السيد حسين الرجا

ترجمة سماحة العلامة السيد حسين الرجا السوري بقلمه:

مقدمات في

مساري العقيدي وسيري الخلقي

1-العرف والعادة

في الأربعينات من القرن العشرين استقبلت الحياة في كنف والدي بين أفراد اسرة بسيطة تعيش البداوة في الأرياف النائية عن المدن وغالباً تجتاز البوادي طلباً للماء والكللأ باعتبار أن حياتهم آنذاك تقوم على تربية المواشي مما يحتم عليهم الحل والترحال.

ويرافق ذلك كله أميّة ضاربة أطنابها، فلو أن رسالة وجهت لشخص ما فلا يجد من يقرؤها، ولربما يبعث بها فارساً أو راجلاً يفتش عمن يقرؤها في قرية أو قريتين ولربما ثلاث فلا علم ولا تعليم ولا عالم ولا مدرسة فلا سائد إلا الجهل والفقر والمرض ولا حاكم مثل العرف والعادة.

ومن أبرز ما نلحظ من أعراف تلك الفترة أن عشرات الألوف من سكان واديي الفرات والخابور لا يرتضون التحاكم في قضاياهم ومشاكلهم إلى العالم أو جزاء وإنما يذهبون إلى صاحب العرف المشتر الذي ورثه من آبائه وأجداده فيحكم للمرافع أو عليه فيقبل الحكم وتحل المشكلة وتهدأ النفوس.

ومن الأعراف المعمول بها أن شيخ مشايخ العشائر إذا سنّ سنّة تتلقاها النفوس بالقبول طواعية فيعملون بها، فلو ثار الشقاق ودقت عوائص الأمور وخفيت المخارج، يحتجّ بعضهم بموجبها على البعض الآخر، ومن جملة هذه السنن التي كنا نعيشها أن المرأة لا ترث أباها ولا قرباها لا بفتيل ولا قطمير، وهذا مما لم نجد له مثيلا إلا في ثلاثة مواقع.

1- موقع جاهلي حيث أن المرأة في الجاهلية تورث ولا ترث.

2- موقع حاكمي حيث أن الحاكم أمر بحرمان فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ميراث أبيها فتأمل.

3- موقع علمائي حيث قرر أهل المذاهب الأربعة أن ابن الأخ يرث دون أخته، والعم يرث دون العمة(5) وما ذلك إلا جزء من نوع حكم الجاهلية في الإسلام

وحديث (الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو فأولى رجل ذكر)(6) فزيادة ((ذكر)) غير صحيحة،وإلا فإنها تشهد لاستمرارية الحكم الجاهلي بقدر ما تشهد لحرمان العمة وبنت العم وبنت الأخ دون إخوتهن.

2-التصوف الشعبي

كان الناس الشعبيون يسمون من ينتمي إلى طريقة من طرق التصوف كائنا من كان ((سيداً)) لا بقصد أنه ينتمي لأهل البيت نسبا بل ولا يعرفون هذا المصطلح إلا ما شاء الله، ويسمون الخرقة التي توضع على الرأس ((سيدة)) لأنه سيد، وعلى هذا المفهوم كان والدي سيدا، فادري الطريق وشافعي المذهب وموسوي النسب، حيث تنتهي شجرته إلى السيد إبراهيم الرتضى بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وكان يعصب رأسه بسيدة خضراء وكان بسيطا متواضعا، من يراه يتوسم فيه الخير وكانوا يعدونه من أهل الصلاح ويضفون إليه قدسية ويزوره الكثير طلباً للعافية والاستشفاء فيقضي الله حاجات الكثير منهم فيعدّوا ذلك من بركاته.

وكنّا نقوم بطقوس صوفية مثل ضرب الدفوف (المزاهر) وضرب السلاح وادعاء الوجد وحكايات الصالحين وقصص ومبالغات وبعض الأساطير التي لا تقوم على أساس شرعي أو منطقي.

وفي سن الثامنة تقريباً طلبت من والدي أن يعلّمني القرآن الحكيم فوعدني أن يجمع عشرات من الأطفال بقصد التعليم فأكون واحداً منهم ولكنني استبطأت ذلك فكررت الطلب فبدأ يعلمني فكنت احمل في كل يوم بعض أجزاء القرآن الحكيم حيث أرعى البهم.

وبالتالي أصحبت قارئاً كاتباً، وقد اشربت حب التصوف تباعاً لوالدي واخوتي وتعلق قلبي بطلب العلم الشرعي بسبب قراءة بعض الكتب البسيطة المهداة أو المتصدق بها عن روح المرحوم الملاّ جاسم ((أخو شوفة)) أحد الدارسين نسبيّاً في المنطقة آنذاك وأدركت الناس يتحدثون بأنهم كانوا عند الابتلاء بمشاكل الطلاق يذهبون إلى المدينة فيستفتون الشيخ النهري ولقد شاهدت حفيده الأستاذ جميل نهري فوجدته عاقلاً متزناً وذكر أنه إلى الآن يحتفظ بمكتبة جده كثرات لعلم من أعلام العروبة والإسلام.

ثم جاء بعده دور الشيخ محمد سعيد العرفي في العلم والاستبصار والشيخ عبد الوهاب الراوي والشيخ رجب الراوي والشيخ حسين الرمضان في التصوف الشعبي وأضرابهم من أعلام مدينتنا الموقرة فذهبوا جميعاً مرحومين، ولم يكتب لي لقاء مع أحد منهم.

3- منهومان لا يشبعان

وهكذا أشربت حب التصوف وطلب العلم من سن العاشرة فإذا اشتد يظهر على جوارحي وإن ضعف يكمن بين جوانحي إلى أن بلغت من العمر سن الثلاثين فأصبحت رجلاً مستقلاً ذا دار وزوجة وأولاد أكد وأكابد، صابراً على صخب العيش ونكده الحياة وكل ذلك بلا شيخ صوفي يرشدني ولا عالم شرعي يمنهجني، فالمدرسة بيتي والمدرس صفحة ذهني والمنهج المقرر كل كتاب وقع بيدي فاصبح قلبي منفتحاً بصفاء البادية ولساني اعرج بعجمتها حيث لا أستطيع أن أعبر عمّا يدور بخلدي ولو بأدني مستوى نحوي أو بلاغي.

فأحسست بالنقص فذهبت أفكر في الخلاص فوجدت الحل في الكتب المدرسية، وقلت في نفسي أنني لست أقل فهماً من الطفل الذي يدرس الصف السادس ثم بدأت أستعير من الطلبة كتاب النحو الابتدائي فدرسته بلهف وصدق ثم السابع الثامن التاسع وانتهيت بقواعد الصف الخاص في دور المعلمين للأستاذ الكريم تركي محسن الرمضان من بني عمومتي.

ثم أخذت شرح قطر الندى لابن هشام وشرح ابن عقيل ودرستهما بصدق معتمداً على الفهم اكثر من الحفظ وكنت اعمل في النهار وادرس في الليل وأطيل السهر، حيث اشتكى بعض أفراد أسرتي قائلين للناس بأنني اضعت أكثر من سنة ونصف السنة اسهر الليلالي الطوال أخاطب نفسي ((قال زيد وقال عمرو)).

وبعد زمن لا يطول كثيراً بدأت أتأمل في دراستي وتصوّفي أياماً وليالي فانفعلت نفسي متأثرة بخيبة الأمل وكأنني أشم رائحة النقص تخرج من باطني وكنت أكرر هذين البيتين:

من أخذ العلم عن شيخ مشافهة        فهو عن الزيغ والتحريف في حرم

ومن أخذ العلم عن صحــــف…         فعلمه عند أهل العــــــــــلم كالعدم

وكنت أكرر كلام الغزالي بما معناه ((العلم إن لم تعطه كلك لايعطيك بعضه)) وتذكرت قول بعضهم: أن العلم لا يناط إلا بصحبة شيخ وطول زمن وذكاء ثاقب غير أنني قطعت الأمل آنذاك من أي مدرسة لأنني لا أملك شهادة ولو ابتدائية أدرس بموجبها داخل البلد أو خارجه.

وأما تصوفي تأملت فيه كثيرا فوجدته سطحيا وخاصة أنه ذوق ووجدان باطني لا أملك منه إلا طقوسا معينة وتأملت في ضاربي السلاح وإذا بالكثير منهم يطعن نفسه وهو لا يصلي فلا يتأذى وبعضهم يتحايل بالضرب على الجمهور فقلت: إن طلب التصوف من أهله لا يلزمه شهادة للقبول بخلاف الدراسة فعرضت مشكلتي على أخي الأكبر وأخبرته أنني اعتزم السلوك على يد أحد مشايخ وادي الفرات.

فأبى ذلك علي وأرشدني أنأذهب إلى بغداد باعتبار إن والدي كان يقول طريقتنا قادرية. وبالتالي سافرت إلي بغداد وبايعت نقيب الأشراف الشيخ يوسف بن علي القادري فأجازني كوكيل عنه في بلدي.

وبعد مدة تقدر ببضعة أشهر أتاني الخبر الذي ينثلج له قلبي وهو أن في مدينة حماة معهدا يدرس الشريعة ولا يشترط الشهادة ولا السن المبكرة ويقبل الطلاب أحرار وبعد إتمام المرحلة يحيلهم إلى جامعة الأزهر الشريف فانضممت إليه.

وبعد ذلك شعرت بالاستقرار النفسي فشرعت اعمل بجد وإخلاص في الأمور التالية:

1- أعمل بالنهار في حانوت بإحدة أسواق المدينة.

2- أسلك بعض الناس في الطريقة القادرية وأعيش مشاكل ضرب السلاح الصوفي وحلقات الذكر وبعض الطقوس الأخرى.

3- أقرأ في الليل ما يلزم قراءته من كتب المنهج تحضيرا للاختبار الذي يجريه المعهد.

4- نهار الخفاش ليله

في أوائل عام ((1977 م)) شرعت اعمل بحانوت في قريتي وإذا بالناس يكفرون ما يقرب منعشرة رجال ويضللونهم ويشتمونهم ويشمئزونمنهم ويتقززون من ذكرهم ويعوذون بالله من فقدان الدين ويقولون إنهم شيعة، فتذكرت الرجل التقي الملا رمضان العلي فإنه عندما يذكر علي بن أبيطالب يترضى عنه وعن شيعته ويقول: ((إن شيعة علي في عصره هم خيار الناس فلما توفي جاء بعده أقوام فغيروا وبدلوا)).

وتذكرت ما كنت أجده في بطو الكتب أنه: ((لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة لأنها لم تضبط ولم تدون وإنما انقرضت هي وأصحابها)) وتذكرت كلام عبد العزيز بجاري الجبل حيث قال: ((ذهبت إلى النجف الأشرف بقصد الاطلاع على المذهب الشيعي فعلمت أشياء منها أنهم لا يقلدون المجتهد الميت… فكوفئت بإجازة أو شهادة فخرية)) فقلت في نفسي: لابد من اللقاء بهم فإن وجدت خيراً فخير وإلا ضربت بمذهبهم عرض الحائط فاستشرت أخي اكبر فهزأ بي وكنت لا أعرف إلا بعضهم رغم أنهم أبناء قريتي وعمومتي.

ولقد زرتهم فأحفوني وتكتموا عن كثير من الأمور، ففاجأتهم بأنني باحث وطالب حقيقة وغير متعصب، فإن وجدت عندكم حقا لا مانع وان عندكم كتب فأعيروني، فأوعدوني، وبعد أيام بعثوا لي كتاب المراجعات فدرسته دراسة آملة وفاحصة بما يقرب من ثلاثة أشهر وعرضته على بعض أهل الخبرة فنهوني عن مطالعة مثل هذه الكتب.

ثم أرجعته إلى أصحابه وأبلغتهم بأن الكتاب جميل جدا وفيه أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وآخر ضعيف وكلها من أحاديث أهل السنة ولكن الناس يقولون: أن هذا الكتاب من اختلاقات الشيعة ((بدليل أنه لم يكون في الأزهر شيخ اسمه سليم البشري)).

حتى وإلى الآن بعض علماء مدينتنا الموقرة يشيعون هذا القول بين عوام الناس لصدهم عن سواء السبيل، وليت شعري ما عذرهم عند الله وعند الناس وعندما نقول لهم مايلي: ((إن الشيخ سليم البشري هو سليم بن أبي فراج بن سليم بن أبي فراج البشري ولد عام ((1832 م)) بمحلة بشر بمصر وكان مالكي المذهب وعين شيخا للأزهر مرتين الأولى عام ((1899 م)) ما يقرب من أربع سنوات والثانية عام ((1909 م)) ما يقربمن تمام ثمان سنين فيكون مجموع مشيخته نحوا من اثنتي عشرة سنة وكان من أكبر المناهضين لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وله مؤلفات منها حاشية على رسالة الشيخ عليش في التوحيد وتوفي مرحوما عام ((1917 م)) ودفن بقرافة السيدة نفيسة بمدافن السادة المالكية))(7) ولا حول ولا قوة إلا بالله.

5- البحث حثيث والخطر بالمرصاد

وفي عام ((1979 م)) تقريبا، اتجهت نفسي تواقة إلى دراسة علوم التصوف من ناحية، وكتب الخلاف التي ترد على الشيعة لكراهتي لمذهبهم من ناحية أخرى، فكنت أحذر سالكي الطريق بل كل الناس عن اللقاء بالشيعة وعن قراءة كتبهم، والناس يتكاثرون من حولي ويثقون بكلامي وإرشادي.

ثم بدأت بشراء بعض الكتب الصوفية والعقيدية والفلسفية واستعرت كثيرا مما تيسرت استعارته من الكتب، فلم يمض على بحثي سنتان إلا وقد اطلعت من

خلالهما على الكتب التالية:

1- إحياء علوم الدين للغزالي.

2- عوارف المعارف للسهرويدي.

3- الفتح الرباني لعبد القادر الجيلاني.

4- قلائد الجواهر للتادفي الحنبلي.

خزينة الأسرار لمحمد علي أفندي.

الغنية لعبد القادر الجيلاني.

التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي.

حقائق عن التصوف لعبد القادر عيسى.

قواعد التصوف لأحمد البرسي المغربي.

10- قوانين حكم الإشراق لمحمد أبي المواهب الشاذلي.

11- البرهان المؤيد لأحمد الرفاعي الأول. ومن كتب الذين يهاجمون التصوف:

كشف سبل الابتداع لمحمد سعيد الشبيب.

هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل.

تلبيس إبليس لعبد الرحمن بن الجوزي. ومن الكتب العلمية التحليلية:

التجربة الصوفية لبكري علاء الدين.

غارودي وسراب الحل الصوفي لياسر شرف.

التصوف في الإسلام لعمر فروخ.

شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي. ومن كتب العقيدة والجدل:

صراع مع الملاحدة لحسن حبنّكة.

الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغداي.

مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري.

براءة الأشعريين من عقائد المخالفين لابن زروق.

قصة الإيمان لنديم الجرسي.

كبرى اليقينيات للبوطي.

مسألة القضاء والقدر للقنبس والكعك.

والعقائد الإسلامية للسيد سابق.

الروح لابن قيّم الجوزية.

الفرقان بين الحق والباطل لابن تيميّة.

الأربعين في أصول الدين للغزالي.

والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم.

المنقذ من الضلال للغزالي.

الملل والنحل للشهرستاني.

جوهرة التوحيد للبلجوري.

ومن الكتب المنطقية والفلسفية:

إيضاح المبهم من معاني السلم للدمنهوري.

نقض المنطق لابن تيميّة.

فلسفة ابن طفيل لعبد الحليم محمود.

المدخل إلى فلسفة ابن سينا لتيسير شيخ الأرض.

مدخل جديد إلى الفلسفة لعبد الرحمن بدوي.

نقض أوهام المادية للبوطي في السنوات الأولى من إصداره.

نقض الماركسية الاشتراكية لغانم عبدة.

فلسفة برجسون لمصطفى غالب في أوائل الإصدار.

فلسفة أرسطو طاليس لمصطفى غالب في أوائل الإصدار.

فلسفة ابن رشد لخليل شرف الدين في أوائل الإصدار.

أصول الفلسفة الماركسية.

ابن سبعين وفلسفة الصوفية لأبي الوفاء الغنيمي التفتازاني أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب جامعة القاهرة.

ومن كتب الخلاف:

السنّة وكانتها لمصطفى السباعي.

العواصم من القواصم للقاضي أبي بكر بن العربي.

الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي.

المفاضلة بين الصحابة لابن حزم الأندلسي.

فرقان الألباب في الرد على الشيخ محمد سعيد العرفي للشيخ حسين الرضمان.

المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين.

النص والاجتهاد للسيد عبد الحسين شرف الدين.

وقليل آخر من كتب الشيعة كمثل الشيعة بين الحقائق والأوهام للسيد محسن الأمين.

1- شكوك حادة وضمير معذب

وفذلكة القول: أنني قرأت شيئاً من المنطق ونقضه، والفلسفة ونقيضها، والفرق وبدعها، والشيعة وفرقها، والسنة ومذاهبها، والأشعرية وجبريتهم، والمعتزلة وجدلهم وحنفيتهم، والحنفي ومرجئيته، والضاهرية ومجسمتهم، والشيعة وغلاتهم، والتسنن ويزيديته، والصوفية وباطنيتهم، وأن الطرائق بعدد أنفاس الخلائق، وأدنى مراتبهم السفر الروحي وأعلاها الوصول أو الاتحاد أو الحلول، وحجج مريديه ومعارضيه.

وقبل تمام سنيتن من البحث شعرت بشكوك حادة وعنيفة تدخل حرم قلبي بلا ناظم ولا استئذان لم أتكلف لها طلباً ولم استطع لها رداً، فاستعذب بالله من هذه النتيجة ولكن هذا الداء استفحل وأخذ بالاتساع فلم يعد لدى قلبي شيء غير مشكوك فيه إلا الحسّيّات.

ومن الغيب التوحيد وجبريل والنبوة والقرآن الحكيم، ثم شككت بكل الأدلة التي يقدمها العلماء لهذه القضايا الأربع أو قدمت من قبل، وقلت: لو كانت أدلتهم صحيحة لما اختلف فيها اثنان في العالم، فبقي إيماني بها وجداني. ولقد طال أمري فخفت على نفسي من زلة القدم ولم أجرؤ أن أشكو لأحد فجعلت أبحث في صفحة ذهني عن أدلة تثبّت قلبي.

ثم التجأت إلى أدعوه وكنت أخرج من بيتي ليلا فيأخذني البكاء وكأن الناس يسألوني وأتحدث لهم في المجالس وكانوا يثقون بي ثقة عمياء فأقول في نفسي: لو تعلمون من الذي يحدثكم لطردتموني من مجالسكم وكنت أتمنى أن لا أقرأ ولا أكتب وأنني راع في فلاة وكثيرا ما أردد البيت الذي يذكره الغزالي في المنقذ من الضلال:

فكان ما كان مما لست أذكره         فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

وكنت أعزي نفسي بشك الغزالي حيث شك في كل شيء وبقي على مذهب السوفسطائيين لمدة شهرين وتحدثت بقصة الغزالي هذه لبني عمومتي أكثر من خمس مرات كل واحدة منها تكون على إثر ما يعص قلبي وكنت إذا سمعت صوتا لم أر صاحبه يرتعد جسمي وكانت لي أوراد تلقنتها من نقيب الأشراف يوسف القادري في بغداد فتركتها، وهكذا.

وفي يوم وإذا بالأدلة تنقدح في ذهني ولكنها تخالف كل الأدلة المبحوثة في هذا الشأن ولكنني لا أستطيعذكرها هناولا اقول: إنها تضاهي غيرها وإنما المهم أنها جاءت بطريقة خاصة ومن ذهنية قاصرة أعادت الاطمئنان إلى قلبي وكأني نشطت من عقال ولقد بقي قلبي موجوعا لمدة تزيد على شهرين حيث تدمر بعضه نتيجة معارك ضارية وبعد التعمير توقفت أكثر من ثلاثة أشهر لم أفتح فيها كتابا ولم ألوي على شيء إلا أنني أشعري قادري شافعي.

1- آن الأوان فطاب المبتلى

تجدد نهمي وتاقت نفسي لطلب العلم ولكن هذه المرة – وبعد الشفاء من الوباء الوافد وخروجي من محنتي سالما بعد دفاع عنيف، انحصر بحثي في التسنن والتشيع حيث لم يبق لي مطلب إلا التعرف على مبادئ وأوليات المذهب الشيعي، خاصة وهم يدّعون الانتماء إلى تلك الأصول الطيبة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان المتشيعون هم من أهالي قريتي وأبناء جلدتي وكانوا مستضعفين من جهة عقيدية فهم يسمعون كلمات التضليل والتكفير وكان عددهم يقرب من العشرة أو يزيدون وهم:

1-السيد الحاج موسى الملاّ عيد: وكان تقياً ورعاً وقارئاً للقرآن ومرتله، ومن يراه يتوسم الخير في وجهه يجدّث الناس وغالباً يقتصر على الكتاب والسنة.

2- الحاج ياسين المعيوف: داعية للتشيّع وصاحب عزيمة في العمل، وقد ألف مؤخراً كتاب ((ياليت قومي يعلمون)).

3- السيد علي الموسى الملاّ عيد مثقف جامعي.

4- السيد علي الجاسم: متديّن صادق يأمنه الناس ويثقون به.

السيد حسن الهبالي.

السيد خضر الجاسم.

السيد محمد الجاسم.

أبو علي خلف الحاضر.

السيد محمود السعيد.

10- السيد عيسى الهلال: ولقد زرته مرة فوجدته يقرأ في كتب شيعية فنهيته ونصحته عن قراءة مثل هذه الكتب عبد أن استسرني واسترشدني.

11- السيد عمر العلي بن السيد حمادي: هو أول من استبصر فكان وسيلة أو جسراً سمح بالعبور لمذهب الأطهار من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المنطقة الشرقية وبخاصة قرية حطلة والتي يعتبرها من حولها من الناس مركزاً للتشيع، فأثلجت قلوبنا بمعين آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وذهب الظمأ والحرمان، فانجلى غشاء التعتيم عن أبصارنا، فهو بشير خير كالذي حمل قميص يوسف إلى يعقوب فارتدّ بصيراً.

ولقد زرتهم بعد مدة وكان اللقاء في بيت السيد عيسى الهلال فوجدت بعضهم فاحترموني وأعسلوا الكلام ثم شرعوا يتحدثون عن أهل البيت (عليهم السّلام) وقالوا: أن أهل السنة لا يعرفونهم.

فقلت: نحن نعرفهم أكثر مما تعرفون فشرعت أعدد بعضهم بلا دقة ولاترتيب فعددت معهم الحسن البصري فضحكوا وهم على استحياء منّي وقالوا: ألم نقل لك أنكم لا تعرفونهم؟ فاعتذرت لهم بأنني قصدت أن أعد جماعة من السلف وكنت أعلم منهم، ولكنهم أنقى بصيرة منّي بسبب التقليد الأعمى.

فأخذني الاستحياء من الرجل الذي نهيته عن مجالستهم وقراءة كتبهم وقلت في نفسي: أنهم يعرفون وإن لم يكونوا علماء، غير أنني لم أتعثر من كلمة طائشة خرجت مني على غير قصد وإنما مطلبي أن أستعير من كتبهم للمقارنة.

وبالتالي أصبحت أستعير منهم الكتاب بلا قيد ولا شرط وكلما تمضي عدة أشهر تكون الكتب موفورة لديهم أكثر وكلما تمضي سنة تكون أكثر في شتى الحقول فتكون مطالعتي أكثر، والمقارنة أكثر فأكثر، حيث قارنت بين المذاهب الأربعة وفقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) والكثير من الكتب الخلافية من تاريخية وعقيدية إلى درجة أنني أعطي كامل أوقات فراغي لهذه الدراسة.

وكان أخي الأكبر يمرّ بي وأنا عاكف على مختلف الكتب التي لم يرها من قبل ولم يسمع لما فيها فأوعدني بأن سأصبح يوماً مجنوناً، وبالفعل وبعد الاستبصار قال لي: أنت مجنون وقال: أنت ((تصلّخت)) أي انسلخت من ثيابك وقال: ((لا تتصلّخ)) أي أنك مجنون ولكن لا تمزق ثيابك فقلت في نفسي: كيف ترجو من المجنون ألاّ يمزق ثبابه وبعد ردحاً من الزمن استبصر أخي فلم أقل له لا تمزّق ثبابك.

لقد وافاني اليوم الذي أصبحت أقدم فيه رجلاً وأؤخر رجلاً حيراناً معذباً أقدم الأولى انصياعاً للحق والدليل، وأوخر الثانية خوفاً من زلة القدم، فلم يمض زمن مقداره ثلاث سنوات وزيادة أشهر إلا وقد استولى الحق على قلبي. وكانت دراستي خلال المقارنة بعيدة عن الهوى والتعصب والطائفة والعواطف، وكنت حذراً حاضر الذهن ودقيق الملاحظة غير متسرع في الحكم فآمنت بأهم المسائل العقيدية والمذهبية مسألة مسألة .

وباعتبار أن مثل هذا الانتقال صعب وشائك جعلت الرياح تعصفني يميناً وشمالاً فتعثّر لساني وتردد قلبي وكأن أمواجاً تتجاذفه، موجة للدين وموجة للدنيا، لأني عالم بأن تشيعي سيكون على حساب مصلحتي وسمعتي وكرامتي عند بعض الناس وحجب ثقتهم عني وتفرقهم من حولي.

فأصبحت أسير الامتحان في السجن الابتلاء في لحظات لا مناص لأجل الخلاص إلا بالفداء  ولكن ما نوع هذا الفداء فهل أفدي الدنيا بالدين أم الدنيا لأجل الدين وبعبارة أخرى أيهما أبيع وأيهما أشري أحلى البيعين مرو أدفأهما أحر من الجمر، فكتمت أمري ما يقرب من شهرين راسلت خلالهما السيد عبد جرجب الحسين والسيد محمود عابد الوكاع فأجاباني بالإيجاب وسربت خبرا إلى قرية الصعوة فقيل للسيد محمد محمود العجيل أن شيخك تشيع ولقد رأيناه بأعيننا يصلي مرسلا يديه لا متكتفا فقام ذلك السيد وتوضأ وصلى مرسلا يديه ثم قال: شيخنا عالم حاشاه من الغلط.

ولقد استشرت رجالا من أبناء قريتي وعمومتي ممن أثق بهم فسكت بعضهم وعارضالبعض الآخر وكل ذلك كان سرا ثم أعلنت الحق والله لا يقضي إلا بالحق، وعلى إثر ذلك كان سرا ثم أعلنت الحق والله لا يقضي إلا بالحق، وعلى إثر ذلك تفرق الناس من حولي وخلعوا بيعة الطريقة وأساؤا الظن وحكموا علي بأحكام لم يرض بها الله تبارك وتعالى.

فبعض الناس شمت وشتم فأصحبت هدفا للسهام وعبرة لمن يعتبر ولامشاحة هنا فإن الناس أعداء ما يجهلون.

وبعضهم اعذرني ولكن باعتقاد أنني مجنون.

وبعضهم يقول أنه سياسي يستتر بالدين. وبعضهم يقول أنه ترك دينه لأجل ألأطماع.

وبعضهم يقول أنه لا يستطيع أن يرجع إلى دينه فلو رجع فالشيعة يقتلونه، وللأسف الشديد أن مثل هذه الهراءة يطلقها أحد السماحات.

وبعضهم ظن أنني أبحرت في العلم فاختلط أمري وذلك انطلاقا من المقولة الشائعة بين الناس: أن العالم عندما يبعد في خوض العلم يدخل علي عقله.

وبعضهم اعتقد أنه قدر غرر بي فلذا قام بعض الأصدقاء يعرضونني على العلماء طلبا للشفاء فكنت أقول:

يا طالب الطب من داءٍ أصبت به إن الطبيب الذي يبليك بالداء

فاقد الشيء لا يعطيه

شرع الناس يلقتون بي فيسألونني ويردون عليّ كل حسب عقليته ومستواه، فواحد يقابلني باللوم والعتب وآخر بالشدة والانتقاص وثالث يذكّرني بثقة الناس والقيمة الاجتماعيىة وأنها ذهبت مني ورابع يطعن ويسب بكلمات جارحة وأليمة.

إلى الآن لها صدى في قلبي، وأنني لأعرفهم، وإلى الآن لم أذكرهم ولم اذكّرهم، وكنت أدافع عن نفسي بكتاب الله وسنة رسوله فأتلو الآية وأذكر الحديث فيكون الجواب: ألم يقرأ الآية إلاّ أنت؟ ألم يعرف الحديث إلا أنت؟ ألم يقرأه العلماء؟ ألم يقرأه الناس؟ فلماذا لم يغيروا دينهم؟ وعندها يتمزق قلبي أسفاً على جماهير الناس الذين لا يعرفون عن الدين شيئاً، وكنت أكرر هذه الكلمات ((يا ليتني لم أعرف الناس ولم يعفرونني)).

وبعد مدة غيرت حديثي مع الناس فأصبحت أقول: لعلي مريض وأنني أخشى على نفسي، والمريض يعالج عند الطبيب ومرضي من نوع آخر لا يشفيه إلاّ الدليل، خذوني إلى الأطباء خذوني إلى العلماء، ومن البديهي أن مثل هذه الكلمات تبعث الأمل في أذهان بعض المحبين فنهضوا بجد ونشاط يعرضونني على ذوي الاختصاص من أهل الفضل والمعرفة.

9 – يهرب طبيب فيترك مريضاً

أبلغني ذات يومٍ أحد المحبين الغيارى أنه يعتزم عقد لقاء بيني وبين أحد العلماء فقلت: له يا ليت فإن وضح الحق وشفيت نفسي لك الأجر والثواب، وأنني خائف من زلة القدم ولكنني أطلب منك أن يحضر ندوة الحوار بعض المثقفين لأنهم أقدر على الفهم فيحكموا لي أو عليّ وبعد أيامٍ أبلغني بأنه عيّن العالم والزمان والمكان فذهبنا في الوقت المحدد ووجدنا الشيخ بالانتظار وقد حضر أحد المثقفين وكان عدد الحضور سبعة رجال وما أن استقر بنا المجلس إلا ونطق أحدهم قائلاً: شيخنا هذا السيد الذي كلمناك بشأنه وعندها بدأنا الكلام واليك عزيزي القارئ نص الحوار بكامله.

أشاح الشيخ بوجهه ناظراً إلى وجهي فقال: (هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).

فقلت له: شيخنا أصحيح أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوجده ميتاً مسجّى ببردته فأغلق الباب عليه وشهر سيفه يهدد الناس ويمنعهم من القول بأن محمداً قد مات ويقول: بما معناه من قال محمد قد مات ضربته بسيفي هذا، محمد لم يمتوإنما ذهب إلى ميقات ربه كموسى بن عمران وسيرجع بعد أربعين يوماً فيقطع أيدي رجال وأرجلهم؟

فقال: نعم هذا الحديث صحيح لا غبار عليه.

فقلت له: شيخنا هل الله قال: ن محمداً لم يمت؟

قال: لا.

قلت: فهل رسول الله قال إنني لم أمت؟

قال: لا.

قلت: فهل جبريل نزل على عمر فقال له إن محمداً لم يمت؟

قال: لا.

قلت: أما كانعمر يقرأ قول الله: (إنك ميت وانهم ميتون) معنى ذلك أن عمر تكلم ذلك أن عمر تكلم بما لا يتطابق مع الواقع بل تكلم ضد الله ورسوله وجبريل والقرآن.

ثم سكتّ قليلاً انتظر الجواب ووجه الشيخ يتغير وقبل أن يتكمل قلت: اللهم إلا أن يقال أن عمر كان يهجر وحتى هذا الاعتذار ساقط من الحسبان لأن الرجل عندما يهجر يختل كلامه لفظاً ومعنىً لأنه فاقد الشعور لا يدرك ما يقول، على عكس ما يقوله عمر حيث تكلم بكلامٍ فصيح فلا ركة في المعنى ولا هجر في القول.

ثم سكتّ قليلاً أنتظر الجواب وإذا بالشيخ ينظر إلى الساعة في يده قائلاً عندي موعد ((يا الله!!)) فينهض قائماً فتفرقنا بلا عودة.

ثم التقيت بالرجل المثقف فقلت له: بماذا حكمت فقال: إذا كان دليل الشيعة هكذا وعلماء السنة هكذا فعلى هذا الأساس اعتبرني شيعياً وبعد مدة استبصر ذلك المثقف والحمد لله.

10- عمامة بلا معمّم

اصطبحني ذات ليلة أحد المحبين إلى بيت أحد المشايخ لغرض الاستشفاء!! فاستقبلناورحب بنا فقبّلت يده، ولما استقر بنا المجلس قال الشيخ:

يا حاج حسين أصحيح ما سمعناه عنك؟

فقلت له: نعم شيخنا.

فقال: تكمل لنا كيف استحوذ عليك الشيعة بأعظم مصيبة هي المصيبة في الدين؟

فقلت له: شيخنا لقد قرأت بعض كتبهم العقيدية والجدلية والتاريخية وسيرة الصحابة وغيرها فوجدتهم يثبتون صحة مذهبهم من كتب أهل السنة وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنة من كتبهم ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون وكلما يزداد شكي في التسنن يزداد يقيني في التشيع، وفي مثل هذه القضايا تزل الأقدام فخفت على نفسي من زلة القدم وأصبحت مريضا ولا علاج لي إلا عند العلماء. وإلا فمرضي لا ترجى برأته.

فاطرق الشيخ دقيقة صمت ثم نظر إلى نظر العالم المتمكن والمتحدي؛ فقال: يا حاج حسين لا يمكن أن الصحابة يغلطون أو يزلون، وإذا الصحابة يغلطون أو يزلون أو يأثمون ويجرمون أو يتعاطون المعاصي فأنا أشرط عمامتي وأضعها في بيت الماء ((يعني يمزقها ويضعها في المرحاض)).

ولما أنهى الشيخ كلامه أطرقت رأسي ولم أرد جوابا وشرع ذهني يتجول بين ثلاثة محاور تارة في مكتبة الشيخ التي تضم صحيحي مسلم والبخاري وتارة في عمامته التي أصيغت على طراز أبدع ما تصاغ به العمائم وثالثة أفكر في المرحاض الذي لا يبعد كثيرا عن مجلس الحوار فأخذني صراع داخلي فتارة تحمل علي نفسي فأكاد أن أقول للشيخ: آتني بمجلد كذا ورقم كذا وباب كذا وكذا في مسلم والبخاري وتارة أحمل عليها فأسكتها فوالله ما منعني عن رد التحدي إلا شيمي وأخلاقي ولأن الرد خطير ولارهان رهان عمائم.

وبعد الحوار الذي هو أقرب إلىكونه صبياني تفرقنا، ولما دخلت بيتي وأخذت مضجعي أدركتني بركة الشيخ فاستفدت كثيرا غير أنها من نوع سلبي ونتيجة عكسية حيث قررت أن لا أموت إلا شيعيا على طريق آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

وعلمت بأن الشيخ مأسور الفكر والدراسة وأدركت أن كثيرا ما يوجد في العالم الإسلامي من عالم بلا علم وعمامة بلا معمم وأيقنت أن طلب العلم للعلم هو غيره عن طلب العلم للوظيفية والاكتساب.

11- طبيب مراوغ ومريض صوري

باعتبار أن النخورة والحمية والغيرة على الدين من المآثر الحميدة بين المسلمين اجتمع بعض الأخوة المحبين واقتادوني إلى شيخ هو من أعاظم مشايخ المنطقة فرحب بنا وأكرمنا، ولما استقر بنا المجلس أظهرت شكواي بأنني مريض وهو طبيب، وكلمه أصحابي في هذا الشأن فضرب صفحا وشرع يتحدث عن قضايا لا تمت لقضيتي بصلة لا في اللفظ ولا في المعنى، ولما طال الكلام نظر أحد أصحابي إلى الآخر فذكروا الشيخ بقضيتي فقال لهم ((الشيعي خير من الشيوعي)) وسكت فانصرفنا عن سراب الشيخ عطاشي.

وكان ذلك الشيخ ذكي وبعيدة مراميه فلا أدري هل قصد بكلامه ((أن الإيمان خير من الكفر؟)) أم قصد مثلما صرح ابن تيمية حيث قال: ((أقرب الملاحدة إلى الإسلام محي الدين بن عربي)) وما ذاك إلا لأنه فرق بين الثبوت والوجود وبعبارة أوضح: ((أن العالم قديم بالزمن حادث بالذات)) وهذه التفرقة حدت بابن تيمية أن يعطي ابن عربي ذلك القرب.

وعندما دخلت بيتي أحسسبت بقلبي ينثلج بذكر آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

و يبتعد عن غيرهم إلى درجة أن نفسي أصبحت تتخيل أن أعظم دليلا على صحة التشيع وخطأ غيره هو عجز علماء محافظة كاملة عن إقناعي ولو بحديث واحد يصيب الهدف إلا بعض مراوغات وشائعات سبرنا أغوارها فلم نجد لها واقعا من الواقع والحمد لله.

12 – فصل الأحكام بالإلهام

ذكرلي بعض الاخوة أن هنالك شيخا عالم بالظاهر ولاباطن ((أي بالشريعة والاستجلاء الباطني)) وأنه يصلح أن يكون طبيبا ويجب أن تعرض نفسك عليه، فلم يزل بي حتى أقنعني فنهضهنا نلتمس منه العلم والاستشفاء فأكرمنا ورحب بنا ثم عرضت نفسي عليه وطلبت منه العلاج الناجع وقلت له: أنني على مفترق الطرق واضع قدمي على مثل حجر عثرة حادة الا نزلاق، ولئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.. وكلام من هذا القبيل.

وكلمه صاحبي ثم صمتنا ننتظر الجواب فشرع الشيخ يتكلم بكلام في الربع الخالي وقضيتي في مكة المكرمة وكلما يزيد في الكلام أكثر يبعد عن الغرض اكثر ونحن على حين غرة والشيخ يتكلم وإذا به يغمض بقية عينه ويهدر قائلا: ((آه … الآن جاءتني الهامة! لقد رأيت الآن رسول الله وأبابكر وعمر وعثمان وعليا ومعاوية جالسين تحت العرش على كراسي من نور لا خلاف بينهم)).

وفي حينها شعرت وكأن قلبي ينصفق على أضلعي فقلت في نفسي: وأين ذهبت صفين وشتائم معاوية لأهل البيت الطيبين الطاهرين؟ وأين ذهبت دماء سبعين ألف من المسلمين؟! وأين؟ وأين؟… إلى درجة أنني غرقت في بحر التفكير فلم أعد أسمع كلام الشيخ إلا همهمة ولا افهم ما يقول فتفرقنا وأنا مكسور الخاطر على هكذا علماء وهكذا مسلمين.

ثم أقسمت على نفسي بالله العظيم أن لا أموت إلا شيعيا ولا أحشر إلا شيعيا ولا أصدق كلاما ينقل منسوبا إلى الشريعة الإسلامية إلا ما كان آية صريحة محكمة أو حديثا صحيحا يوافق صحيح ما نقل عن الأطهار عن جهدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

13- فتوى طازجة

هناك شاب من بني عمومتي ومن أصهاري – ولما تشيعنا – خاف علد دينه ((حسب المدعى)) فسارع يناشد العلماء حل المشكلة بما معناه ((أن آل الرجا أصبحوا مركزا من مراكز التشيع وأنني صهرهم ومضظر للذهاب إليهم في الأفراح والمآتم وكل مناسبة كما هو في العرف والعادة، فلو ذهبت إليهم فما يحل لي وما يحرم علي)) فجاءت الفتوى على لسان بعض السماحات بمايلي:

((اشرب ماءا وكل خبزا ولا تأكل لحما، فذبائحهم لا تؤكل لأنهم على غير

دين)) ولما بلغني خبر الفتوى الطازجة قرأت قول الله تبارك وتعالى: (وطعام الذين أتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم )(سورة المائدة آية 5) وقلت هل صحيح أن الإسلام يحرم على مثل هؤلاء المفتين طعام أتباع آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الوقت الذي يبيح لهم طعام الذين أوتوا الكتاب ثم تلفظت بالشهادتين جهرا ((اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله)) وقلت لمن حولي: إن هاتين الشهادتين تعصمان الدم والمال والعرض وتبيحان الطعام والسلام والنكاح والميراث.

ولقد شاهدت مؤخرا الكثير من سماحات المنطقة يتناولون طعام أتباع آل محمد

(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلست أدري هل هو إجماع سكوتي كما هو المقرر في كتب الأصول ومنها الكتاب الأصولي للأستاذ عبد الوهاب خلاف

– أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة سابقا – حتى وإن لم يكونوا مجتهدين؟ وهل الإجماع السكوتي المتأخر ينسخ الفتوى المصرح بها سابقا؟.

14- نصف العلم لا

استشارني أحد رجال التشيع بالذهاب إلى أحد المشايخ لغرض المناظرة وسبر غور الشيخ والكشف عما يكن في خلده تجاه التشيع فالتقينا به فرحب بنا وعلى أعقاب ذلك بحثنا الموضوع فاعتذر قائلا: لا أستطيع النقاش لأنني لم ادرس التشيع ولم أطلع عليه فلا يجوز أن أتكلم بما لا أعلم فأعذرناه وصدقته وكبر في عيني وعظم في قلبي وبالفعل كان ذلك الشيخ تقيا ورعا صوفيا تلوح عليه سيماء الرجل العاقل وله سمت خاص ومرضي عليه جماهيريا.

15- التيس والناس

على أعقاب أن انغرست بذرة التشيع وتجذر جذعها وعلت أغصانها ورفرفت نسائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأوراقها وكشف بدو الصلاح عن طيب ثمارها تجمع أوباش الناس حانقين يريدون اجتثاثها من جذورها وإخماد جذوتها وإسكات أصحابها وحملهم على أشواك طرق غير مأمونة لكثرة التعرج وجهالة المسار واحتمالية النتائج، فهم لا يلوون على شيء ولا يألون جهدا، فتارة بالدعاية والإشاعات وأخرى بالتهويل والتخويف، لا يرقبون في مسار آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلا ولا ذمة إلى درجة أن بعضهم شتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبعضهم تبرأ من الحسين (عليهما السلام).

أقول: على أعقاب ذلك كله فجأة وإذ بالناس يقدسون تيسا يقطن في بلدة أبي كمال الواقعة آخر المنظقة الشرقية السورية ممايلي العراق فذاع صيت ذلك التيس وعلا ذكره وتمكنت قدسية من قلوب الناس بسبب خاصية التخنيث فهو يملك أنثيي ذكر وضرعي أنثى فلذلك اشتهر أن لبنه شفاء من كل داء عضال، فطقق الناس يزورونه من كل حدب وصوب طلبا للعافية والشفاء العاجل وأن قطرة من لبنه علاج للعقم عند الرجال والنساء، ويشفي مرض السل والسرطان وغيرهما فهو لا يوفر وكأن اختصاصه جميع الأمراض وذلك لا يحصل إلا من مخنث خرجته كلية التيوس ومنحته شهادة التخريف واستأجرت له بيتا في أذهان الأغبياء واختصته بزرع التخلف في كل دماغ يصلح لتقبل وباء ذلك الزرع المشؤوم.

وعادة أن أصحاب الكراجات يتنادون باسم البلد الذي يؤمه المسافرون فلم تمض إلا مدة لا تطول وإذا بأصحاب الكراجات وبأمكنة خاصة يتنادون مصبحين حتى المساء (عالتيس عالتيس عالتيس) فيقون جمهرة الناس من محليين ووافدين من شتى أنحاء الخليج والجزيرة العربية وغيرها متجهين إلى بلدة أبي كمال ليحظوا ببركة تيس مخنث كما هو شأن بعض الخناثى من بني البشر في الوقت الذي يحرم بعض المسلمين زيارة الصالحين ومراقد الأطهار من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم أن كم الزوار الهائل أخذ بالازدياد فلو بقي لعله يضاهي أضرحة الأقطاب الأربعة الجيلاني والرفاعي والبدوي والدسوقي من حيث الزائرين.

ولا أدري إلى أين تؤول الأمور لو بقي تيس أبي كمال، فهل نضاهي به عجل السامري في بني إسرائيل؟

وهل لو سمع الإنجليز بتيس أبي كمال فهل يشرونه بالثمن الباهظ؟ أم يشرون قطرات من حليبه كعلاج عالي التركيز ضد الجنون البقري الذي أخذت عدواه تهدد المواطن البريطاني؟ غير إننا نشكر الجهات المختصة التي أوقفت هذه المهزلة بمصادرتها تيس التخنيث وطبيب التخلف تخليصا للناس من دور الخرافة والتخريف.

أقول: حري بنا أن نصف حطلة بأنها قرية التحرر الفكري والاجمود في التقليد لسببين: الأول لانتشار فكر الأطهار من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أرجائها، والثاني لأنها تعج بالمثقفين من مختلف الكفاءات والمؤهلات العلمية. حيث لم يدنسوا أذهانهم بتقديس تيس مخنث تضرب به الأمثال للدلالة على الغباء فلو أردت أن تصف رجلا سفيها أو لا يتعقل تقول: ((أنه تيس لا يدري ولا يفهم فتأمل)).

16- سماحة مفتي المياذين

التقيت ذات يوم برجل صاحب دين ورجاحة عقل وذو شخصية بارزة يتحسس الغيرة على الدين وناصح لي وبعد كلام ألوى بعنقي إلى سماحة مفتي وناصح لي وبعد كلام ألوى بعنقي إلى سماحة مفتي المياذين الأستاذ الشيخ محمود مشوح أبو طريف وذات ليلة توجهنا إلى منزله فأهل وسهل ورحب بنا وأكرمنا وبعد الاستقرار بدأ الحوار الهادئ وفي مايلي نلخص بعض مادار في ذلك اللقاء المبارك.

الصاحب:

قال صاحبي: يا أبا طريف إن هذا السيد متدين ومعروف بدعواه وإرشاده للناس ومن عائلة كريمة وكان والده من أولياء الله… غرر به الشيعة فانحرف عن السنة وشتم الصحابة وحكى على أم المؤمنين عائشة وهاهم في قرية حطلة يشتمون أبابكر وعمر… ثم جاء بكلمات تغري الشيخ بالشيعة بعضها تصريحا وبعضها تلويحا ولكن الشيخ لم يضلل مذهب أهل البيت ولا معتنقيه بل تكلم بمايلي:

سماحة المفتي:

إن كان هذا الرجل يتشيع ويشتم الصحابة بدافع عواطفه وحبه لأهل البيت؟ فهو آثم وضال لأن العواطف قد تخالف الحق وإن كان هذا الرجل يقرأ المذهب فيتشيع ويقرأ التاريخ فيشتم فلا تثريب عليه لأنه قد يجد مالا يحتمل (فهو معذور…).

الصاحب:

أراد صاحبي أن يورد حديثا عن ابن عباس يذم به الشيعة ويذكر به الشيخ فقال: ((روى ابن عباس رضي الله عنه)) فسارع سماحة المفتي وقطع حديث

صاحبي عن ابن عباس وقال: ((رحم الله ابن عباس لا تضطرني أحكي عليه فقد ولاّه علي بن أبي طالب بلد كذا وكذا فأخذ فيء المسلمين وهرب به إلى المدينة المنورة وتمرّد على علي بن أبي طالب)) فسكت صاحبي.

سماحة المفتي:

كل ذلك يجري وأنا ساكت ثم التفت إليّ سماحته قائلاً يا حسين: ((أأنت بعواطفك تسب وتشتم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم تقرأ في التاريخ! وأيّ كتاب قرأت؟ وكم كتاب قرأت؟)).

حسين الرجا:

فقلت له: شيخنا الكريم لقد جئتك لا متعنتاً ولا متزمتاً ولا مناظراً ولم أسب ولم أشتم وإنما جئتك مسترشداً فاعتبرني مريضاً وأنت الطبيب وإنني قرأت من كتب العقيدة في السنة والشيعة كذا وكذا ومن المذاهب كذا ومن التاريخ كذا ومن الجدل والحوار كذا فأخذت أعدد من الكتب… فنظر إليّ نظرة ترافقها ابتسامة خفية لا يدركها إلا ممارس فقال: أقرأتها وتفهمتها؟ قلت: نعم فقال: من يقرأ كتبك هذه يحق له الاجتهاد فلم أنت لا تجتهد، لقد كنت شافعياً والآن أنا سلفي ولكنني أحترم الشافعي، وأنت وإن انتقلت إلى مذهب جعفر يجب أن تحترم المجتهدين. فقلت: شيخنا معاذ الله أن اجتهد لأنني مضطرب النفس حيث شككت في المذاهب وأنا الآن على أعتاب مذهب لم اسبر أغواره ولم أطلع على خفاياه بعد.

سماحة المفتي:

وفي نهاية المطاف نظر إلينا سماحته فقال: إن الذي بين السنة والشيعة وكل المسلمين (99%) وفاقاً و(1%) خلافاً وأن واحد الخلاف (99%) منه

وفاقاً و(1%) خلافاً وقسّمت فيما بعد ما نص عليه فوجدته (9999%) وفاقاً وواحد من عشرة آلاف هو الخلاف، ثم قال لي يا سيد حسين مذهب جعفر معتبر ومبرئ للذمة إن شاء اللهولكن لا تشتم أحداً.

ومن الإنصاف بمكان أن أقول: إن سماحة المفتي محمود مشوح عالم ضليع واسع الاطلاع حاضر الذهن وسلفي جريئ، بعيد عن حدة السلفين لا يتملق ولا يقلد أصحاب المذاهب الأربعة وإنما يأخذ من قطوفها اليانعة ويدعو إلى فتح باب الاجتهاد الذي أغلقته أحداث ظالمة للإسلام والمسلمين وكأنه يحذو حذو السيد سابق في كتابه فقه السنة وهي خطوة أنا أرحّب بها بغية أن يلتقي المسلمون عند مجتهد واحد في عصرٍ من الأعصار يعيش بينهم ويحل مشاكلهم ويوحد صفوفهم ومذاهبهم وكذلك نرجو الله واليه نرغب.

ولقد رأيت سماحته بعد بضعة أشهر ماشياً على قدميه يحوطه رجال خيّرون فسلمت عليه وعليهم فأوصاهم بي خيراً ولكنني لا أملك ما أوصي به له إلاّ أنني أقول: ((اللهم يا رباه أدعوك متضرعاً أن تكثر من أمثال هذا الشيخ وان توفقه لكلما تحب وترضى وأن تحشره مع أعز الخلق إليك محمد وآله الأطهار صلى الله وسلم عليه وعليهم صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم

الدين وأخر)) دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

5– راجع فقه السنة للسيد سابق ج 3 ص 627 الروضة البهية على متن الرحبية ص 19.

6– صحيح البخاري ج 4 باب ميراث الولد من أبيه تزدز بغاز ج 6351 ص 2319 ورواه غيره.

– راجع الموسعة العربية الميسرة والتي قام بجمع موادها اكثر من (50) دكتور خبير مختص حرف الباء ص 374، وراجع معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ج 4 حرف السين ص 249.