محمد الرصافي المقداد

نبذة عن حياة الأخ المستبصر: محمد الرصافي المقداد من تونس الذي كان على مذهب المالكي ثم اهتدى إلى التشيع:

المولد والنشأة

ولد في 23 / 8 / 1953م في فطناسة ولاية قبلى بدولة تونس، وترعرع في أسرة ملتزمة تعتنق المذهب السني.
يقول الأخ محمد الرصافي حول التعليم الذي تلقّاه منذ الصغر: أدخلني والدي في كتاتيب القرآن، فحفظت منه ما أمكنني حفظه، ثم التحقت بالتعليم الحكومي، مواصلا دراستي إلاّ أنّني ولعوامل عدة انقطعت عنها دون الحصول على شهادة ختم الدروس الثانوية، ولعلّ أهمّ تلك العوامل انصراف كل اهتمامي بالعربية والتي كنت متفوّقاً فيها منذ الصف الابتدائي، فما تركت لبقية المواد التي كانت تدرّس بالفرنسية شيئاً، وكنت دائم المطالعة ومنها حصلت على ثقافة عامة لا بأس بها.

بداية اندفاعه للبحث عن التشيّع:

يقول الأخ محمد حول بلورة النواة الأولى التي دفعته للتعرّف والبحث عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام):
بدأت قصة استبصاري عندما انتقلت عام 1980م من شمال تونس وبالتحديد من مدينة “بنزرت” حيث لا يزال والدي واخوتي هناك، إلى مدينة قابس للعمل في شركة للصناعات المعدنية. وكنت أعلم قبل ذلك أنّ ابن عم لي يُدعى الشيخ مبارك بعداش، يقطن منطقة سيدي أبي لبابة بنفس المدينة، فكان ذلك مدعاة لي بأن آنس بنقلي إليها واتأقلم مع أجوائها.
ويضيف الأخ محمد: وكان الشيخ مبارك بعداش أحد المؤسسين لحركة الاتجاه الاسلامي، أي أنّه كان سنياً متعصّباً، لكنني لمّا زرته بعد استقراري لاحظت انخفاض تعصّبه عما كان عليه، فايقنت أن الشيخ قد طرأ على تفكيره تغيير. فاقتربت ذات يوم من مجلسه مسلماً عليه، فرأيت ين يديه كتابان، الأول كتاب (المراجعات) للسيد عبدالحسين شرف الدين قدس سره الشريف، والثاني كتاب (فضائل أمير المؤمنين(عليه السلام)) للشيخ المظفر (طيب الله ثراه)، فالتفتُ إليه بعد أن ردّ عليّ السلام واستفسرت منه الأمر، فذكر لي أنه في رحلته إلى مدينة قفصه وهو في طريق بحثه عن الحق بعد الخلاف الذي حصل له مع جماعة النهضة، التقى بالدكتور محمد التيجاني السماوي وتباحث معه حول مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ودارت بينهما عدّة مناقشات من دون أن تسفر على اقتناع الشيخ التام بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) ثم ذكر أن الدكتور التيجاني زوده بهذين الكتابين.

دراسة كتاب المراجعات:

من هذا المنطلق أحب الأخ أن يشارك الشيخ مبارك بعداش في بحثه، لأنّه وجد هذه الفرصة ثمينة للوصول إلى القناعات العقائدية المزودة بالأدلة والبراهين، فاعلن استعداده للشيخ لمشاركته في البحث من أجل التعرّف على أصول عقيدة الاسلام النقية من كل درن.
ويضيف الأخ محمد: كان الشيخ آنذاك محاصراً من قبل جماعة حركة الاتجاه الاسلامي وكانوا قد روّجوا عنه جملة من دعايات مغرضة وأقاويل لا ترقى إلى الحقيقة بشيء، فاستطعت بفضل الله تعالى كسر ذلك الطوق عنه باستقدام عدد من الأخوة إليه فعقدنا جلسات للبحث، ولا سيما من أجل تسليط الأضواء على كتاب المراجعات.

ثمرة البحث في نهاية المطاف:

يقول الأخ محمد: راجعنا بعد ذلك المصادر المنصوص عليها في كتاب المراجعات، فتأكّدنا أن صاحبه ينطق صدقاً وعدلا، غير متحيّز ولا متحرّف، وأنّ ديدنه الحق وكشف مواطن الصدق، وتبيّن لنا أنّ اقرار الشيخ سليم البشري على أحقية أهل البيت(عليهم السلام) ليس إلاّ دليلا على قوة البراهين التي أوردها السيد شرف الدين، فاصغت لذلك افئدتنا وعقولنا وانغرست باكورة أفكاره في وجداننا وانصاعت إليه طباعنا، ومن هذا المنطلق قررنا جميعاً الالتحاق بمذهب أهل البيت(عليهم السلام) وبالفعل أعلنا ذلك أمام الجميع.

تحمّل مسؤولية الدعوة:

يقول الأخ محمّد: انهالت علينا الأسئلة والاستفسارات من كل حدب وصوب، وكان الجميع يرغب في التعرّف على الأسباب التي دفعتنا لتبني فكر مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، فكنا نجيب على الاسئلة التي نواجهها حسب معلوماتنا، وكنا نعاني من قلة الكتب، فكانت اجابتنا بسيطة ومقتصرة على المعلومات التي اختزنتها عقولنا.
ثم سافرت بعد ذلك إلى معرض الكتاب في دورته الثانية عام 1981، فاشتريت منه كتاب الغدير للشيخ الاميني (رضوان الله تعالى عليه)، ثم واصلت جلساتي مع الشيخ مبارك، فكان ذلك دافعاً إلى المزيد من التعليم والبحث، وبدخول كتاب الغدير في حلقة الدرس توسّعت معارفنا وقويت حجتنا فكان ذلك حافزاً على المزيد من العمل من أجل نشر فكر أهل البيت(عليهم السلام).
ويضيف الأخ محمد: ثم صحبت الشيخ في رحلاته إلى قفصه وغيرها، وبعدها أصبح الشيخ يكلّفني بالسفر للتبليغ أو الاتصال بالأخوة، وسرعان ما أتى ذلك النشاط أكله وأينعت ثماره فاستبصر كل من طهرت سريرته وانطوى مكنونه على بارقة خير، فتشكّلت منهم نواة اقتحمت اسوار الجامعة، وانتشرت دعوتهم في البلاد طولا وعرضاً وشمالا وجنوباً حتى لم يعد هناك مدينه إلاّ وفيها مؤمنون مستبصرون على منهاج المعصومين(عليهم السلام) قلباً وقالباً.

المضايقات بعد الاستبصار:

يقول الأخ محمد حول المصاعب والمضايقات التي واجهها بعد اعتناقه لمذهب أهل البيت(عليهم السلام): لم يخل طريقي من بعض العراقيل والاشواك، فقد اعتقلت في 7 أوت 1985م وحقق معي بشأن تشيعي واطلق سراحي بعد 14 يوماً، ثم وقع طردي من العمل في 4 جانفي 1986م، ثم اعتقلت مرة أخرى في 21 أوت 1986 ولم يطلق سراحي إلاّ في 19 سبتمبر من نفس السنة، ثم وقع اعادتي إلى العمل بعد انقلاب السابع من نوفمبر تهدئة للاجواء في البلاد، ثم اعتقلت سنة 1991م ثلاثة أيام، تعرّضت خلالها للتعذيب ظلماً وعدواناً، ثم تعرّضت للطرد من عملي هذه المرة نهائياً سنة 1992 ثم اعتقلت سنة 1994 خمسة أيام واطلق سراحي.

مؤلفاته:

1 ـ له عدة مقالات، ستصدر في مجلد واحد أو عدّة مجلدات من مركز الأبحاث العقائدية ضمن سلسلة الرحلة إلى الثقلين المقالة الأولى: التوحيد عند أهل البيت(عليهم السلام).
المقالة الثانية: النبوة عند أهل البيت(عليهم السلام)، دراسة مقارنة.
المقالة الثالثة: الاثبات في نفي استخلاف أبي بكر للصلاة.
المقالة الرابعة: حب أهل البيت(عليهم السلام) ولاية الله تعالى.
المقالة الخامسة: الدعاء والعبادة عند أهل البيت(عليهم السلام).

وقفة مع كتابه: “دراسة مقارنة في التوحيد والنبوة”

كتاب يحتوي عدة مقالات عقائدية توضح عقائد الشيعة، وتتبع ما ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام)، ويقارن في بعضها بين ما اعتقده أتباع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وهو الاسلام الحق وبين ما اعتقده المذاهب الأخرى التي جمعت بين الغث والسمين، وقد رأينا هنا ـ طلباً للاختصار والانسجام ـ التعريف بأهم ما اورده في مقال التوحيد.

أهمية التوحيد في العقيدة الاسلامية:
يبين الكاتب أهمية التوحيد، فيقول:
يمثّل التوحيد في العقيدة الاسلامية رأسها ودعامتها، ومن دون توحيد سليم قائم على معرفة صحيحة، لا يكون البناء العقائدي قوياً وثابتاً لدى الفرد المسلم، لذلك حث المولى سبحانه وتعالى مخلوقاته العاقلة على الأخذ باسباب العلم لبلوغ الغاية من المعرفة في التوحيد، وفي سائر العقائد الاسلامية الأخرى. فقال في محكم تنزيله:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللَّهُ) (محمد: 19) وقال ايضاً: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (آل عمران: 188) فالآيتين تشيران إلى أن العلم هو الطريق الوحيد، والمسلك الرشيد لبلوغ اركان العقيدة، وأعلى مراتب التوحيد، لذلك لم يجز على كل مسلم أن يكون مقلّداً في التوحيد وفي سائر العقائد، ووجب عليه أن يسلك من أجل تحصيل العلم بذلك سبيل البحث والتأمل، تثبيتاً لدعائم الايمان وتزكية للفطرة التي فطر الخالق سبحانه وتعالى الناس عليها.

أدلة التوحيد عند أهل البيت(عليهم السلام):
يوضح الكاتب بعض ما قاله أهل البيت(عليهم السلام) بشأن التوحيد فيقول:
ان المتأمل في امهات كتب الامامية الاثنى عشرية، يلاحظ اهتماماً بالغاً ما انفك يوليه ائمة أهل البيت(عليهم السلام) لكل ما يتعلق بالدين عقيدة وشريعة. ولقد جاء من آثارهم ما اظهر تصديهم لكل دخيلة عن الدين أو مارقة منه، حتى إنهم كانوا يتحسسون مواضع الداء قبل استفحاله، ففي يوم الجمل مثلا وقف أمير المؤمنين(عليه السلام) يرد على رجل من جنده عندما سأله قائلا: “اتقول ان الله واحد؟ فحمل الناس عليه وقالوا يا اعرابي أماترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): دعوه فان الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. قال: يا اعرابي ان القول ان الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منهما لا يجوزان على الله عزوجلّ ووجهان يثبتان فيه.
فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا ما لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد، أماترى انه كفر من قال ثالث ثلاثة، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس الوجهان فهذا ما لا يجوز عليه، لانه تشبيه وجل ربنا وتعالى عن ذلك، اما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الاشياء شبيه كذلك ربنا عزوجل، وقول القائل إنه ربنا عزوجل، احدي المعنى، يعني انه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل”(1).
ومن هذا النص نستشف أن أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يكن في حروبه الثلاثة التي الجيء إليها، مدافعاً عن مركزه كإمام المسلمين أو عن سلطته كولي امورهم. وانما خرج ليدفع عن الدين ما بدا يعتريه من دخيل عليه وغريب عنه. فقوله(عليه السلام): “دعوه فان الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم” دليل على ان وقائع الجمل وصفين والنهروان كانت كلها حروب تصحيحية. مصداقاً لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله): ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فقيل مَنْ يا رسول الله؟ فقال: خاصف النعل في الحجرة وكان علي بن أبي طالب يخصف نعل رسول الله في حجرته(2).
ومثلما سلك الإمام(عليه السلام) في الاستدلال على الخالق والتعريف به، بحيث لا يتطرق إلى أقواله تحريف أو تأويل. سلك الأئمة الهداة من بنيه(عليهم السلام) في الذب عن أركان الدين كلما سنحت لهم بذلك. فرصة: فكانوا على مرّ العصور حماة الدين. ورعاة آثار وتراث الرسول(صلى الله عليه وآله)، المبلغ عن رب العالمين، بما استودعوه من علوم صحيحة وأفكار متطابقة صريحة، سأقتصر منها على قلة المراجع التي بحوزتي ما طالته يدي من مأثور أقوالهم ومستصفى آرائهم التي هي امتداد من مركز النبوة، وهدى من نور الامامة، فهذا أبو عبدالله الحسين بن علي سيد الشهداء(عليه السلام) يقول في دعاءه الشهير في عرفة الذي أرهفت له آذان السامعين وتحيرت له عقول الحاضرين، وهزّ نياط قلوب المؤمنين بما حواه من سبحات القدس ولواعج الأنس:
“كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً..”(3).
قوله(عليه السلام) عميت عين لا تراك اشارة لطيفة إلى بصيرة النفس لا إلى بصر العين لاستحالة رؤية المولى سبحانه وتعالى بالعين.
وتعددت ادلة الائمة من أهل بيت النبوة(عليهم السلام) في اثبات وجود الخالق وبيان معنى صفاته فجاءت متنوعة ومتفاوتة المعاني على مقدار عقول السائلين.
جاء رجل إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام). فقال له: دلني على معبودي: فقال له اجلس. وإذا غلام له صغير وفي كفه بيضة يلعب بها. فقال(عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة، فناوله اياها فقال: يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المايعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المايعة. فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها. ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للانثى تنفلق عن مثل الوان الطواويس. اترى لها مدبراً؟ قال فاطرق ملياً ثم قال: اشهد ان لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمداً عبده ورسوله، وانك امام حجة من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه(4).
وقيل للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يابن رسول الله: ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال له(عليه السلام): انك لم تكن ثم كنت، وقد علمت انك لم تكون نفسك ولا كونك من هو مثلك”(5).
وسُئل أمير المؤمنين(عليه السلام): بماذا عرفت ربك. قال بفسخ العزائم ونقض الهمم، لما هممت فحيل بيني وبين همي، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي علمت ان المدبر غيري(6).
وعن إثبات الصانع قال(عليه السلام): البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، واثر القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة، لا يدلان على اللطيف الخبير(7).
وتفرّد الائمة من أهل بيت النبوة(عليهم السلام) في الاستدلات العقلية والاجوبة المنطقية في التوحيد وغيره من عقيدة الإسلام، مضافاً إلى سبرهم لأغوار الوحي ونيلهم العلوم الإلهية ما فاض على اتباعهم، معارف وحقائق جعلتهم على بصيرة من أمرهم، وجعلت غيرهم من المتنكبين عنهم في حيرة يعبدون الله على حرف أو دونه.

كلام الامام الرضا(عليه السلام) في التوحيد:
للإمام علي بن موسى الرضا ثامن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مناظرات واحتجاجات، ودروس ومحاضرات في شتى العلوم الإلهية، فيها من الأجوبة الشافية والردود الكافية ما قصم به ظهر الباطل واعاد الحق إلى نصابه، فقد جاء عنه(عليه السلام) في التوحيد:
عن محمد بن عبدالله الخراساني خادم الرضا(عليه السلام) قال: “دخل رجل من الزنادقة على الرضا(عليه السلام) وعنده جماعة فقال لأبي الحسن(عليه السلام): أرأيت أن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا واياكم شرع سواء ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا واقررنا فسكت فقال أبو الحسن(عليه السلام): وان يكن القول قولنا وهو قولنا وكما نقول ألستم قد هلكتم ونجونا؟ قال: رحمك الله فأوجدني كيف هو وأين هو؟ قال ويلك ان الذي ذهبت إليه غلط وهو أيّن الأين وكان ولا أين، وكيّف الكيف وكان ولا كيف، فلا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء، قال الرجل: فإذا انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس، فقال أبو الحسن(عليه السلام): ويلك لمّا عجزت حواسك عن ادراكه انكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه ايقنّا أنه ربنا وأنه شيء بخلاف الأشياء قال الرجل: فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن(عليه السلام): فأخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان؟ قال الرجل: فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن اني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت ان لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وانشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت ان لهذا مقدّراً ومنشأ، قال الرجل: فلم احتجب؟ قال أبو الحسن: ان الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم فأما هو فلا يخفى عليه خافية في أناء الليل والنهار، قال: فلم لا تدركه حاسّة الأبصار؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تحركهم حاسّة الأبصار منهم ومن غيرهم ثم من أجلّ من أن يدركه بر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل قال: فحدّه لي، قال: لا حدّ له قال ولم؟ قال: لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّىء ولا متوهم.. إلى آخر الحديث.
حدّثنا علي بن الحسن بن الفضال عن أبيه قال: سألت الإمام علي ابن موسى الرضا(عليه السلام) في قوله الله عزوجل: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـئِذ لَّمَحْجُوبُونَ)(المطففين: 15) فقال: ان الله تعالى لا يوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده ولكنه يعني انهم عن ثواب ربهم محجوبون قال وسئلته عن قول الله عزوجل: (وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر: 222) فقال: ان الله تعالى لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال انما عني بذلك وجاء أمر ربّك والملك صفّاً صفا. قال: وسألته عن قول الله عزوجلّ هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة. قال: يقول هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بالملائكة في ظل من الغمام. قال: وسألته عن قوله تعالى: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) (التوبة: 79) وعن قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة: 15) وعن قوله (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ) (آل عمران: 544) وعن قوله:(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (النساء: 1422) فقال ان الله تعالى لا يسخر ولا يستهزىء ولا يمكر ولا يخادع ولكنه يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
عن الحسن بن سعيد عن ابي الحسن الرضا(عليه السلام) في قوله عزوجل: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) (القلم: 422) قال حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنين سجداً. وتدمج اصلاب المنافقين لا يستطيعون السجود.
منها قول القائل: كشفت الحرب عن ساق أي اظهرت نتيجتها.
عن محمد بن عبيدة قال: سألت الرضا(عليه السلام) عن قول الله عزوجل لابليس: (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (ص: 755) قال(عليه السلام): “يعني بقدرتي وقوتي”.
عن الحسين بن خالد قال قلت للرضا(عليه السلام): “يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ان الناس يروون ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال (ان الله عزوجل خلق آدم على صورته) فقال: قاتلهم الله وقد حذفوا أول الحديث ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) مرّ برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه: (قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال(صلى الله عليه وآله): يا عبدالله لا تقل هذا لاخيك فان الله عزوجل خلق آدم على صورته) فيكون الضمير عائداً على الرجل الذي وقع عليه السب.
عن الحسين بن خالد قال قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام): يا ابن رسول الله ان قوماً يقولون: لم يزل الله عالماً بعلم قادر بقدرة حياً بحياة قديماً بقدم سميعاً بسمع بصيراً ببصر. قال(عليه السلام): من قال ذلك ودان به فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى وليس من ولايتنا على شيء ثم قال(عليه السلام): لم يزل عزوجل عليماً قديراً حياً سميعاً بصيراً لذاته تعالى عما يقول المشركون والمشبهون علواً كبيراً.

التوحيد عند غير أهل البيت(عليهم السلام):
لا يمكننا اظهار صحة ما نحن عليه من توحيد سليم إلاّ بعرض ما يعتقده غيرنا من المسلمين. فنقول أما المنحرفون عن ولاية الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام)، فقد ذهبت بهم مذاهبهم إلى تبني معتقدات أساسها الكذب على الله تعالى وعلى رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله)، بما ابتدعه لهم علماؤهم وفقهاؤهم، وما زكاه حكامهم لهم من أباطيل لو ثابوا إلى رشدهم منها لبكوا على ما فرطوا في جنب الله تعالى، ولضحكوا على تفاهة عقول مبتدعيها ومنتحليها، وأي بناء لا يكون أساسه سليماً مآله السقوط. والعقيدة التي اختلط فيها الغث بالثمين والسقيم بالسليم لا يمكن أن تفرز بعداً غيبياً وتواصلا إلهيّاً، وهي أقرب إلى الجهالة منها إلى المعرفة. وإلى النفرة منها إلى الحب.
والمتتبع لجملة الأحاديث التي أوردها هؤلاء في اثبات جسمانية الخالق وتفاصيل اجزاءه وجلوسه ونزوله وتنكره وضحكه ورؤية المؤمنين له يوم القيامة يلاحظ اصرار غريباً من حفاظهم على نقل تلك المفتريات المتعارضة مع القرآن.
ومع غيرها من الروايات والتي لا يقبلها عقل سليم لم يصب بلوثة التجسيم والرؤية.
ثم تراهم يحثون اتباعهم على التدين بها حثاً ويحرمون عليهم معارضتها أو حتى مجرد التشكيك في مدى صحتها فلم ينشأ بينهم غير التعصب الأعمى والتدين الأعرج وتولدت فيهم جراء تلك الروايات الفاسدة عقيدة عقيمة وتوحيد اقرب للوثنية وآلهة الأغريق القدامى منه إلى توحيد الحق تعالى وحلت الخرافة في الدين محل العلوم الالهية، والقصاصون محل العلماء حتى عجت كتبهم بها ومع ذلك لا يتحرجون ولا يتأثمون منها طالما انهم يعتقدونها من اقوال رسول الله(صلى الله عليه وآله)وبما انني اتحدث عن مقام واحد منها فقد اخرجت ما هو متعلق بالتوحيد فقط على أن يكون لكل باب من بقيتها مقام ومقال:
اخرج البخاري ومسلم وغيرهم من حفاظ العامة ما يلي:
1 ـ عن صهيب عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: إذا ادخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئاً ازيدكم؟ فيقولون الم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئاً أحب إليهم من ربهم عزوجل(8).
2 ـ عن أبي هريرة اخبر ان أناساً قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله): يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فانكم ترونه كذلك(9).
3 ـ عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال يد الله ملآى لا يغيضها نفقة سعاء الليل والنهار وقال: أرأيتم ما انفق منذ خلق الله السماوات والأرض فانه لم يغض ما في يده وقال: وعرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع(10).
4 ـ عن أبي هريرة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل فيقول: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟(11)
5 ـ في حديث طويل عن ابن مسعود جاء فيه.. قالوا “مم تضحك يا رسول الله قال: من ضحك رب العالمين”(12).
6 ـ وعن جابر بن عبدالله في حديث طويل… ثم يأتي ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون فيقولون: ننظر ربنا فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال: فينطلق بهم ويتبعونه(13).
7 ـ عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: خلق الله عزوجلّ آدم على صورته طوله ستون ذراعاً…(14)
هذه الروايات وغيرها تؤيد الرأي العام المتداول عند تلك الطائفة في أن الخالق تعالى عن ذلك جسماً وجعلوا له صفات وقالوا بأنها غير ذاته وان له اعضاء كاليدين والوجه والعينين والرجل وانه ينزل ويأتي ويضحك ويتنكر إلى غير ذلك من السفسطات والسخافات.

توحيد الادعياء:
قد سلك الجاحدون للامامة الشرعية والمنحرفون عن الائمة الهداة عليهم وعلى جدهم ازكى السلام وأفضل الصلاة وهم الوهابية اتباع محمد بن عبدالوهاب، فقد سلكوا مسلك أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم واتباعهم حينما ادعوا بأنهم هم الموحدون حقاً وغيرهم من المسلمين مشركون، وأن توحيدهم لله هو التوحيد الصحيح الذي تنبني عليه عقيدة الإسلام، والمتصفح لكتبهم ككتاب التوحيد لابن عبدالوهاب، والعقيدة الحموية والواسطية وغيرها وهي رسائل لابن تيمية يقف على مدى بطلان عقيدتهم وفساد رأيهم وتفاهة عقولهم، فان الذي يثبت لله تعالى جهة الفوق والنزول والمجيء والقرب والوجه واليدين والأصابع والعينين بمعانيها الحقيقية دون تأويل، مختل الاعتقاد وفاسد التوحيد.
ولم يقفوا عند ذلك الحد في تطاولهم السخيف بل راحوا يستنكرون ويشنعون على كل من قال بتنزيه المولى عن كل نقص، ولم تكن ارهاصاتهم ولا شطحاتهم تلك وليدة استنتاج علمي أو بحث فكري، حتى تصنف في خانة الاجتهاد وإنما هو دليل يخرج به كل ذي بصيرة بعد إطلاعه عليها يعبّر على سطحية وضحالة علوم كل من تبنى عقيدة هؤلاء الذين اطلق عليهم طواغيت العصور الغابرة أهل السنة والجماعة وهم للبدعة أقرب وأولى بالتسمية. فعن أي سنة يتحدثون؟ إن كانت سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأهل بيته الذين أذهب عنهم المولى سبحانه وتعالى الرجس وطهرهم تطهيرا وقرنهم جدهم بالكتاب العزيز أولى عقلا ونقلا. وسيرهم تنبئك عن حالهم، ولو ردّ هؤلاء إليهم ما التبس من دينهم لوجدوا عندهم ما يشفي صدورهم ويجعلهم على بصيرة من أمرهم، وإن كانت سنة أخرى كالذي أدخله بنو أمية في الدين فإنها لا تغني عن الحق شيئاً.

طريقان لا ثالث لهما:
يوجه الكاتب خطابة إلى المسلمين، ويقول:
أخي المسلم لا شك أن الدين قد مرّ قبل وصوله إلينا بقنوات مشبوهة كان لها أثر كبير في تحريف ما وصل إلينا منه، وقد تضررت عقيدة السواد الأعظم من المسلمن بما علق بها من أكاذيب وتآويل خاطئة، وقد حان الوقت لنستأصلها ونعيد الحق إلى نصابه والدرّ إلى معدنه بالعود الى المستحفظين على كتاب الله والناطقين عنه وثقله كما أحالنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) من قبل بقوله: “تركت فيكم الثقلين ما ان تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما”.
والمعتصم بهم آمن من الزيغ والانحراف بمنأ التناحر والاختلاف محفوظاً في كنف المولى من الانصراف إلى أئمة النار وحزب الشرّ والأشرار أتباع الشيطان وأوليائه من الدعاة إلى التعبد بالشك والظنّ. والآن ليس امامك غير طريقين لا ثالث لهما فأما أن تعبد الله الحق اله الأنبياء والمرسلين اله محمد وآله الطاهرين (صلى الله عليه وآله). الذي لا يتجزّء ولا يتحيّز ليس كمثله شيء ولا يرى في الدنيا والآخرة ذو الصفات التي لا تحصى وهي ذاته المقدّسة، او أن تعبد هذا الذي يعرضه عليك هؤلاء والذي هو على صورة آدم، وان قالوا بلا كيف فقد كيفوا نتيجة انصرافهم عن آل طه وانحرافهم عن الراسخين في العلم.
نسأل الله تعالى ختاماً أن يلزمنا كلمة التقوى، ولا يحيد بنا عن صراطه المستقيم، ولا يباعد بيننا وبين أوليائه الذين اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، ويهدي أمة الإسلام بالرجوع اليهم بعد قرون التيه والضياع انه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.

(1) نهج البلاغة.
(2) أحمد في المسند، المتقي الهندي في كنز العمال، محب الدين الطبري في الذخائر.
(3) دعاء الامام الحسين بعرفه، حق اليقين، عبدالله شبر: 1 / 40.
(4) حق اليقين، عبدالله شبر: 1 / 32.
(5) نفس المصدر.
(6) نفس المصدر.
(7) نفس المصدر: 1 / 33.
(8) اخرجه مسلم: 1 / 112.
(9) مسلم: 1 / 114.
(10) اخرجه البخاري في تفسيره سورة هود، ومسلم في الزكاة.
(11) اخرجه البخاري في باب التهجد باب الدعاء والصلاة في آخر الليل ومسلم في صلاة المسافرين.
(12) مسلم: 1 / 120.
(13) مسلم: 1 / 122.
(14) صحيح مسلم: 8 / 149.