محمد كوزل الحسن الآمدي

حياة المستبصر محمد كوزل الحسن الآمدي_تركيا:

المولد والنشأة

ولد عام 1968م في تركيا، بمدينة “ميارفارقين” التابعة لديار بكر، وترعرع في أسرة تعتنق المذهب الشافعي، حصل على الشهادة الثانوية، ثم توجه إلى الدراسة الدينية فتتلمذ على يد بعض الشيوخ الشوافع وكان من جملة الكتب التي درسها كتاب (جمع الجوامع) في الأصول وكتاب النووي في الفقه.
ثم توجه بعد ذلك نحو العمل في حقل الدعوة الاسلامية، مستهدفاً ايقاظ المسلمين من سباتهم وتنيمة الصحوة عندهم عن طريق تنوير عقولهم بالفكر الإسلامي.
كما كان الشيخ محمد كوزل في نفس الوقت منهمكاً في مطالعة الكتب الإسلامية ومقتبساً من آراء المفكرين الإسلاميين ومن علماء العصر ما يرفع مستواه العلمي والمعرفي.

البحث عن أسباب فشل المسلمين:

يقول الشيخ محمد كوزل: “انقدح في ذهني خلال فتره نشاطي في العمل التوجيهي استفساراً آثار اهتمامي حول أسباب فشل المسلمين وتدهورهم في شتى الأصعدة وخضوعهم لسلطة الاستعمار المهيمن على بلادهم.
فأخذ هذا الاستفسار بيدي إلى التأمل في تاريخ المسلمين بحثاً عن هذه الأسباب حتى بلغ بي البحث إلى صدر الاسلام، لعلي أفلح بمعرفة العوامل التي أدت إلى انحدار مسيرة المسلمين والتي لم يسع المسلمين بعد ذلك اعادة مجدهم وعزتهم التي كانوا عليها زمن الرسول(صلى الله عليه وآله)”.
ويقول الشيخ محمد كوزل: “تبيّن لي بعد البحث والتتبع في صفحات التاريخ الإسلامي منذ البداية أنّ منشأ هذا الفشل يعود إلى الأحداث التي وقعت بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) والتي من بعدها تعرضت الأمة للاختلافات الجذرية فيما بينها، فتفرقت وبدأت تتآكل من الداخل بسبب انشقاقاتها الداخلية”.

البحث عن أسباب نشوء الاختلاف الديني:

سلّط الشيخ محمد كوزل أضواء بحثه على الأحداث التي تلت وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فرأى أن الطوائف الإسلامية تختلف فيما بينها أشد الاختلاف في هذا المجال فتوجه إلى البحث حول معرفة نشأة هذا الاختلاف، فتبين له بعد التنقيب أن معظم الطوائف الإسلامية لا تلتزم بالمنهج الصحيح الذي لابد أن تسير عليه في بحثها عن الحق وأن العصبية المذهبية قد أدت إلى تغطية وجه الحق، مما كان ذلك سبباً لخفاء الحق عن طالبيه.
كما وجد الشيخ محمد كوزل بعد امعانه النظر في العقائد الإسلامية أن بعض المسائل العقائدية تحولت بمرور الزمان إلى مسلمات لا يمكن اقتحامها أو إثارة أي استفسار حولها.

بداية التحرر من التقليد الأعمى:

يقول الشيخ محمد كوزل: “بدأت أسأل نفسي: ما هو الداعي للتعصب في الانتماء إلى العقيدة الأشعرية التي أنا عليها؟ ومن كان الاشعري؟! ألم يكن بشراً مثلي أجتهد في العقائد حتى توصل إلى رأى ما؟ بل الاشعري بنفسه كان في بداية أمره معتزلياً ثم تحوّل بعدها إلى مذهب أهل الحديث وألف كتابه “الابانة عن أصول الديانة” وسرد فيه عقيدته على نهج أهل الحديث ومدح أحمد بن حنبل وأيّد عقائده وآرائه، ولم تمض فتره حتى غير عقيدته وعمد إلى تأليف كتابه “اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع” فتبلورت عنده عقيدة مركبة من أفكار المعتزلة وآراء الحنابلة.
فيقول الشيخ محمد كوزل: “بدأت أسأل نفسي، ما الداعي للجمود على تقليد المذهب الأشعري، وعدم مواصلة البحث وتوسيع دائرة الوعي في مجال العقيدة، لأن المذهب الأشعري ليس إلاّ اجتهاد بشري توصل إليه الأشعري في فترة من حياته بعد أن أمضى فترة طويلة في الاعتزال، وما يدرينا لو كان الأشعري بقى مدة أطول لكان استبدل عقيدته بعقيدة أخرى”.
ومن هذا المنطلق بدء الأخ محمد يبحث في مجال العقيدة من دون تهيب مخالفة أحد، بل توجه نحو البحث من منطلق “إن دين الله لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”.

غربلة المسائل واقتحام المسلمات:

قام الشيخ محمد في البدء عند بحثه بغربلة المسائل التي كان يحسبها من الحقائق القطعية وبعض القضايا التي كان يعتبرها ـ تبعاً للنهج السائد ـ من المسلمات التاريخية، فكانت النتيجة بعد الفحص والتحقيق أنه وجد الحق خلاف ذلك.
بل أنه وجد أن منهج العامة في دراستها لتاريخ السلف هو محاولة تبرير الأخطاء الواقعة واضفاء المشروعية عليها، اندفاعاً من خشية اذعانها ببعض الأمور المخلة بقداسة سلفها، وهذا ما أدى بها إلى الانحراف عن الصراط المستقيم.

تخطى الحجب والاهتداء بهدي العترة(عليهم السلام)

أدرك الشيخ محمد كوزل خلال رحلة بحثه عن الحق أن التعصب يحجب بصيرة الانسان عن رؤية نور الحق، فجاهد نفسه ليتخلى عن هذا الحجاب وليتمكن من الحصول على الرؤية الواضحة.
فكانت النتيجة أن توصل إلى نتائج قلبت عنده الموازين وأدرك بعدها أن مذهب أهل السنة والجماعة مبتنياً على أسس وأركان غير متينة، وأيقن بأنّ الإسلام الحقيقي هو الاهتداء بهدي الأئمة الأطهار من آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، وأن الصراط المستقيم هو السير في سبيلهم وأنهم ملاذ العصمة لهذه الأمة من الفرقة والضلالة وسفينة النجاة من الهلاك والغواية.
ووقف الشيخ محمد خلال بحثه على نصوص كثيرة واردة في الكتاب ومتواترة في السنة معلنة بخلافة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ذريته(عليهم السلام)، آمرة بالاقتداء بهم والسير على نهجهم وناهية عن مخالفتهم ومعاداتهم.
ووجد رغم سعي سلطات الجور وبذلها قصارى الجهد لاخفاء وكتمان هذه النصوص، أنّ الباري عزّوجلّ أنعم على هذه الأمة أن حفظ لها كثير من تلك النصوص لتكون سبباً في هداية الذين يجاهدون في سبيل الله من أجل الوصول إلى الحقيقة.

مؤلفاته:

(1) “المسح في وضوء الرسول(صلى الله عليه وآله)”:
صدر عن دار المصطفى لاحياء التراث ـ قم ـ الطبعة الأولى ـ عام 1420.
دراسة مقارنة بين المذاهب الإسلامية حول اختلاف الفقهاء في مسألة المسح في الوضوء، أورد فيه المؤلف العديد من الأقوال المنسوبة إلى أئمة المذاهب وآراء أكابر العلماء والتابعين وغيرهم من مصادر أهل السنة والجماعة، واتبع فى طريقة بحثه ذكر أدلة كل قول والمبادرة إلى مناقشة بعض هذه الأدلة.
وقد قسّم المؤلف دراسته إلى مبحثين أساسيين، وأورد في ذيل كل منهما، مجموعة من المسائل كما يلي:
المبحث الأول: في طهارة الرأس
ـ معنى المسح في اللغة والاصطلاح ـ المسألة الاولى: في القدر المجزيء منه.
ـ المسألة الثانية: في مشروعية تكرار المسح أو عدمها.
ـ المسألة الثالثة: في المسح بالبلل الباقي على الأعضاء.
ـ المسألة الرابعة: في إجزاء الغسل أو الرش عن المسح.
ـ المسألة الخامسة: في مشروعية طهارة الاذنين.
ـ المسألة السادسة: في المسح على العمامة.
المبحث الثاني: في طهارة الرجلين
ـ المسألة الاولى: في كيفية طهارتهما.
ـ المسألة الثانية: في المسح على الخفَّين.

(2) “الهجرة إلى الثقلين”:
صدر عن مركز الأبحاث العقادية ـ قم ـ ضمن سلسلة الرحلة إلى الثقلين. الطبعة الأولى، عام 1421هـ.
يتضمن هذا الكتاب مباحث عديدة حول المسائل العقائدية التي كان يحسبها المؤلف من الحقائق والقضايا التاريخية التي كان يعدها من المسلمات، والتي اكتشف بعد الفحص والتحقيق أن الحق خلاف ذلك.
وقد حاول المؤلف أن يقتصر على الجانب العلمي في تبيينه للمراحل التي اجتازها في رحلة بحثه من الشك إلى اليقين ومن الحيرة إلى الثبات والاستقرار.
فقسّم رحلته العقائدية إلى مرحلتين تحتوي كل منهما على أبحاث أهمها كما يلي:
المرحلة الأولى: مرحلة الشك والحيرة
أسباب ودواعي ابتعاد المسلمين عن الإسلام.
التعريف بأهل السنة.
ما جرى بعيد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله).
اسباب منع تدوين الحديث.
بعض مواقف اصحاب النبي(صلى الله عليه وآله).
سمات أبوبكر وعمر وعثمان.
اجتهادات عمر في مقابل النص.
وضع الأخبار والأحاديث.
المرحلة الثانية: مرحلة اليقين بعد الشك
فضائل الإمام عليّ(عليه السلام).
اثبات ولاية أمر الإمام عليّ والأئمة من ولده بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله).
ما خلّفه النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأمته من بعده.
الفرقة الناجية.
التعريف بالأئمة الاثني عشر(عليهم السلام).

وقفة مع كتابه: “الهجرة إلى الثقلين”

الهجرة تكون على أنواع وتختلف بحسب أهدافها وما يراد منها، وكل نوع منها يكتسب أهميته من أهمية الهدف المراد منه، وعندما تكون الهجرة إلى الله وفي سبيله تكتسب أهمية عظيمة وقيمة كبيرة لقداسة الهدف وعظمته.
والهجرة إلى الله تفتح أمام الانسان آفاق الرحمة الالهية التي يرجوها، وتعطيه الأمل في الخلاص من وزر السيئات التي تصدأ الروح الانسانية وتكدر صفوها، وتنقله إلى عالم أرحب يكثر فيه الخير والايمان والرزق الحسن، وتدفع عن ايمان الانسان الشك والوساوس والحجب التي يضعها الظالمين في طريقه، وتجعله يتمسك بعقائده براحة ويقين فلا يشوش عليه جنود الجهل ودعاته.
وهذا ما فعله الشيخ محمد كوزل الذي ترك عقائده السابقة التي ورثها عن آبائه عندما رآى فيها كثرة المتناقضات التي اوقعته في الشك فيها، فبحث عن الحق واليقين فيها فاهتدى بعد جهد الى حقيقة الثقلين العظيمين اللذين خلفهما رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أمته، فتمسك بهما عن يقين بعد أن قادته الأدلة القاطعة إليهما.

أسئلة حائرة وشكوك مؤلمة:
1 ـ سبب بعد المسلمين عن الاسلام:
يقول الشيخ محمد گوزل: “كنت افكر في سبب سقوط المسلمين تحت نير العبودية وخضوعهم للقوى الامبريالية واستعمار بلادهم من قبيل الصهيونية، وأفكر في علة بعدهم عن الاسلام، بل ونفرتهم من الانتساب إليه، وتسلسل بي التفكير في الاسباب إلى صدر الإسلام”.
ثم يقول: “عندما كنت أقرأ قوله تعالى: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (النساء: 165) أتفكر في نفسي: كيف كان رب العزة في تفكير الأوائل ويرسل لهم الرسل كى يتضح دينه لهم ولا يبقي حجة لهم، ولم يكن في تفكير الأواخر! فيكتفي بارسال خاتم النبيين، ثم يتركهم هملاً بمئات من السنين ويكلهم الى أنفسهم، حتى لا يبين لهم قائدهم بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)ولم يكن هناك فرق إلاّ أن الكتاب المنزل على هذا النبيّ يبقى محفوظاً الى يوم القيامة، بخلاف كتب الأوائل.
وبعد أن وجدت هذا الفرق، قلت في نفسي: إذا لم يكن الإسلام الحقيقي واضحاً وكانت كل فرقة من فرق المسلمين ترى نفسها على الحق وترى غيرها على الباطل فكيف يمكن ان يكتفي رب العزة بذلك الفرق لحل المشكلة؟ فهل يمكن أن يرسل الله من يبين الحق؟ أو هل يمكن أن يكون الله قد بيّن طريقاً لحل المشكلة ولم يصل إلينا؟”.

2 ـ لا ينجو من هذه الأمة إلاّ طائفة واحدة:
يقول الشيخ محمد گوزل: ” كنت عندما أفكر في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة… وهو قوله(صلى الله عليه وآله): “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه، الناجية منهم واحدة، والباقون هلكي” أو “كلهم في النار إلاّ واحدة”(1).
كنت أقول في نفسي: إنّ الفرقة الناجية في الحديث واحدة، وإنّ الذين كنّا نعدهم من أهل النجاة وهم أهل السنة والجماعة كانوا أربعة مذاهب بل أكثر، ولم يكونوا فرقة واحدة، ولا نستطيع أن نقول إن الاختلاف في الفروع غير مخل بالوحدة، بعد أن تسرب هذا الاختلاف الى العقائد أيضاً:
فترى الشافعية معتنقين لعقيدة الأشعري الأخيرة، والحنفية متمسكين بعقائد الماتريدي والحنابلة مستندين الى عقائدهم وآرائهم الخاصة… وهكذا.
فإن تكلّفنا وحسبناهم بجميع فرقهم فرقة واحدة عظيمة فسيحصل خلاف المطلوب; لأنّها حينئذ ستكون الفرقة المذمومة بلسان النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) في ذيل الحديث المذكور كما أخرجه الحاكم: “ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرمون الحلال ويحللون الحرام”. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”(2).

3 ـ من هم أهل السنة:
يقول الشيخ محمد گوزل: “عندما كنت أقرأ الحديث المشهور بين أهل السنة والجماعة: “تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي”(3).
كنت أفكر في نفسي وأقول: ما هو الدليل على أننا من أهل السنة؟ مع أن رؤساءنا أمثال الخليفة الأول والثاني والثالث هم الذين أمروا بترك السنة ومحوها ومنعوا عن روايتها وانتشارها تحت ذريعة قول النبيّ(صلى الله عليه وآله): “من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”، بل جمعوا أحاديث النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأحرقوها وسجنوا الصحابة الذين رووها…
قال أبو رية: أورد الذهبي في تذكرة الحفاظ عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه: أن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الانصاري، فقال قد أكثرتم الحديث عن الرسول(صلى الله عليه وآله).
وقال في الهامش: قال أبو بكر بن العربي: فقد روي أن عمر بن الخطاب سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة(4).
أقول: كان على الخليفة أن يكافئهم ويجازيهم بالخير بدل السجن، لأنّ عليّاً(عليه السلام)قال: خرج علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: “اللهم ارحم خلفائي” ـ ثلاث مرات ـ قيل يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلّمونها الناس”(5)
وعن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر بن الخطاب الى صرار، فتوضأ ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) مشيت معنا، قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدوي النحل، فلا تبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وامضوا وانا شريككم، فلما قدم قرظة، قالوا: حدِّثنا، قال: نهانا ابن الخطاب(6)
ولا يخفى أن جمود هؤلاء العراقيين على كتاب الله وتجريده من السنة كان سبباً لنشأة ذهنية الخوارج في العراق.
فهكذا كان حال السنة في عصر الصحابة.
ولما وَصَلَتِ النوبة إلى عصر التدوين رأينا أئمة الحديث أمثال البخاري ومسلم والترمذي يطرحون أو يقطعون أكثر ما انفلت من أيدي هؤلاء من الأحاديث بسبب مخالفتها لشروطهم; لأنهم اشترطوا لصحة الحديث ـ إضافة إلى الاتصال والوثاقة في الإسناد ـ أن لا يكون مضمون الحديث مخالفاً لمذهب أهل السنة والجماعة، وأن لا تكون فيه علة خفية، وكانت طريقة معرفة تلك العلة تشخيص هؤلاء المحدثين; فإذا كان الحديث مخالفاً لمذهبهم يحكمون بشذوذه وضعفه ولو كان جميع رجال السند من الثقات.
وقد اعترف البخاري فيما حكي عنه قائلاً: لم أخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً، وما تركت من الصحيح كان أكثر(7).
فبدل أن يجعلوا السنة معيارا لصحة الرأي والمذهب تراهم يجعلون المذهب ميزاناً لصحة الحديث، حتى وصل الأمر إلى توصيف من لم يذكر في تأليفه ما يخالف المذهب بالأضبطية والأدقية، واتهام من أورد شيئاً مخالفاً لمذهبهم في كتبه بكونه من أهل الخلاف وتوصيفه بالسذاجة والجهالة.
كنت أتساءل في نفسي: إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن لمن يريد الوقوف على الحقيقة أن يصل إلى هدفه؟ وكيف يمكنه أن يميز الحق من الباطل إذا كان ميزان التمييز وطريقة التحقيق هو نفس المذهب؟!”.

4 ـ ما جرى بعيد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله):
يقول الشيخ محمد گوزل: “ومن أهم ما وقع في قلبي من الشبهات والأسئلة: لماذا ترك الخلفاء والصحابة جنازة الرسول(صلى الله عليه وآله) بدون تشييع وتغسيل وتكفين وذهبوا إلى السقيفة فتنازعوا لأجل الإمارة والرئاسة؟ ولم يبق على جنازة الرسول(صلى الله عليه وآله)إلاّ عدّة نفر، على رأسهم أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)!!
أخرج ابن أبي شيبة عن عروة: أن أبابكر وعمر لم يشهدا دفن النبي(صلى الله عليه وآله)، كانا فى الأنصار فدفن قبل أن يرجعا(8).
ولماذا لم يبايع أمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ بعد ستة أشهر وهو مكره عليها؟ ولماذا كشفوا عن بيت فاطمة الزهراء(عليها السلام) حتى كان سبباً لندم الخليفة الأول وتأسفه عليه وهو في مرض موته يقول: وددت أني لم أكشف عن بيت فاطمة، وتركته ولو أُغلِق على حرب…(9).
ولماذا أخذوا نحلتها (فدك) التي نحلها رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حياته بأمر من الله؟
كما روي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية: (وَ َاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه) (الإسراء: 26) دعا النبي(صلى الله عليه وآله) فاطمة وأعطاها فدك.
أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس كما قال السيوطي(10).
ولماذا هَجَرتْهما حتى لم تأذن لهما أن يحضرا على جنازتها وأمرت أن تُدفن ليلاً ـ كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما(11) ـ وهي بنت نبيهم التي قال لها الرسول(صلى الله عليه وآله): “إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك”، وهذا الحديث مروي عن عليّ وفاطمة(عليهما السلام) ومسور بن مخرمة وأم سلمة.
قال المعلّق على المعجم الكبير: وفي هامش الأصل: هذا حديث صحيح الإسناد، وروي من طرق عن علي، رواه الحارث عن علي، وروي مرسلاً، وهذا الحديث أحسن شيء رأيته وأصح إسناد قرأته(12).
وروى البخاري عن المسور بن مخرمة أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: “فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني”(13).
ولماذا أمرت باخفاء قبرها الشريف؟ ولا يعلم بمحل دفنها إلى الآن أحد، وهي سيدة نساء العالمين!!”.

5 ـ المبشّرون بالجنة:
يقول الشيخ محمد گوزل: “ومما أثار الشبهة في ذهني: أنّه قد وردت روايات صحيحة مستفيضة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في بشارة بعض الصحابة بالجنة: كحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وأبي ذر الغفاري، ومقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
بل يوجد من بين هؤلاء من بلغوا إلى درجة من الأهمية حتى كان سبباً لأن يوجب الله على نبيه أن يحبهم، كما روي عن بريدة بعدة طرق بعضها صحيحة وبعضها حسنة: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: “إنّ الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنّه يحبهم”، قيل يا رسول الله سمهم لنا: قال: “عليّ منهم” ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ “وأبو ذر والمقداد وسلمان، وأمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم”، أخرجه أحمد وابنه عبد الله والقطيعي والترمذي وابن ماجه وأبو نعيم وابن عساكر وغيرهم، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه(14).
وجاء في حديث صحيح مروي عن أنس: أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: “إنّ الجنة لتشتاق إلى عليّ وعمار وسلمان”. وقد روي في ذلك عن علي(عليه السلام) وحذيفة بن اليمان أيضاً(15).
ورغم كل ذلك لم يُروّجوها بين الناس، وعندما وجدوا رواية واحدة فيها بشارة بالجنة لعشرة أشخاص ـ وجلّهم من الذين كان مدحهم ينفع السلطة الحاكمة وسياستهاـ أذاعوها بين الناس وحفَّظوها صبيانهم ونساءهم، وحرروها في كتبهم العقائدية بأن المبشرين بالجنة كانوا عشرة نفر، فلم كل هذا؟! مع أنّ الحديث ليس بصحيح، بل الظاهر أنه وضع في مقابل حديث (الطير) وحديث (أول داخل) الواردين في حق أمير المؤمنين(عليه السلام)”.

6 ـ مرحلة اليقين بعد الشك:
يقول الشيخ محمد گوزل: “مع أنّه لو لم يكن هناك دليل على بطلان مذاهب الجمهور إلاّ العقل السليم والمنطلق الصحيح لكان كافياً لاثبات ذلك، لأنه كيف يستطيع العاقل أن يلتزم بأن الله عزّوجلّ اكتفى ببعث خاتم النبيين وترك الناس هملا مئات السنين من دون أن ينصب من يبيّنُ لهم دينهم ويخرجهم من الحيرة والفرقة؟! وقد بعث مائة وأربعة وعشرين ألف نبي (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ) (النساء: 165) ولئلاّ يبقوا في الحيرة، مع أنّ حال هذه الأمة لا يختلف عن حال الأمم السابقة، بل تسلك سلوكها حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لتبعتها، وأنها ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كافتراقها، ولا ينجو منها إلاّ فرقة واحدة، وأن أكثر أصحابه سيرتدون بعده على أعقابهم القهقرى، ولا ينجو منهم إلاّ مثل هَمَلِ النعم، كما تقدّم ذكر الأخبار المستفيضة في جميع ذلك.
وكيف يستطيع اللبيب أن يقنع نفسه بأن النبي(صلى الله عليه وآله) لم يعيّن وصيّاً لأمتّه من بعده وتركهم بدون راع، وقد رأى إلحاحَ ذلك النبي وإصراره على أمته كي لا يتركوا وصاياهم الشخصية، مع أنه كان راعياً لأكبر الأمم ولا يجىء بعده نبي آخر، وقد رأى بعينه تمرُّدَ صحابته عليه ومخالفتَهم لأمره في كثير من المقامات وشاهد اعتراضاتهم على أمرائه في كثير من الأوقات.
وعرفتَ أنّ الفرقة الناجية هم شيعتهم والمتمسكون بهداهم وأنّهم خير البرّية والفائزون يوم القيامة.
وفي هذه المرحلة وقفتُ على نصوص كثيرة واردة في الكتاب والسنّة معلنة بخلافة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ذريته(عليهم السلام) آمرة بالاقتداء بهم والسير على نهجهم، وناهية عن مخالفتهم ومعاداتهم، وتواترت بذلك الأخبار من كتب السنة والشيعة.
وإن كانت سلطات الجور سعت وصرفت قصارى جهدها لاخفاء تلك النصوص وكتمانها، وعذّبت وسجنت من أفشاها ونشرها، وبذلت أموالاً كثيرة وجوائز نفيسة لمن وضع مخالفها ومناقضها على لسان النبي(صلى الله عليه وآله).
ورغم كل ذلك فقد أنعم الله على هذه الأمة أن حفظ لهم مقداراً كثيراً من تلك النصوص كي يكون كافياً (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37)، ويكون حجة على من ألقى العذر وهو عنيد”.

(1) مجمع الزوائد: 7 / 258 ـ 260 عن الطبراني في الكبير والأوسط والبزار وأبي يعلى، سنن ابن ماجة، كتاب الفتن باب افتراق الأمم: 2 / 1321 ـ 1322، سنن أبي داود باب شرح السنة: 4 / 197 ـ 198، ح: 4596 ـ 4597. ومن كتب الشيعة راجع بحار الأنوار: 28 / 3 ـ 6، ح: 1 ـ 8.
(2) المستدرك: 4 / 430، كتاب الملاحم والفتن.
(3) المستدرك: 1 / 93.
(4) اضواء على السنة المحمدية: 54، العواصم من القواصم: 75 و 76.
(5) كنز العمال: 10 / 294 ـ 295 ح: 29488، المعجم الأوسط: 6 / 395، ح: 5842، شرف أصحاب الحديث: 30 ـ 31، ح: 58.
(6) المستدرك مع تلخيص الذهبي: 1 / 102، تذكرة الحفاظ: 1 / 7، سنن ابن ماجة: 1 / 3 ح28، سنن الدارمي: 1 / 85.
(7) صحيح البخاري (المقدمة): 8 ـ 9.
(8) المصنف لابن أبى شيبة: 7 / 433 ح: 37035، كنز العمال: 5 / 652 ح: 14139، وراجع ما جرى في السقيفة; تاريخ الطبري: 2 / 234 ـ 238 و 241 ـ 246، العقد الفريد: 5 / 11 ـ 13، شرح نهج البلاغة: 6 / 5 ـ 45.
(9) شرح نهج البلاغة: 6 / 51، تاريخ الطبري: 2 / 353 أحدايث سنة: 13، مروج الذهب: 2 / 301 ذكر خلافة أبي بكر، العقد الفريد: 5 / 21، لسان الميزان: 4 / 198، مسند فاطمة للسيوطي: 17 ـ 18 ح: 28 عن جماعة من المحدثين.
(10) الدر المنثور: 5 / 273 ـ 274 من تفسير آية: 26 من سورة الاسراء، المسند لأبي يعلى: 2 / 334، 534 ح: 1075 و 1409، مجمع الزوائد: 7 / 49.
(11) صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر: 3 / 142 ح: 4240 و 4241، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النبي(صلى الله عليه وآله): لا نورث الخ: 12 / 320 ـ 325 ح: 1759، العقد الفريد: 5 / 14، تاريخ أبي الفداء: 1 / 219، تاريخ الطبري: 2 / 236، شرح نهج البلاغة: 6 / 46.
(12) المعجم الكبير: 1 / 108 ح: 182 و 22 / 401 ح: 1001، مجمع الزوائد: 9 / 203، ميزان الاعتدال: 2 / 492 م: 4560 و 1 / 535 م: 2002، المناقب لابن المغازلي: 351 ـ 353 ح: 401، 402، أسد الغابة: 5 / 522، الاصابة: 4 / 378، حلية الأولياء: 2 / 40، تهذيب التهذيب: 12 / 392 م: 9005، المستدرك: 3 / 154، 159، وصححه، مختصر تاريخ دمشق: 2 / 269، فرائد السمطين: 2 / 46، 67، ح: 378، 391. كنز العمال: 12 / 111 ح 34237 و 34238 عن الديلمي وأبي يعلي والطبراني، علل الحديث للدراقطني: 3 / 103 س: 305،وعن الكامل لابن عدي: 1 / 2 / 137 ومعرفة الصحابة: 2 / 319 / 2، الذرية الطاهرة للدولابي: 167 ح: 226.
(13) صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة باب مناقب فاطمة(عليها السلام): 3 / 35 ح 3767، كنز العمال: 12 / 108، 112 ح: 34222 و 34244.
(14) سنن الترمذي: 5 / 400 ح: 3739، المستدرك: 3 / 130، مسند أحمد: 5 / 351 و 356، وابن ماجه في المقدمة: 1 / 53 ح 149، مناقب علي(عليه السلام) لابن المغازلي: 290 ـ 292 ح: 331 ـ 333 بثلاث طرق، وحلية الأولياء: 1 / 172 و 190، وكفاية الطالب: 82، 83، مختصر تاريخ دمشق: 10 / 40 و 17 / 366 و 28 / 290، المناقب للخوارزمي: 74، 69 ح: 42، 54، الصواعق المحرقة: 122.
وعن البخاري في التاريخ، جامع المسانيد والسنن: 19 / 25، فرائد السمطين: 1 / 294 ح: 232 ب: 55، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل: 2 / 648 و 689، 691 ح: 1103 و 1176 و 1181، ينابيع المودة: 183.
(15) مناقب علي بن أبي طالب لابن أخي تبوك: 436 ح: 21، سنن الترمذي: 5 / 438 ح: 3822، المستدرك مع تلخيصه وصححاه: 3 / 137، الصواعق المحرقة: 125، جامع المسانيد والسنن: 19 / 34 و 21 / 307 ح: 685، فرائد السمطين: 1 / 293 ح: 231 ب: 55، أنساب الأشراف: 2 / 364، ينابيع المودة: 126، مختصر تاريخ دمشق: 10 / 40 ـ 41.