محمد أحمد محمود إبراهيم

محمد أحمد محمود إبراهيم (حنفي / مصر)

ولد عام ١٣٨٤هـ (١٩٦٥م) في جمهورية مصر العربية، ونشأ في أُسرة حنفية المذهب.

واصل «محمّد» دراسته الأكاديمية هناك إلى أن نال شهادة الليسانس في قسم الاجتماع من جامعة عين شمس، وشهادة ديبلوم للدراسات العليا في علم الإجرام من نفس الجامعة، كما له بحوث ومقالات خاصّة ببعض المشاكل الاجتماعية في المجتمع المصري، كالبطالة والطلاق والتفكّك الأسري.

التقدير الإلهي يقود «محمّد» للتعرّف على المذهب الشيعي:

بعد ما يقارب ثلاث عقود من نشأته على المذهب الحنفي قاده التقدير الإلهي إلى أن يدخل بعض المواقع على الإنترنيت، والتي كانت تطلب من روّادها إبداء آرائهم بالنسبة لبعض القادة العرب والمسلمين، فأثنى حينها على أحد القادة الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) كونه من المقاومين ضد الغطرسة الصهيونية والأمريكية، فما كان من روّاد هذا الموقع إلاّ أن أرسلوا ردوداً على آرائه تستنكر ما قاله، وتطالب إدارة الموقع بطرده كونه من «الشيعة الرافضة».

لم يكن يعلم «محمّد» حينها ما معنى هذه العبارة، فدفعه حبّ الاستطلاع إلى البحث عن هذا المصطلح.

يقول «محمّد»:.. فقد آثرت على نفسي حينها أن أبحث عن معنى «الشيعة»، وكانت الصدمة لي أن أرى أنّ الشيعة هم أنصار الرسول الأكرم والإمام علي والحسن والحسين(عليهم السلام)، وأنّهم مسلمون مثلنا، فأخذت على نفسي أن أبحث أكثر لأتعرّف عن قرب عن أُولئك المسلمين مثلنا، ومن عملت آلة الإعلام على التشويش والتغطية عليهم، فقرأت العديد من الكتب بتمحيص وتدقيق، وخصوصاً كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، والبداية والنهاية لابن كثير.

الاطلاع على المصادر الشيعية ثمّ الاستبصار:

يتابع «محمّد» قائلاً: بعدها اطّلعت على بعض الكتب الشيعية من خلال معرض الكتاب السنوي الذي كان ينظّم في القاهرة، وكان هناك مراسلات وتبادل للأفكار بيني وبين بعض المستبصرين من خلال الإنترنيت، فكانوا يجيبون على الأسئلة التي كنت أطرحها عليهم.

وبعد ثلاث سنوات من البحث والتحرّي الذاتي أيقن «محمّد» أنّ الإسلام الحق لا يكون إلاّ باتّباع أهل البيت(عليهم السلام) وموالاتهم والبراءة من أعدائهم، فأعلن عن استبصاره، وكان ذلك عام ١٤٢٦هـ (٢٠٠٦م) في جمهورية مصر العربية.

مؤلفاته:

القيم الاجتماعية كما تعكسها ثورة كربلاء.

صدر عام ١٤٣٤هـ (٢٠١٣م) عن «مركز الأبحاث العقائدية» ضمن سلسلة «الرحلة إلى الثقلين»، العدد ٤٣.

وهو دراسة تحليلية لقيم الإمام الحسين(عليه السلام) ومقارنتها مع قيم السلطة الأُموية، ويحتوي الكتاب على مقدّمة وأربعة فصول:

جاء الفصل الأوّل بعنوان «الإجراءات المنهجية للدراسة»، وفيه عرض الباحث مشكلة الدراسة وأهميّتها وأهدافها وتساؤلاتها، كما تعرّض للمنهج الذي استخدمه في دراسته، وأدوات جمع البيانات، ومجتمع البحث والعيّنة، وأخيراً تعرّض لأهمّ المفاهيم التي استخدمت في الدراسة.

وقد جاء الفصل الثاني بعنوان: «الاتجاهات النظرية المفسّرة للقيم»، وفيه استعرض الباحث بعض النظريات الاجتماعية المفسّرة للقيم ; إذ تعرّض للنظرية البنائية الوظيفية، والنظرية الماركسية، ونظرية الصراع، كما تعرّض للاتّجاه الفينومينولوجي، وجميعها نظريات ساهمت في التعرّف على طبيعة القيم، وأهمّ العمليات المتضمّنة لها، وقد اختتم هذا الفصل بعرض مدخل نظري تصوّري تبنّاه الباحث في دراسته.

هذا، وقد جاء الفصل الثالث بعنوان: «الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)»، وتعرّض فيه لبعض صور الواقع الاجتماعي، والتي تمثّلت في مؤتمر السقيفة، ونتائجه وبعض الأحداث التي رافقت قيام دولة الخلافة الأُولى والثانية، وممارسات رافقت قيام الخليفة الثالث «عثمان بن عفان»، التي كان لها أثراً بالغاً في إحداث الفتنة، كما تناول دور الأحزاب السياسية، التي كان لها تأثيراً ملموساً على سير الأحداث في داخل المجتمع، ودورها في الاضطرابات السياسية وقيام الحروب الأهلية، كالناكثين، والفئة الباغية، وكذلك المحايدين، وأخيراً تعرّض لتحليل سوسيولوجي لثورة الإمام الحسين(عليه السلام): للوقوف على أهمّ أسباب الثورة وتداعياتها.

أمّا الفصل الرابع، فقد جاء بعنوان: «القيم الاجتماعية عند الإمام الحسين(عليه السلام)وعند السلطنة الأُموية»، وتعرّض الباحث فيه لأهمّ القيم التي دافع عنها كلا الطرفين من أجل تبرير مواقفهما، السياسية والاجتماعية.

وقد اختتم هذه الدراسة بعرضه لأهمّ النتائج التي وصلت إليها الدارسة الميدانية.

وقفة مع كتابه: «القيم الاجتماعية كما تعكسها ثورة كربلاء»

يتناول الباحث في الفصل الرابع من كتابه هذا: القيم الاجتماعية التي طالما كان يؤكّد عليها الإمام الحسين(عليه السلام) كضرورة قصوى وملحّة في المجتمعات التقليديّة التي تعاني من الاستغلال والاستبداد، ويرى أنّه بدون التأكيد على قيم التغيير الاجتماعي هذه لن يكون هناك أيّ أمل في تطوّر هذه المجتمعات سواء على المستوى الروحي أو المادّي.

قيم الثورة والتغيير الاجتماعي:

يقول «محمّد»: يطرح الإمام الحسين(عليه السلام) الأسباب الملحّة التي جعلته يقوم بالثورة من أجل التغيير الاجتماعي، والتي من أجلها ضحّى بروحه وروح آل بيته، وضحّى معه أتباعه الشرفاء، فهو يقوم بتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي في عصره، ويؤكد على أنّ هذا الواقع كان متدنّياً وزائفاً ولم يعد بحالة النقاء والصفاء التي كان عليها في زمن النبي(صلى الله عليه وآله)، فالقيم والأفكار الإيجابية التي دعمها الإسلام ولا زالت محفورة في صفحات الكتاب الربّاني، قد نبذتها السلطة الأُمويّة وجعلتها وراء ظهورها.

فقد أماتوا السُنّة وأحيوا البدع والقيم والأفكار الجاهلية التي طالما حاربها الإسلام، فالمتحكّمون في أُمور المسلمين ومصائرهم من بني أُميّة قد دأبوا على نشر هذه البدع والقيم الجاهلية.

والنتيجة أن عمّ الفساد والرشوة في المجتمع، وتعطلت القوانين (الحدود)، وأصبح الحقّ غريباً في بيته، لا يعمل به، والباطل لا يتناهى عنه، بل أصبح سمة مميزة في المجتمع، وأصبحت ثروة المجتمع دولة بين الأقليّة من السلطة الأُموية وعائلاتها المحظوظة التي عاشت حياة الغنى والترف، بينما الأغلبية في المجتمع يعانون الفقر والحرمان والتهميش والقمع.

ورغم ذلك تطالبهم السلطة الأُموية بضرورة مجاراة الواقع والتسليم له، خصوصاً بعد أن فرضت السلطة الأُموية ـ تساندها الصفوة الأرستقراطية بما لها من نفوذ ديني وسياسي ـ على المجتمع يزيد بن معاوية خليفة لهم، وانتزعت من البعض المبايعة بحدّ السيف والقهر تارة، وبالرشوة والنفاق تارة أُخرى، مستندة إلى أدواتها القمعية، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الشورى، التي هي باطلة أيضاً، وحرّية الناس في اختيار خليفتهم، وغير مكترثة بالمعارضة الواسعة لتولّي يزيد الخلافة! فقد كانت الغالبية العظمى ترفض بيعة يزيد، وترى فيه أنّه شخص غير مؤهّل للخلافة، ولا تنطبق عليه شروط تولّي الخلافة، فضلاً عن أنّهم قد رأوا في وفاة معاوية أملاً في التخلّص من حكم البيت الأ ُموي، الذي استندت سياسته إلى القهر والديكتاتورية، والتجويع، وملاحقة المعارضين السياسيين، وتصفيتهم جسدياً، وقطع الأرزاق عنهم، ومصادرة أموالهم، ولكنّهم صُدموا مرّة أُخرى بفرض يزيد بن معاوية عليهم، تلك هي حالة البناء الاجتماعي المتدهور على كافة المستويات، فعلى المستوى السياسي: (إرهاب، ديكتاتورية، وتغيير في نظام الحكم السائد إلى نظام ملكي وراثي).. وعلى المستوى الاجتماعي: (تفاوت طبقي شديد، أقلّية تمتلك الثروات والقصور والضياع، وأغلبية مغلوبة على أمرها تعيش حالة الفقر والكفاف والتهميش، ولا يؤخذ برأيها في أُمور الدولة).. وعلى المستوى القيمي الثقافي: (قيم اجتماعية ظهرت في المجتمع كانت قد اختفت أو قاربت على الاختفاء تمّ إحياؤها من جديد، كالعصبية، والأثرة، والترف، وحبّ السلطة، وظهور أمراض اجتماعية خطيرة انتشرت، كالرشوة والفساد وانتشار القيم السلبية والنفاق..)، وانتشار البدع في الدين، ووضع الأحاديث المكذوبة المنسوبة إلى الرسول(صلى الله عليه وآله) استخدمها البعض في صراعه على السلطة، وظهور اتجاهات دينية فسّرت الدين بما يتناسب مع هوى الحاكم (القدرية والجبرية).

ومن هنا كان من أهمّ أوليات الإمام الحسين(عليه السلام) إصلاح هذا البناء الاجتماعي المنهار من خلال إحداث عملية تغيير شاملة في المجتمع، وذلك من خلال منهج تطبيقي، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد استخدمه من خلال أُسلوبين مختلفين:

الأول: سلمي، اقتصر فيه على محاوراته مع السلطة الأُموية، ورفضه لبيعة يزيد، ومحاولاته لإثناء هذه السلطة على فرض يزيد على المجتمع الإسلامي.

والثاني: ثوري، عندما علم جدّية السلطة في فرض يزيد على المجتمع، وأنّ السلطة الأُموية لن تتركه حيّاً إلاّ إذا اعترف بشرعية يزيد قهراً وقسراً، فكان من الضروري الثورة على يزيد بن معاوية باعتباره رئيس السلطة والحكم الأُموي المسؤول عن انهيار المجتمع، مخالفاً لسنّة الرسول(صلى الله عليه وآله)..

وباعتباره هو أولى المسلمين بقيادة هذا التغيير، فواجبه الديني والاجتماعي يحتمان عليه القيام بالثورة، والتي سوف تأتي بالتغيير الإيجابي في المجتمع، وانتشال الأُمّة من حالة الانهيار الحضاري، بعد أن تركت المنكر يعمل به، وتراخت عن الأمر بالمعروف، وتخلّت عن عقلها، وضميرها.

فعملية التغيير الاجتماعي الشاملة التي حاول الإمام الحسين(عليه السلام) أن يحقّقها، والتي ترتكز على منهج: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إنّما كان يهدف من ورائها إلى مجتمع يعيش فيه الإنسان بحرّية وبدون قهر، ومجتمع يسوده العدل في كلّ مكان، يحقق العدالة الاجتماعية، وتصان فيه حقوق الإنسان، ويسمح لأفراده في اتّخاذ القرارات المصيرية، مجتمع لا مكان فيه للطغاة، ولا للجبّارين، ولا للظالمين، ولا للجلاّدين.

وعلى الرغم من أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان على علم بأنّه يواجه سلطة غاشمة تمتلك من الإمكانات المادّية والنفوذ ما يمكنها من وأدعملية التغيير الاجتماعي إلاّ أنّه أصرّ على القيام بها، بصرف النظر عن نتائجها وعواقبها الآنية، والتي كان يعلم الإمام(عليه السلام) أنّها لن تجني ثمارها في الوقت الأدنى، فقد تَحولُ الأوضاع الاجتماعية المختلفة دون تحقيق الأهداف والقيم المرغوبة، ولكن ذلك لا قيمة له أمام الباعث الحقيقي لهذه الأهداف والقيم، ولهذا كانت كلمات الإمام الحسين(عليه السلام) الخالدة تجسيداً لقيمه على أرض الواقع المجتمعي:

«إنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرت جداً فلم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحق لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ شهادة(1)، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ برما»(2).

«إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(3).

«من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عبادة الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيري(4).

قيم السلام والتسامح:

تعدّ قيم السلام والتسامح من أبرز القيم التي أكّد عليها الإمام الحسين(عليه السلام)في ثورة كربلاء ; فقد دافع عن الخير في مواجهة الشرّ، ومناصرة المظلوم ضدّ الظالم، وكانت ثورته من أجل الفقراء والمساكين، في حين كانت السلطة الأموية يقتلون الناس ويشيعون الخوف، ويزيدون من آلام الناس، ويفضّلون المنفعة الخاصّة على مصالح الأمّة.

فلم يكن الإمام الحسين(عليه السلام) يبتغي الفتنة، أو أن يضرب الناس بعضها ببعض، أو أن يقطع أواصر الأُمّة، كما صوّرته الدعاية الأُموية.. ولم يكن داعية حرب، على الرغم من أنّه من أفضل المحاربين وأشجعهم، فهو لم يخرج إلى الكوفة بجيش لاحتلالها، ولكنّه خرج تحقيقاً لرغبة ومطالب أهل الكوفة الذين تعاهدوا على مبايعته ونصره وإيوائه، وبلغت رسائلهم حوالي ثمانية عشر ألف رسالة يطلبون فيها من الإمام الحسين(عليه السلام) سرعة المجيء إلى الكوفة.

إنّ صوت السلام نسمعه في صدى أفعاله النبيلة، فهو لم يبدأ بقتال جيش السلطة الأُموية، ورفض اقتراح زهير بن القين بمحاربة طلائع جيش يزيد، الذي قابله وهو في طريقه إلى العراق، ولو كان حاربهم لأبادهم جميعاً، وكان جوابه: ما كمنت لأبدأهم بالقتال(5).

كما رفض محاولة مسلم بن عوسجة، الذي أراد أن يرمي أحد قوّاد الجيش الأُموي (شمر بن ذي الجوشن) بسهم عندما وقف أمام معسكر الإمام الحسين(عليه السلام)وأخذ يشتم ويسبّ الإمام الحسين(عليه السلام)، فلم يأذن له الإمام بذلك قائلاً له: «لا ترمه، فأنّي أكره أن أبدأهم»(6).

وهو لم يستخدم آليات السلطة الأُموية في الوصول إلى أهدافه من إشاعة الإرهاب والخوف والخديعة والمكر وقتل الناس، ولو أراد أن ينتصر من السلطة الأُموية بالجور لفعل ذلك، ولكن قيمه ومبادئه كانت سدّاً منيعاً يحول دون ذلك…

فهو في طريقه إلى العراق لم يهاجم القبائل ولا القوافل ولم يروّع الأطفال والنساء، ولم يقتل إنساناً واحداً، ولم يقطع شجرة أو يحرق زرعاً، ولم يأمر باستخدام العنف والإكراه ضدّ الناس، كما فعل جيش السلطة، إنّما كانت أوامره ووصيّته إلى سفيره مسلم بن عقيل لمّا بعثه إلى الكوفة أن أمره بـ «تقوى الله واللطف بين الناس»، وقد نفّذ مسلم بن عقيل وصيّة الإمام كما هي، ولو أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) أوصاه بغير ذلك لكان في إمكانه أن يقتل عبيد الله بن زياد غيلة عندما سنحت له الفرصة، ولو فعل ذلك لاستولى على قصر الإمارة في الكوفة، ولتغيّرت الأحداث برمّتها، ولكنّ الإيمان والقيم هي التي حالت دون ذلك على اعتبار أنّ الفتك ضدّ الدين.

وكان(عليه السلام) متسامحاً مع أعدائه ; فقد قام بتقديم الماء لأحد قادة الجيش الأُموي (الحرّ بن يزيد الرياحي)، وجنوده (١٠٠٠ مقاتل)، الذين جاؤوا لمجابهته وإغلاق الطرق المؤدّية للكوفة عليه، ومنعه من الولوج إليها، بعد أن لاحظ عليهم الإعياء من شدّة العطش ولم يقتصر بتقديم الماء لهم فقط، وإنّما أمر أيضاً أن تُسقى خيولهم من الماء، وهو بذلك قد أرسى مبدأ هاماً، هو: أن السلام والتسامح ليس حقّ للبشر فقط، وإنّما يجب أن يكونا أيضاً حقاً للحيوان، وقد أكّد ذلك الإمام الحسين(عليه السلام) عندما أصدر تعليماته وأن «اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»(7).

فإنسانية الإمام الحسين(عليه السلام) منحت أعدائه الحقّ في ألاّ يمنعوا من شرب الماء، ولم يستخدمه كسلاح ضدّ جيش السلطة، على الرغم من أنّ هذا السلاح قد استُخدم ضدّه هو وآل بيته(عليه السلام) وأتباعه بعد ذلك، ومنعوه من شرب ماء الفرات في الوقت الذى كانوا يسمحون فيه للخنازير والكلاب وسائر الملل الأُخرى بالشرب منه. لقد كان بإمكانه عدم تقديم الماء وتخزينه لاستخدامه إذا اقتضت الحاجة، ولكنّه لم يفعل رحمة منه وتسامحاً مع أعدائه.

وكان متسامحاً أيضاً مع الحرّ الرياحي بعد أن قرّر انضمامه للحقّ، والانقلاب على جيش عمر بن سعد، تاركاً لوم اللائمين من جيش السلطة، ومؤكداً لهم: (والله إنّي أُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها، ولو قُطّعت وحُرِّقت)(8).

فقد وقف الحرّ أمام الحسين(عليه السلام) معلناً توبته واعتذاره واستعداده بالتضحية بنفسه، ومتسائلاً: هل لي من توبة؟ فأجابه الإمام الحسين(عليه السلام): نعم، وبشّره بأنّه الحرّ في الدنيا والآخرة.. فتح له باب التوبة، ولم يغلقه في وجهه، وقبل اعتذاره.

فهو تعامل مع أعدائه بكلّ حبّ وإنسانية ولم يحمل لأيّ من السلطة الأُموية أو جيشها أي ضغينة أو حقد أو كره أعمى، ولم تكن قضيّته بأيّ حال من الأحوال ذات أبعاد شخصية أو تصفية لحسابات قديمة، فقضيّته هو أن يتّبع أولئك الحقّ، فإن أبوا فإنّما هو متّبع الحقّ، يقاتل من أجل العدالة والخير ونصرة الحقّ، وليس انتقاماً لذاته.

قيم الحوار والإقناع:

أكّد الإمام الحسين(عليه السلام) على قيم الحوار والإقناع في العديد من المواقف الاجتماعية التي صادفها ; فقد تحاور مع بعض رجال السلطة الأُموية وجنودها، وتحاور مع أصحابه وآل بيته(عليهم السلام)، ومع الذين عارضوا خروجه إلى العراق، ومع الذين أعطوه المواثيق والعهود ثمّ نكثوا وانقلبوا ضدّه..

فقد تحاور الإمام مع العديد من الشخصيات الذين نصحوه بعدم التسرّع في الخروج إلى العراق، مشفقين عليه من المصير المجهول الذي ينتظره هناك، فلم يتجاهلهم أو ينبذ نصائحهم وراء ظهره، وإنّما شكر لهم نصائحهم وأكّد لهم أنّ كافّة الاعتبارات والحجج التي استندوا إليها في معارضتهم لخروجه، ليست بخافية عليه، وعمل على إقناعهم على أنّ هناك من الأسباب المنطقية التي تحتّم عليه أن يتعجّل الخروج إلى العراق، بصرف النظر عن النتائج الملازمة لخروجه.

فهناك العديد من الأسباب الاجتماعية والسياسية والدينية تملي عليه الخروج اليوم قبل الغد ; فخبرته السياسية، وعلمه اللدني، وحسن درايته بأسلوب السلطة الأُموية في تعاملها مع المعارضين لها، وموقفها من آل بيت الرسول(صلى الله عليه وآله)، تجعله على يقين من أنّ السلطة سوف تقوم باغتياله عاجلاً أم آجلاً، ومؤكّداً لهم: «والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من قرم الأَمَة»(9).

وطالما أنّ القتل هو المصير المحتوم، فإنّه يفضّل إلاّ يقتل في الحرم، وعلى ذلك، فإنّه من المنطق أن يعجّل بالخروج إلى العراق ولا يتأنّى في الرحيل ; لأنه لو لم يعجّل لقتل في التو واللحظة..

وشرح لهم أنّ من أهمّ الأسباب التي جعلته يعجّل بالخروج بجانب الأسباب السابقة هو: أنّه قابل رسول الله(صلى الله عليه وآله) في منامه وأنّه أبلغه رسالة إلهية وبعض الأوامر التي يتسنّى له تنفيذها، فرؤية الرسول(صلى الله عليه وآله) حقّ، ولذا يجدر به أن ينفّذ رسالة الله التي أبلغها له جدّه في المنام: «إنّي رأيت جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) في منامي، فخبّرني بأمر، وأنا ماض له»(10).

ولمّا طلبوا منه أن يحدّثهم بأمر الرسالة الإلهية، اعتذر إليهم بلطف قائلاً لهم: «لا أُحدّث بها أحداً حتّى ألقى ربّي عزّ وجلّ»(11).

وتحاور الإمام الحسين(عليه السلام) مع نائب السلطة الأُموية في مكّة (عمرو بن سعيد) من خلال المراسلات التي تمّت بينهما، فحينما أرسل إليه نائب مكّة برسالة يقول فيها: إنّي أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق، وإنّي أُعيذك من الشقاق ; فإنْ كنت خائفاً فأقبل إليّ، فلك عندي الأمان والبرّ والصلة(12).

فأرسل له الإمام الحسين(عليه السلام) برسالة لتوضيح الحقائق، وإقناعه بسلامة موقفه الذي لا ريب فيه، فأبلغه شكره وامتنانه لرسالته، إن كان الهدف منها النصح والإرشاد والتوجيه، وتقوية أواصر القربى، وتحقيق الخير للمسلمين، وإن كانت الرسالة على سبيل التخويف والتشكيك، التخويف من عاقبة الأمر بالخروج إلى العراق، والتشكيك بأنّه سوف يفرّق الكلمة والجمع، فإنّ الأمر ليس كذلك ; لأنّ من يدعو إلى الله ويعمل صالحاً، ويريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يمكن أن يكون هدفه تقطيع أواصر الأُمّة أو الشذوذ عن الجماعة.

بل على العكس من ذلك، إنّما يريد وحدة الأُمّة، وتحقيق مصالح الجماعة. وإن كان نائب مكّة قد عرض عليه أن يمنحه أمان الخائفِ، فإنّ الإمام الحسين(عليه السلام)يردّ عليه بثقة مقنعة، بأنّه لا أمان لسلطان، وخاصّة إن كان لا يحكم بشرع الله، فهل يعقل أن يمنح السلطان الجائر الأمان لمن يعارضون حكمه غير الشرعي؟!

إنّما الأمان الحقّ هو أمان الله، الذي يبعث على الطمأنينة والثقة، وأنّه لا إيمان لمن يخشى السلطان، وإنّما الإيمان لمن يخشى الله في السرّ والعلن.

فكتب(عليه السلام) له: «إن كنت أردت بكتابك برّي وصلتي، فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، وإنّه لم يشاقق من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنّني من المسلمين، وخير الأمان أمان الله، ولم يؤمن بالله من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أماناً يوم القيامة عنده»(13).

وحاور أمير الجيش الأموي (عمر بن سعد بن أبي وقّاص) محاولاً إقناعه بترك تحالفه مع السلطة الأُموية، والانضمام إليه وعدم قتاله، وكان الحوار مع عمر بن سعد ذا أبعاد متعدّدة، فهو أوّلاً أوضح له نسبه الشريف الذي لا يجهله أحد، وعدالة قضيّته التي يدافع عنها، والتي لا يجهلها ابن سعد ذاته ثانياً..

وعندما رفض ابن سعد عرض الإمام الحسين(عليه السلام) مبرّراً موقفه من أنّه يخاف من بطش السلطة الأُموية به، حيث يمكنها أن تصادر أمواله وضياعه، وتهدم داره، لم يُنهِ الإمام الحسين(عليه السلام) الحوار معه، ولكنّه وضع حلولاً بديلة، ليختبر بها مدى صدق عمر بن سعد في أفعاله ; فقد عرض عليه أنّه سوف يقوم بإمداده بالأموال اللازمة إن كان ذلك هو السبب الحقيقي، وسيبني له داره إذا ما قدمت السلطة الأُموية على هدمها.

ولكن عندما أفهمه الإمام الحسين(عليه السلام) فأتمّ الحجة عليه أنّه (عمر بن سعد) قد غلبته شهوة السلطة، وأنّه حريض على إمارة الري وجرجان، وأنّه آثر الانحياز ضدّ الحقّ، وبدأ يطرح أسباباً واهية لتبرير انحيازه للسلطة الأُموية كخوفه من أن يقتل أطفاله، توقّف الحوار بين الإمام الحسين(عليه السلام) وبين عمر بن سعد ; إذ لم يعد للحوار أيّ معنى، ووصل لطريق مسدود في ضوء اختلاق عمر بن سعد للحجج والذرائع غير المنطقية، والتي تبرّر نكوصه عن الحقّ، وانحيازه للسلطة الأُموية من أجل إشباع شهوته في الجلوس على كرسي الحكم لولاية الريّ وجرجان التي وعدتهما به السلطة الأُموية.

وبعد أن اشتدّ حصار الجيش الأُموي على الإمام الحسين(عليه السلام)، وأيقن أنّ جيش السلطة سوف يغتاله، حاول إقناع أصحابه وبني عمومته (بني عقيل)، أن يتركوه وينصرفوا إلى بلادهم إن أرادوا ذلك، مؤكّدا لهم أنّ الفرصة الآن أصبحت سانحة لهم ; لأنّ الجيش الأُموي إنّما يريد رأسه فقط، وإن تمكّنت منه فإنّها ستكتفي بذلك، ولن تطاردهم، ولذا يمكنهم أن يتسلّوا تحت جنح الظلام والتفرّق في الأرض إذا أرادوا أن ينجوا بأنفسهم، فهو أكّد على أنّ: «من أحبّ أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له، فإنّ القوم إنّما يريدونني.. فلو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري»(14).

ولمّا أيقنت أخته السيّدة زينب بنت علي أنّ الإمام(عليه السلام) قد أصرّ على مواجهة جيش السلطة الأُموي، وهي تعلم أنّها مواجهة غير متكافئة، لطمت وجهها وشقت جيبها من هول نتيجة المواجهة، فعمد الإمام الحسين(عليه السلام) على إقناعها بضرورة الصبر في حالة استشهاده(15).

وتحاور الإمام الحسين(عليه السلام) مع الناكثين بعهودهم معه مؤكّدا لهم بأنّه لم يقصّر في حقّهم، ولم يتوانى عن تلبية رغباتهم وتوسّلاتهم بالحضور لكي ينقذهم من ظلم واستبداد السلطة الأموية إلاّ أنّهم بدلاً من أن يكونوا عوناً له، ويداً وسيفاً له على أعدائه وأعدائهم، نكثوا العهود والمواثيق التي قطعوها على أنفسهم، فخذلوه ونصروا السلطة الأُموية، وأصبحوا سيفاً عليه لا على أعدائه، وحذّرهم من نتائج هذه الأفعال التي ستجعلهم أذلّة لطواغيت الأمّة من أُمويين وغيرهم من الحكّام المستبدّين. وحاول تجريب الصدمات النفسية لعلّهم يفيقون من مغبّة فعلهم، فكشف عن حقيقتهم، وعرّى نفوسهم أمام أعينهم، عندما كشف لهم أنّ أُصولهم وفروعهم مشهورون بالخذل والنكث، ولذلك أصبحوا من أخبث الناس، وهم بذلك يستحقون اللعنات. وكان من المفترض أن يراجع هؤلاء الناكثون أنفسهم ويرغموها على الانحياز لصوت الحقّ، بصرف النظر عن النتائج، ولكنّهم لم يستجيبوا له(16).

____________

1- كذا في المصدر، ولعلها: سعادة.

2- تاريخ الطبري ٤: ٣٠٥.

3- راجع: الفتوح، لابن أعثم ٥: ٢١.

4- راجع: تاريخ الطبري ٤: ٣٠٤، الكامل في التاريخ ٤: ٤٨.

5- تاريخ الطبري ٤: ٣٠٩، الكامل في التاريخ ٤: ٥٢.

6- أنساب الأشراف ٣: ١٨٨.

7- أنساب الأشراف ٣: ١٦٩، تاريخ الطبري ٤: ٣٠٢.

8- الكامل في التاريخ ٤: ٦٤، البداية والنهاية ٨: ١٩٥.

9- تاريخ مدينة دمشق ١٤: ٢١٦، تاريخ الطبري ٤: ٢٩٦.

10- الفتوح ٥: ٦٧.

11- البداية والنهاية ٨: ١٨١.

12- تاريخ مدينة دمشق ١٤: ٢٠٩، بغية الطلب، لابن العديم ٦: ٢٦١.

13- راجع: البداية والنهاية ٨: ١٧٦.

14- البداية والنهاية ٨: ١٩١.

15- تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٤٤، تاريخ الطبري ٤: ٣١٩، المنتظم، لابن الجوزي ٥: ٣٣٨.

16- مقتطفات من كتاب القيم الاجتماعية كما تعكسها ثورة كربلاء: ٩٥ ـ ١١٢. (بتصرّف يسير).