هي الخاطئة ؟

لقد تميّزت الشخصية عند الغرب بتملّك عوامل عدّة ، منها : المال ، وقوة البدن ، وقوة الشهوة ، وقوة الغضب ، وكثرة العلوم ، التي تخدم شهوة الإنسان وهواه فقط ، وليس للناحية الروحية أو الإيمانية أي أثر في بناء الشخصية بحسب مفاهيمهم .

إنّ تلك العوامل إذا لم تستند إلى الله تعالى في تملّكها وغايتها ، فإنّه لا يمكن الانتفاع بها لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولذلك لابدّ من قوة الصلة بالله تعالى والالتزام بأوامره وطاعة رسوله والأئمّة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام) حتى تسير الشخصية على الصراط المستقيم ، وتتجسّد فيها كلّ مكارم الأخلاق ليصحّ أن نطلق عليها شخصية ناجحة مفلحة .

إنّني في هذا البحث المتواضع أضع خطوطاً عريضة لمعالم الشخصية ، لعلّها تكون بداية للتنبّه والتدليل على مفاهيم وقيم أهل البيت (عليهم السلام) في عملية بناء الشخصية ، فالبحث عبارة عن خطوط عريضة شروحاتها موجودة في سُنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال مراجعة تراث أهل البيت (عليهم السلام) وحديثهم ومفاهيمهم» .

٧- «نهج المستنير وعصمة المستجير» ، وقد قام المركز بطبعه ضمن «سلسلة الرحلة الى الثقلين» ، العدد ٣١ .

٨- «سبيل المستبصرين إلى الصراط المستقيم» ، وهو الآخر قام المركز بطبعه ضمن السلسلة نفسها ، العدد ٣٢ .

وقد شرح «المؤلّف» في هذا الكتاب الأمور والعوامل التي كان لها الدور الكبير والأثر الفعّال في وصوله إلى الحقيقة المغيّبة عن المجتمع الإسلامي ، وهي حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) ، ووجوب اتّباعهم ، وركوب سفينتهم سفينة النجاة التي منّ الله بها على العباد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

ومن أهم المواضيع التي سلّط «المؤلّف» الضوء عليها في هذا الكتاب .

ـ عصمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) واعتقاد أهل السنّة في ذلك .

ـ وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، آية البلاغ، آية الولاية وآية كمال الدين وتمام النعمة.

ـ أحاديث الغدير والولاية والثقلين والمنزلة .

ـ حقيقة الصحابة .

ـ اغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمّة من أبنائها (عليهم السلام) .

ـ كيفيّة تعامل أبي بكر ، عمر وعثمان مع السنّة النبويّة ، وأسباب حرق السنّة ومنع تدوينها في عصرهم .

ـ قوانين اعتماد الحديث عند أهل السنّة .

ـ الانقلاب والتغيير بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) .

ـ بحث في التجسيم ورؤية الله عزّ وجلّ .

وقفة مع كتابه «نهج المستنير وعصمة المستجير» :

يتناول «المؤلّف» في كتابه هذا العديد من المواضيع التي ترتبط بمفهوم الاستبصار والمراحل التي يمرّ بها المستبصر حتى يصل إلى هذه الحقيقة ، وكما يقول عن كتابه أنّه : «طريق لمن أراد سلوك طريق الاستنارة والهدى ، وعصمة لمن أراد أن يستجير ويحتمي بسفينة الناجين وولاية أهل الحق المعصومين» .

ويقول عن موضوع الكتاب : « . . . سأبدأ من لحظة اصطدام المستبصر بما خفي عنه من حقائق ، ومن لحظة انقلاب الموازين والمفاهيم ، ثمّ أعود للماضي وأربطه بالحاضر ، وأبيّن كيفيّة ارتقاء المستبصر ، وتدرّجه في السلوك الإيماني ، موضّحاً ذلك من خلال ما حصل معنا ومع مجموعة كبيرة من الإخوة المؤمنين ، الذين أكرمهم الله تعالى ، وتفضّل عليهم بالهداية وسلوك الصراط المستقيم وركوب سفينة الناجين» .

حقيقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند أغلب المسلمين :

من ضمن المواضيع التي يتطرّق إليها «المؤلّف» في تحليله لكتب التاريخ السنّية مكانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند أغلّب المسلمين من العامّة ; فقد جعلوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)شخصاً عادياً غير معصوم في كثير من المواقف ، بل إنّهم في بعض الأحيان جعلوه أقل من الإنسان البسيط العادي ، ولم يكتفوا بذلك بل ألصقوا به تهماً كثيرة لا تليق بإنسان فاضل من عوام الناس ، فكيف به وهو رسول الله وحبيبه ، وهو سيّد الأولين والآخرين ؟ !

يقول «المؤلّف» : «وللأسف الشديد لا زالت كلّ تلك العيوب وما لا يليق برسول الله (صلى الله عليه وآله) مدوّنة في كتب أهل السنّة والجماعة ويقبلون بها ، ويبرّرونها ويقرّرونها ويؤكّدون صحّتها ، ويسمحون بمداولتها ، بل إنّه في أغلب الأحيان يستندون إليها لتقرير أحكام شرعيّة كثيرة وأمور عقائديّة عديدة .

والذي زادنا حيرة وجعلنا ندقّق أكثر في ذلك الواقع ، هو أنّهم جعلوا لشخصيّات كثيرة من الصحابة ، مثل : أبي بكر ، وأبي هريرة ، فضائل أكثر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وجعلوا دينهم وفقههم وعقولهم وتطبيقهم لشرع الله أفضل وأكثر بكثير من تلك التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) !

هذه هي الحقيقة ، وهذا هو التاريخ ، وكلّ مواقفه بين أيديكم ، دقّقوا فيها وافتحوا عقولكم وبصائركم ، فإنّكم ستجدون ما قدّمت لكم من تعبيرات أقلّ بكثير من حقيقة الواقع الذي كان الأوّلون يعاملون رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلاله ، وكيف كانت ، ولا زالت حقيقته (صلى الله عليه وآله) متناقضة ، والنظرة إليه دون العاديّة ، وإنّ ادّعاء محبّته والاقتداء به وبهديه هو مجرّد كلام لا واقع له ; فلقد تبيّن لنا أنّ المسلمين يقتدون بأفعال أبي بكر وعمر ومعاوية ويزيد أكثر من اتّباعهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل إنّهم في كثير من الأحيان يردّون كلام الله تعالى ويؤوّلونه ليتوافق مع كلام وفعل أولئك .

فعندما تقرأ ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر ، كتابي البخاري ومسلم ، فإنّك سوف تجد عشرات التهم والأفعال ينسبونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أنّها لا تجوز في حقّ إنسان عادي ، فتصطدم في تلك الكتب بما لا يليق بمنزلة النبوّة ومقام الرسالة المحمّدية ، ولقد ذكرتُ عدداً كبيراً من تلك التهم والافتراءات على رسول الله (صلى الله عليه وآله)» .

ثم يذكر «المؤلّف» بعض العناوين حتى يُظهِر للقارىء مدى تأثير قراءة التاريخ والمواقف التاريخية بصدق وإنصاف وتدقيق ، وهو ما يوصل عادة إلى الاستبصار .

محاولة الانتحار حقيقة أم تهمة ؟

يقول «المؤلّف» : من الأمور الغريبة جدّاً أنّ كتاب صحيح البخاري يتّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه أراد الانتحار ، ويؤكّد على تكرار المحاولة عدّة مرّات ، وذلك في صحيح البخاري في كتاب التعبير ، باب : أول ما بُدىء رسول الله به من الوحي ، في حديث طويل عن عائشة ، إلى أنْ تقول : «ثمّ لم ينشب ورقة أنْ توفّي ، وفتر الوحي فترة حتّى حزن النبيّ (صلى الله عليه وآله) فيما بلغنا ، حزناً غدا منه مراراً كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدَّى له جبريل ، فقال : يا محمّد ، إنّك رسول الله حقّاً ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقرُّ نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له مثل ذلك»(1) .

فهذا الحديث موجود في أصحّ الكتب عند أهل السنّة والجماعة بعد القرآن ، وعند مطالعتنا للحديث تعجّبنا من ذلك وتساءلنا : هل يجوز من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك الفعل أو تلك التهمة ؟

وهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنساناً عاديّاً أو أقلّ من العاديّ حتّى يقرّر الانتحار ؟

وهل يليق بنا أنْ نؤكّد حصول ذلك الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

ووالله الذي لا إله إلاّ هو لو أنّك اتّهمت رجلاً جاهلاً بمحاولة الانتحار لأقام الدنيا عليك ; لأنّ فيها وصمة عار أبدية ، فكيف يجرؤ المسلمون على توجيه تلك التهمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

بل إنّهم يقرّرونها ويشدّدون على صحّة حدوثها ، ويقول العلماء في شروحات الحديث : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندما لم يستطع أنْ يحمل أعباء الرسالة أراد الانتحار ، ومع أنّهم يعلمون علم اليقين حرمة ذلك الفعل وشدّة عقابه عند الله تعالى وشدّة تحريمه في القرآن الكريم ، بل إنّ البخاري في صحيحه والذي يروي حصول إرادة الانتحار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يروي أيضاً حرمة الانتحار الشديدة ويبيّن أنّ عقوبة ذلك الفعل الخلود في نار جهنّم والعياذ بالله . .

فقد روى في صحيحه ، في كتاب الطب ، باب : شرب السمّ : عن أبي هريرة ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، قال : «من تردَّى من جبل فقتل نفسه ، فهو في نار جهنّم يتردَّى فيه خالداً مخلَّداً فيها أبداً ، ومن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه ، فسمّه في يده يتحسَّاه في نار جهنّم

____________

1- صحيح البخاري ٨ : ٦٨ .

خالداً مخلّداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»(1) .

فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى عن فعل ويأتي مثله ؟

أليس رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو القدوة في الاتّباع والاقتداء ؟

ألم يكن مثلاً أعلى في شدّة التحمّل والصبر والشجاعة ؟ ألم يصفه رب العزّة جلّ وعلا بأنّه على خلق عظيم ؟

ولماذا توجد مثل هذه الروايات أصلاً في كتب المسلمين ؟

ولو أنّ شخصاً في يومنا هذا ألّف كتاباً وطعن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه طعنة واحدة وبمستوى أقلّ ممّا هو موجود في كتاب البخاري ، لقامت الدنيا على مؤلّفه ولم تقعد ، وسوف يقرّر الناس أنّ جهات خارجيّة داعمة لذلك المؤلّف ، وأنّها الحرب على الإسلام وثقافته وعلى المسلمين ، فلا يمكن للمسلمين أنْ يقبلوا ما يمسّ مقام النبيّ الأكرم ورسولنا الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله) ، ولكنّ السؤال المهمّ في هذا المقام : لماذا يسكت الناس والعلماء على وجود ما لا يليق بشخص رسول الله في أهمّ كتبهم بعد القرآن ؟ ولماذا يعطون البخاري العصمة ويصحّحون كلّ ما ورد في كتابه (صحيح البخاري) ، ولا يمنحون العصمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) التي منحها الله تعالى له وأقرها ؟

هل أنّ البخاري هو أفضل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحيث إنّنا نجوّز النقصان والعجز وقلّة التحمّل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا نجوّز ذلك على شخص مثل البخاري ؟

ثمّ من هي تلك الشخصيّة التي نالت مقاماً أسمى من مقام الرسالة ومنزلة النبوّة ؟ ومَنْ كان وراء وجود ذلك الكتاب ؟ ومن الذي فرضه على المسلمين وجعله بتلك المنزلة السامية الرفيعة ؟

هل كان كتاباً أملته السلطة الحاكمة في ذلك الوقت ، والتي كانت على عداء

____________

1- صحيح البخاري ٧ : ٣٢ .

مباشر وصريح مع رسول الله وأهل بيته المعصومين سلام الله تعالى عليهم جميعاً ؟

هل يجوز في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يكون مسحوراً ؟

ثمّ إنّنا قرأنا في كتب الصحاح وعلّمنا أساتذتنا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سُحِر ، سَحره لبيد بن الأعصم اليهودي ، وكان ذلك في أواخر عهده من الدنيا ، وهذا ما رواه البخاري وغيره من صحاح أهل السنّة ، فهم يقرّرون حصول ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل ويستشهدون به دائماً ، ويدرّسونه للناس ، كما تعلّمناه نحن في المدارس والمساجد . .

فقد روى البخاري في صحيحه ، كتاب بدء الخلق ، باب : صفة إبليس وجنوده ، عن عائشة ، قالت : «سُحِر النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتّى كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما يفعله»(1) .

والذي يثير حفيظة المدقّق المنصف عند قراءته هذا الحديث والتأكيد على سحر رسول الله من قبل علماء السنّة ، هو أنّ حصول السحر جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله)يُخيّل إليه أنّه يفعل الشيء ولا يفعله ، وهذا يعني : حصول خلل في عملية تبليغ الرسالة أو أيّ شيء من الوحي ، فربّما قال رسول الله شيئاً وهو مسحور على أنّه وحي من الله تعالى وهو ليس كذلك بل من تأثير السحر عليه ، أو ربّما قال شيئاً من الوحي وظنّ من حوله أنّه من تأثير السحر .

إنّ القول بجواز سحر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو طعن في شخصه (صلى الله عليه وآله) ، وطعن في مقام النبوّة ومنزلة الرسالة ، وطعن في عقائد الدين وأحكامه ، والقول بجواز وقوع رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت تأثير السحر هو ممّا لا يجوز شرعاً وعقلاً ، ولا يمكن أن يقبل ذلك العقل الصحيح والمنطق السليم .

وعلاوة على ذلك فقد جزم القرآن الكريم باستحالة وقوع رسول الله (صلى الله عليه وآله)

____________

1- صحيح البخاري ٤ : ٩١ .

تحت تأثير السحر ، بل إنّه اعتبر من يدّعي جواز حصوله عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أشدّ الظالمين ، والظلم من أشدّ المحرّمات التي نهى عنها الشارع المقدّس ، وتوعّد الظالم بالعقاب الشديد والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة . .

قال تعالى في سورة الإسراء : ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا(1) .

فهل بعد هذا البيان المقنع والتفصيل القرآني البيّن الواضح ، يجوز للمسلمين أن يكونوا من أشدّ الظالمين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ وهل يدرك من يقرّر ذلك أنّه يستحقّ غضب الله وسخطه ؟ وهل من قرّر لنا صحة الأحاديث ، خصوصاً التي في صحيحي البخاري ومسلم ، هو أفضل من شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

هل يجوز في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أنْ يجهل الوحي ؟

وكان من أوّل ما تعلّمنا وقرأنا في بداية حياتنا الدراسيّة ، وهذا طبعاً في بلادنا ، التي غاب عنها فكر أهل البيت (عليهم السلام) وثقافتهم ، هو : كيفية نزول الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غار حراء ، حيث تذكر المصادر السنّية الكيفيّة التي تعامل الوحي فيها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ونزول سورة العلق ، ثمّ خوف النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهروبه إلى منزل خديجة(2) ، ثمّ نزول سورة المدّثّر ، وما إلى ذلك من أحداث لا تناسب مقام النبوّة !

____________

1- الإسراء -١٧- : ٤٧ .

2- روى البخاري في صحيحه : أنّ عائشة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) قالت : أول ما بدىء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ، قال : وهو التعبّد الليالي ذوات العدد ـ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ، ثمّ يرجع إلى خديجة ، فيتزوّد لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارىء . قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ منّي الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارىء . فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : أقرأ . فقلت : ما أنا بقارىء . قأخذني فغطّني الثالثة ، ثم أرسلني ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) (العلق ٩٦ : ١ ـ ٣) .

فرجع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ، فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ، ما يخزيك الله أبداً ، إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ـ ابن عم خديجة ـ وكان أمرءاً قد تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمى . فقالت له خديجة : يا ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . قال له ورقة : يا ابن أخي ، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك . . . (راجع : صحيح البخاري ١ : ٣ ، و٦ : ٨٨) .

إنّها تُسيء إلى نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) أيّما إساءة ; فإنّه المعروف بداهة أنّ من تُوكَل إليه مهمّة ما من الناس العاديين ، فإنّه لابدّ له من أنْ يحيط بماهيّاتها وظروفها ومراميها ، والأهمّ من ذلك معرفة من أوكله بمهمّته تلك ، وإلا فلا يتحقّق له تحقيقها ، فضلاً عن أن يكون أهلاً لها ، فكيف برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، الذي اختاره الله واصطفاه لعلمه وكماله وخصوصية شخصيّته غير الاعتيادية ؟

مع العلم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبحسب ما روته كتب الحديث أنّه كان نبيّاً وآدم بين الروح والجسد(1) . . وإنّ حجراً بمكّة كان يسلّم عليه (صلى الله عليه وآله) قبل بعثه بالرسالة(2) . . ثمّ خروجه لفترات طويلة إلى غار حراء يتعبّد الله تعالى هناك(3) . . فهذه شواهد كافية لأنْ يكون على معرفة راسخة بحقيقة أمره .

أضف إلى ذلك : إنّ الله تعالى إذا اختار عبداً واجتباه واصطفاه ، فإنّ من المقطوع به أن يحفّه بالرعاية التامّة والإحاطة المقترنة بالتمكين وقبول كلّ ما يمكن أن يوكله الله تعالى به ، فهل من الممكن بعد ذلك الطعن في عصمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟

____________

1- راجع : سنن الترمذي ٥ : ٢٤٥ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٦٠٨ .

2- راجع : صحيح مسلم ٧ : ٥٨ ، مسند أحمد ٥ : ٨٩ .

3- صحيح البخاري ٦ : ٨٨ .

وهل من الممكن قبول مثل تلك الروايات التي تشكّك بمعرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالوحي ؟

هل يجوز في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أن ينسى كتاب الله تعالى ؟

يقول الله تعالى في سورة الأعلى : ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى(1) . هكذا وصف القرآن الكريم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بأنّه : لا ينسى ، وهذا ضمان من الله تعالى ، الذي قال : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(2) . من أجل تقرير شخصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)التي أرادها الله تعالى ، وقرّرها العقل السليم والمنطق الرفيع ، وقد أكّدت الأحاديث المتضافرة هذه الإرادة الإلهيّة بأنْ لا ينسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأنّها كانت منذ بعثه (صلى الله عليه وآله)بالرسالة ويوم نزول سورة العلق .

فقد أورد السيوطي في الدرّ المنثور ، في حديث طويل عن عائشة ، عندما نزل عليه الأمين جبرئيل في الغار ، من جملته أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال وهو يتحدّث عمّا جرى له مع جبرئيل : ثم قال لي : ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله : ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ(3) ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فما نسيت شيئاً بعده(4) .

ولكنّ نظرة بعض الصحابة ، وكذلك أصحاب الصحاح والمسانيد ، ومن تبعهم وأيّدهم من المسلمين هي : الاختلاف مع هذا التعريف لشخصيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقالوا للقرآن الكريم : أنت تقرّر أنّ الرسول لا ينسى ، ولكنّنا لا نوافقك ، ونقرّر أنّه ينسى ، ونثبته في قلوب العوام . وهذا هو الواقع اليوم الذي لا يقبل النقاش عند المسلمين من أهل السنّة والجماعة . .

فقد روى البخاري في صحيحه ، في كتاب الشهادات ، باب : شهادة الأعمى :

____________

1- الأعلى -٨٧- : ٦ .

2- الحجر -١٥- : ٩ .

3- العلق -٩٦- : ١ ـ ٥ .

4- الدر المنثور ٦ : ٣٦٩ .

عن عائشة قالت : «سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) رجلاً يقرأ في المسجد ، فقال : رحمه الله ، لقد أذكرني كذا وكذا آية ، أسقطتهنّ من سورة كذا وكذا»(1) .

ورواه البخاري في صحيحه أيضاً ، في كتاب فضائل القرآن ، باب : نسيان القرآن(2) .

وأيضاً في كتاب فضائل القرآن، باب : من لم يرَ بأساً أن يقول سورة البقرة(3) .

ورواه أيضاً في كتاب الدعوات ، باب : قوله تعالى : (وصلّ عليهم)(4) .

ورواه أيضاً مسلم(5) ، وغيرهما من كتب الرواية والحديث(6) .

وكما ترى أخي الكريم فإنّ القرآن الكريم يقرّر إرادة الله تعالى في شيء ما ، ويأتي البخاري وغيره ليناقض ذلك ، ويلقى كلامه القبول والتطبيق من أغلب المسلمين !

والأغرب من ذلك أنّ البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الصحاح يقرّرون أنّ عدداً من الصحابة كان لا ينسى شيئاً ممّا حفظه ، ويلقى هذا الرأي القبول الواسع عند جمهور العامّة من المسلمين .

فقد روى البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب : حفظ العلم : عن أبي هريرة ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنّي أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه ؟ قال : «أبسط رداءك» ، فبسطته ، قال : فغرف بيديه ، ثم قال : «ضمّه» ، فضممته ، فما نسيت شيئاً بعده(7) .

____________

1- صحيح البخاري ٣ : ١٥٢ .

2- صحيح البخاري ٦ : ١١٠ .

3- صحيح البخاري ٦ : ١١١ .

4- صحيح البخاري ٧ : ١٥٢ .

5- صحيح مسلم ٢ : ١٩٠ .

6- راجع مثلاً : السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٠ ، السنن الكبرى للبيهقي ٣ : ١٢ .

7- صحيح البخاري ١ : ٣٨ .

ورواه البخاري أيضاً ، في كتاب المناقب ، باب : سؤال المشركين أن يريهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) آية(1) .

وروى البخاري في صحيحه ، في كتاب البيوع : أنّ أبا هريرة قال : إنّكم تقولون : إنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وتقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدّثون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمثل حديث أبي هريرة ، إنّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم وكنت ألزم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ملء بطني ، فأشهدُ إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا ، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم ، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصُفّة ، أعي حين ينسون ، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث يحدثه : «إنّه لن يبسط أحد ثوبه حتّى أقضي مقالتي هذه ، ثمّ يجمع إليه ثوبه ، إلا وعى ما أقول» ، فبسطت نمرة عليّ ، حتّى إذا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مقالته جمعتها إلى صدري ، فما نسيت من مقالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تلك من شيء(2) .

يا سبحان الله ! أبو هريرة لا ينسى ويحفظ كلّ شيء ، ويقرّر ذلك العلماء ، ويفتخرون براوية الإسلام ، ويقفون أمام ظاهرة حفظه موقف المقرّ المعترف بقدرة أبي هريرة ، بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينسى آيات القرآن(3) ، وينسى عدد ركعات الصلاة(4) ، وينسى أنّه جنب(5) ، وينسى أمر الجيش وحاجته للماء ، وغير ذلك من أمور النسيان والسهو والإهمال التي يقرّرونها ويسلّمون لها .

والغريب أنّهم يعتقدون أنّ ظاهرة الحفظ وعدم النسيان عند أبي هريرة كانت بفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي وضع تلك الخاصية عند أبي هريرة ، كما في

____________

1- صحيح البخاري ٤ : ١٨٨ .

2- راجع : صحيح البخاري ٨ : ١٥٨ .

3- صحيح البخاري ٣ : ١٥٢ ، صحيح مسلم ٢ : ١٩٠ .

4- صحيح البخاري ٢ : ٦٦ .

5- صحيح البخاري ١ : ٧٢ .

الروايات ، ولكنّهم يعتقدون بسهو ونسيان من أعطى تلك الخاصية ، فهل من عنده القدرة على جعل مثل أبي هريرة لا ينسى ويمنحه القدرة على الحفظ لا يستطيع أن يمنحها لنفسه ؟

تُهم أخرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لصنع فضائل للصحابة :

روى البخاري في صحيحه ، في كتاب التيمم ، باب : الصعيد الطيّب : عن عمران ، قال : «كنّا في سفر مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإنّا أ سرينا ، حتّى كنّا في آخر الليل ، وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلاّ حرّ الشمس ، وكان أوّل من استيقظ فلان ثمّ فلان ثمّ فلان ـ يسمّيهم أبو رجاء فنسى عوف ـ ثمّ عمر بن الخطاب الرابع ، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا نام لم يوقظ حتّى يكون هو يستيقظ ; لأنّا لا ندري ما يحدث له في نومه ، فلمّا استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس ، وكان رجلاً جليداً ، فكبّر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبّر ويرفع صوته بالتكبير ، حتى استيقظ بصوته النبي (صلى الله عليه وآله) ، فلمّا استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم ، قال : «لا ضير ، أو لا يضير ، ارتحلوا» . فارتحل ، فسار غير بعيد ، ثمّ نزل فدعا بالوضوء ، فتوضّأ ، ونودي بالصلاة فصلّى بالناس»(1) .

ورواه مسلم في صحيحه ، وغيرهما كثير(2) .

والملاحظ في هذه الروايات كثرة تناقضها الواضح ; فبعد اتّهام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالنوم والسهو عن الصلاة ، فإنّنا نلاحظ قضيّة هامّة ملفتة للنظر ، وهي أنّه ومن خلال الطعن على شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتّهامه بالتقصير والنسيان واللامبالاة والنوم والسحر وغيرها ، نجد أنّ التهمة والمنقصة بعد إظهارها في الرواية تتحوّل إلى فضيلة لشخص آخر أو أشخاص آخرين غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حتّى أنّهم يظهرونهم بمظهر الأبطال والمنقذين ، ولذلك يُظهَر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه شخص

____________

1- صحيح البخاري ١ : ٨٨ .

2- راجع : صحيح مسلم ٢ : ١٤١ ، مسند أحمد ٤ : ٤٣٤ ، صحيح ابن حبّان ٤ : ١٢٠ .

عادي ، بل تبيّن هذه الروايات وأمثالها أنّ هناك من هو أفضل من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأجلد منه وأحرص منه على دين الله وشريعته ، فبالتالي يفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عصمته ومقامه ، ويمنح الفضل لأشخاص آخرين ، وهذا هو المقصود الرئيسي من هذه الروايات وأمثالها عند أهل السنّة والجماعة .

وتعليقاً على الرواية السابقة ، والتي تتناقض مع بعضها ، وتتناقض مع حقيقة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري : وقد اختلف العلماء ، هل كان ذلك مرّة أو أكثر ، أعني : نومهم عن صلاة الصبح ، فجزم الأصيلي بأنّ القصّة واحدة ، وتعقّبه القاضي عياض بأنّ قصّة أبي قتادة مغايرة لقصّة عمران بن حصين ، وهو كما قال ، فإنّ قصّة أبي قتادة فيها أنّ أبا بكر وعمر لم يكونا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) لمّا نام ، وقصّة عمران فيها أنّهما كانا معه ، كما سنبّينه ، وأيضاً فقصّة عمران فيها أنّ أوّل من استيقظ : أبو بكر ، ولم يستيقظ النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتّى أيقظه عمر بالتكبير ، وقصّة أبي قتادة فيها أنّ أوّل من استيقظ : النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وفي القصّتين غير ذلك من وجوه المغايرات(1) .

وعلى ما يبدو وكما ذكرنا ، فإنّ كلّ تلك المتناقضات والطعونات على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ما وضعت إلاّ لاصطناع فضائل لشخصيّات معينة ، أو تبريراً لأفعال مشينة قد فعلها بعض أولئك ، فحتّى تكون الأمور طبيعيّة استشهدوا بحصولها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ وحاشاه من ذلك ـ فتَظْهَرُ أفعالهم مبرّرة ولا تعتبر في حقّهم منقصة ، بل إنّها تتحوّل إلى فضائل لهم .

وإليك حادثة أخرى سهى فيها بعض الصحابة عن صلاتهم ، فحتّى يكون السهو طبيعيّاً ومبرّراً أضافوا السهو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) . .

فقد روى البخاري في صحيحه ، في كتاب مواقيت الصلاة ، باب : من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت : عن جابر بن عبدالله : «أنّ عمر بن الخطاب جاء

____________

1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١ : ٣٧٩ .

ورواه مسلم وغيرهما كثير(1) .يوم الخندق بعدما غربت الشمس ، فجعل يسبّ كفّار قريش ، قال : يا رسول الله ، ما كدت أصلّي العصر ، حتّى كادت الشمس تغرب ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «والله ما صلّيتها» . فقمنا إلى بطحان ، فتوضّأ للصلاة وتوضّأنا لها ، فصلّى العصر بعدما غربت الشمس ، ثمّ صلّى بعدها المغرب» . ورواه البخاري في صحيحه في أكثر من موضع ، في كتاب الأذان ، باب : قول الرجل : ما صلّينا ، وفي : أبواب صلاة الخوف ، وفي كتاب المغازي ، باب : غزوة الخندق . .

يقول النووي في شرح صحيح مسلم : «وإنّما حلف النبيّ (صلى الله عليه وآله) تطييباً لقلب عمر ، فإنّه شقَّ عيه تأخير العصر إلى قريب من المغرب ، فأخبره النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه لم يصلِّها بعد ، ليكون لعمر به أسوة ، ولا يشقَّ عليه ما جرى وتطيب نفسه ، وأكّد ذلك الخبر باليمين»(2) .

لاحظوا في الشروحات ، فإنّها تكون دائماً لتبرير فعل الصحابي ، ثمّ استنباط الأحكام بناءً على ذلك التبرير ، ولا يلفت النظر نهائيّاً إلى شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله)وعصمته وأدبه وخلقه ، بل تتّجه إلى اصطناع فضائل وتبرير مواقف فعلها الصحابة حتّى لو خالفت القرآن الكريم وكلام ربّ العالمين ، الذي يقول : ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً(3) .

وقد ذكر في كتب التاريخ والحديث : أنّ أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) كان لا يدع صلاته حتّى في أشدّ المواقف ، وقد ذكرت صلاته في معركة صفّين عندما كانت تنهال عليه النبال من كلّ صوب وهو مستمر في صلاته(4) . .

____________

1- راجع : صحيح البخاري ١ : ١٤٧ ، ١٥٧ ، ٢٢٧ ، ٥ : ٤٩ ، صحيح مسلم ٢ : ١١٣ ، سنن النسائي ٣ : ٨٤ ـ ٨٥ ، سنن الترمذي ١ : ١١٦ .

2- شرح صحيح مسلم للنووي ٥ : ١٣١ .

3- النساء -٤- : ١٠٣ .

4- انظر : صلاته في ليلة الهرير في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٧ ، وصلاته في معركة صفّين في إرشاد القلوب ٢ : ٢٢ .

 

فهذا تلميذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فكيف برسول الله الذي علّم أمير المؤمنين (عليه السلام)كيف يكون الرجل رجلاً في المواقف الصعبة ؟

وكيف كانوا كلّما اشتدت الأمور كانوا يزدادون قرباً من الله تعالى(1) ؟

____________

1- مقتطفات من كتاب المستبصر «نهج المستنير وعصمة المستجير» : ١٠٥ ـ ١٣٣ . (بتصرّف يسير) .