إسماعيل خليل إبراهيم

إسماعيل خليل إبراهيم (شافعي / العراق)

ولد عام ١٣٨٣هـ (١٩٦٤م) في العاصمة بغداد، فرضت عليه الأجواء التي عاشها الانتماء إلى المذهب الشافعي تبعاً لآبائه وأسلافه.

تراث حاول البعض تقديس تعاليمه مهما كلّف الأمر، وحقائق تصرخ في وجه هذه القداسة الموهومة، يحاول الباحث عن الحقيقة التوجّه نحوها وترك تراث هشّ لا يعول على دليل وبرهان، ولكن تنهال عليه ردود الأفعال من كلّ حدب وصوب، تحاول إرجاعه إلى حالة التقوقع والانفصال عن الدليل والبرهان، والركون إلى هذه القداسة المزيّفة، وبين هذا وذاك يكون على الباحث الوصول إلى الحقيقة بشقّ الأنفس.

لم يكن «إسماعيل» من الذين يركنون إلى راحة التقليد وعدم تحمّل عناء البحث والتحقيق، بل غاص في أعماق التاريخ بحثاً عن الحقائق المدفونة فيه، وكانت النتائج تشير إلى افتقار التراث إلى الدليل والبرهان، وتناقض معطياته مع التعاليم الإسلاميّة التي طال ما حاول البعض دفنها في غياهب الكتمان لتحقيق مآربهم ومكائدهم وطموحاتهم الدنيويّة المزيّفة.

يقول «إسماعيل»: كنت منذ صغري مشغوفاً بمطالعة الكتب التاريخيّة وغيرها من الكتب، وذلك لارتقاء مستواي العلمي والثقافي، وكنت أعقد جلسات الحوار مع أصدقائي حول المسائل الدينيّة.

وذات يوم وقع نقاش بيني وبين شخص حول مسألة الوضوء، حيث لاحظته يتوضّأ بطريقة تختلف عن الطريقة التي ألفتها، فاستفسرته عن سبب اختلافه مع الوضوء السائد عندنا فقال: إنّي أتوضّأ وفق الطريقة الصحيحة.

فقلت له: وكيف ذلك وأنّك تمسح بعض رأسك وتمسح رجليك؟

والحال أنّه يجب أن تمسح كلّ رأسك وتغسل رجليك؟

فقال: ومن أين تقول بصحّة هذا الوضوء وتحكم ببطلان وضوئي، ألم يقل الله في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ(1).

فقلت له: ألم تعطف ﴿وَأَرْجُلَكُمْ على ﴿وَأَيْدِيَكُمْ بالنصب فيكون معناه وجوب الغسل؟

فقال: لا يجوز عطف ﴿وَأَرْجُلَكُمْ على ﴿وَأَيْدِيَكُمْ، وذلك لعدم جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون العطف على الرؤوس إمّا وفق قراءة الجر فقد عطف على اللفظ، وإمّا وفق قراءة النصب فقد عطف على محل ﴿بِرُؤُوسِكُمْ.

قلت له متفاعلاً: كيف تقول هذا ولم يقل به أحد من العلماء؟ هل تدّعي أنّك تعرف أكثر من العلماء؟

فقال لي: يا أخي نحن أبناء الدليل ولسنا من أبناء التقليد الأعمى اللذين ذمّهم القرآن الكريم بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ(2).

فرددت عليه بقوّة: لا حاجة لي في ذلك، فهذه طريقة آبائي وأسلافي في الوضوء، ولا يمكن أن تكون غير صحيحة.

فقال لي: هنا تكمن المشكلة حيث اتّبعت آبائك وأسلافك، ولو تأمّلت في التاريخ الإسلامي لعرفت الدور الكبير الذي لعبته السياسة في تحريف عقائد الناس من أجل مآربهم ومصالحهم الشخصيّة. فأنا أدعوك أن نكون من أهل البحث والتحقيق.

هنا ثارت حميّة التعصّب المذهبي، فقلت له بغضب: كيف تجرأ أن تحكم على بطلان ما ذهب إليه السلف الصالح بترهات تذكرها، هل من المعقول أن يخالف السلف الصالح التعاليم الإسلاميّة؟

فقال بكلّ هدوء: يا أخي، بيّن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لنا أنّ الأُمّة الإسلاميّة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، فلست أنت وفرقتك إلاّ واحدة من هذه الفرق، ولكلّ فرقة آباء وأسلاف.

فقلت: نحن الأكثريّة فنحن على الحقّ.

فقال: وهل تعتبر الأكثريّة هي المعيار في تعيين الصواب وقد ذمّها الله في القرآن ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(3).

وانتهى النقاش وأنا أعيش حالة الانفعال والغضب.

وبعد ما خلوت بنفسي راودتني صور عن الحوار مع ذلك الشخص، وكنت أحاول نسيان ذلك لكن لم أستطع، فقمت بالبحث والتحقيق حول الموضوع لعلّني أجد ما أفحم الشيعي فيما بعد، لكن كانت نتائج البحث تشير إلى أمر آخر.

أقوال العلماء في آية الوضوء:

اعترف العديد من علماء أهل السنّة بدلالة الآية على وجوب المسح في الوضوء، منهم ابن حزم في الاحكام:

«إنّ القراءة بخفض أرجلكم وفتحها، كلاهما لا يجوز إلاّ أن يكون معطوفاً على الرؤوس في المسح ولابدّ لأنّه لا يجوز البتّة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان، لا تقول: ضربت محمّداً وزيداً، ومررت بخالد وعمراً، وأنت تريد أنّك ضربت عمراً أصلاً»(4).

وقال ابن حزم في المحلى: «وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع، لا يجوز غير ذلك ; لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضيّة مبتدأة.

وهكذا جاء عن ابن عبّاس قال: نزل القرآن بالمسح (يعني في الرجلين في الوضوء).

وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف، منهم علي بن أبي طالب(عليه السلام) وابن عبّاس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة آخرون، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار منها:

عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمّه – هو رفاعة بن رافع – أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (أنّها لا يجوز صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّ وجلّ ثمّ يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين).

وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي: (كنت أرى باطن القدمين أحقّ بالمسح حتّى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح ظاهرهما).

ثمّ حاول ابن حزم التخلّص من القول بالمسح فادّعى وجود الناسخ لهذا الحكم فقال: «وإنّما قلنا بالغسل فيهما لما حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر – عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (تخلّف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار، مرّتين أو ثلاثا)(5).

ولكن يبدو أنّ ابن حزم غفل أو تغافل فيما بعد حيث يظهر منه عدم الركون إلى صحّة القول بالمسح فيقول: «وأبطلتم مسح الرجلين وهو نصّ القرآن بخبر يدّعي مخالفنا ومخالفكم أنّنا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه، وأنّه لا يدلّ على المنع من مسحها وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم…»(6).

فقد أبطل استدلاله بادّعائه وجود الناسخ للآية المباركة، وذلك لكون سورة المائدة أخر سورة نزلت من القرآن ولم ينسخ منها شيء، فقد ورد عن عائشة أنّها قالت: «إنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالاً فحلّلوه، وما وجدتم فيها حراماً فحرّموه»(7).

وما أدري لعلّ ابن حزم يقول بكون الآية في غير سورة المائدة؟ ولعلّه غفل فيما بعد عن القول بالنسخ فنسب القول بالمسح إلى التابعين؟

وقال الآمدي في الأحكام: «ومن أبعد التأويلات ما يقوله القائلون بوجوب غسل الرجلين في الوضوء في قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ من أنّ المراد به الغسل، وهو في غاية البعد لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من التشريك بين الرؤوس والأرجل في المسح من غير ضرورة»(8).

وقال الرازي في تفسيره: «وأمّا القراءة بالنصب فقالوا أيضاً: إنّها توجب المسح ; وذلك لأنّ قوله ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ فرؤوسكم في النصب ولكنّها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، والجرّ عطفاً على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة. إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله: ﴿وَامْسَحُواْ ويجوز أن يكون هو قوله: ﴿فاغْسِلُواْ لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله:﴿وَامْسَحُواْفثبت أن قراءة ﴿وَأَرْجُلَكُمْ بنصب اللام توجب المسح أيضاً، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح»(9).

تبلور الحقيقة:

يقول «إسماعيل»: بعد البحث الحثيث حول كلمات العلماء في آية الوضوء، تبيّن لي كيف دلّس علماؤنا الحقائق وحاولوا التعتيم عليها، ولا أدري بأيّ عذر اعتذروا؟ وعلى أيّ دليل استندوا؟

ومن خلال البحث عثرت على حقائق جوهريّة بين الشيعة والسنّة كمسألة الإمامة التي تعتبر الحجر الأساسي في اختلاف الفرق الإسلاميّة، وقد حاول البعض إبعاد الناس عن جوهر الخلاف وجرّهم إلى مسائل فرعيّة كالوضوء، حتّى يبقى الناس في غفلة عن مسألة الإمامة التي طالما أكّد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على الاهتمام بها في شتّى المواقف كحديث الدار وحديث المنزلة وحديث الغدير و…

الحقيقة:

كشفت الحقيقة لي بأنّ تراثنا لا يركن إلى الدليل، وإنّما تواكبه عاطفة تدفعه نحو ما ألفيت من آبائنا وأسلافنا، وحاول هذا التراث إرجاعي إلى التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، ولكن عزمت على تركها واتّباع ما تملي عليّ الأدلّة والبراهين، فالتحقت بركب سفينة قال عنها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى.

____________

1- المائدة (٥):٦.

2- المائدة (٥): ١٠٤.

3- يونس (١٠): ٣٦.

4- الأحكام لابن حزم ٤: ٤٨٢.

5- المحلى ٢: ٥٦.

6- المحلى ٢: ٦١.

7- المحلى ٩: ٤٠٧.

8- الأحكام ٣: ٦٢.

9- تفسير الرازي ١١: ١٦٢.