المذهب الحنفي

عنوان المقالة: المذهب الحنفي تاريخه، أصوله وتوزعه الجغرافي.

الكاتب: مروان خليفات.

الحمدلله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

يُعتبر المذهب الحنفي من أشهر المذاهب الإسلامية الأربعة، وهو ينتشر في : أذربيجان، أفغانستان، ألبانيا، أوزبكستان، باكستان، بنغلادش، البوسنة والهرسك، تركمانستان، تركية، طاجيكستان، قازاخستان، مكدونية، وللمذهب الحنفي انتشار أيضا في العراق ومصر ودول أخرى. على أن عقيدة أتباعه أشاعرة وماتريدية.

نبذة عن أبي حنيفة

يُنسب المذهب إلى النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان المعروف بأبي حنيفة، وهو فارسي الأصل، ومذهبه أقدم المذاهب الأربعة وأسنها، ، ولد أبو حنيفة سنة 80 للهجرة في الكوفة، وتوفي سنة 150 للهجرة. كان في أول حياته يعمل بالتجارة، وفي الوقت نفسه يتردد على حلقات العلم، كانت الكوفة  ـ عاصمة الأمام علي (ع) سابقا تموج بكثير من الأفكار، فبسبب تواجد المدارس الكلامية فيها وفي البصرة، اتجه لدراسة علم الكلام، وكان يناظر المعتزلة والخوارج، نشأ أبو حنيفة في عصر كثُر فيه المحدثون، ، فاتجه إلى التعمق في استخراج المسائل وتبيين الاحتمالات، وكون لنفسه وأصحابه مدرسة عُرفت بمدرسة أهل الرأي، اصطدمت فيما بعد مع أهل الحديث نظرا لاختلافهم في المنهج، حتى أن البخاري أشار إلى أبي حنيفة في صحيحة  بعبارات مثل: قال البعض 27 مرة للطعن والرد عليه.

درس أبو حنيفة عند كثير من العلماء، ويرى البعض أنه أخذ العلم عن الأمام جعفر الصادق ع. قال الآلوسي في (( مختصر التحفة الأثني عشرية ص 9) : ( هذا أبو حنيفة وهو من أهل السنة يفتخر ويقول بأفصح لسان : لولا السنتان لهلك النعمان ، يعني السنتين اللتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام جعفر الصادق )

راجع أيضا: ( مطالب السؤول ص218) ابن طلحة الشافعي. (المذاهب الإسلامية الخمسة تأريخ وتوثيق) بحث الدكتور محمد وفاريشي. و ( بين السنة والشيعة ص 204) الدكتور محمد  شريف الصواف. ( أئمة الفقه التسعة ج2 ص 90) الشرقاوي (أطلس الفرق والمذاهب الإسلامية ص 78) شوقي أبو خليل.

لازم أبو حنيفة حلقة حماد بن أبي سليمان الأشعري ( ت 120هجري) لمدة ثمانية عشر سنة، وكان حماد أبرز أساتذته، وحين مات جلس أبو حنيفة مكانه، واستقطب الكثيرين ممن أعجبهم منهجه المخالف لمنهج أهل الحديث. خلال هذه الفترة وبعد وفاة حماد بدأت آراء أبي حنيفة تنتشر، من خلال حلقاته ومن خلال تلامذته وأصحابه، ويُروى أن أبا حنيفة كان مؤيدا لثورة زيد بن علي والنفس الزكية مما ألب عليه العباسيون، فحاولوا استقطابه وربما أرادوا اختباره بعرض منصب القضاء عليه، لكنه رفض عروضهم التي تكررت عدة مرات، فسجنوه، ومات في السجن.

بعد وفاة أبي حنيفة انتشر المذهب عن طريق أصحابه خاصة أبو يوسف الذي تولى منصب قاضي القضاة، فكان لا يولي قاضيا إلا إذا كان حنفي المنهج، وهذا ساعد كثيرا على انتشار المذهب الحنفي.

ضعف أبي حنيفة عند المحدثين

طعن أكثر علماء الحديث في حفظ أبي حنيفة وضعفوه. قال ابن عبد البر في (الانتقاء: ص 150) : ” وممن طعن عليه وجرحه محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه الضعفاء والمتروكين: أبو حنيفة النعماني بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد: حدثنا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ سمعنا سفيان الثوري يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، وقال نعيم الفزاري: كنت عند سفيان بن عيينة، فجاء نعي أبي حنيفة، فقال: كان يهدم الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود شر منه. هذا ما ذكره البخاري ” .

وقال الألباني في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 465 عند حديث رقم: 458) :  ” إن الإمام (رحمه الله) – يقصد أبا حنيفة – قد ضعفه من جهة حفظه :البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن عدي، وغيرهم من أئمة الحديث ” ثم ذكر أقوالهم . وقد تكلم العلماء كثيرا في أبي حنيفة وانتقدوه، وأكثر هذه النقولات أوردها الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد، وأورد أقوال أخرى عبدالله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة) وقد رد محمد زاهد الكوثري على البغدادي في كتابه ( تأنيب الخطيب) ورد على الكوثري المعلمي السلفي في كتاب( التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)

وظهرت أقوال وأحاديث كثيرة ترفع من شأن أبي حنيفة ولعلها جاءت ردا على أولئك الطاعنين فيه، أو ظهرت في عصور الصراع المذهبي. فمما رووا أ ن النبي (ص) قال فيه: (يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ) (يكون في أمتي رجل يقال له النعمان بن ثابت يكنى بأبي حنيفة يحيي الله به سنتي)

راجع لمناقشة هذه الأقوال : ( الأمام الصادق والمذاهب الأربعة) أسد حيدر، ج 1

من عقائد أبي حنيفة:

يمكن الرجوع إلى متن العقيدة الطحاوية للتعرف على عقيدة أبي حنيفة ، وقد شرحت عدة شروح، ولكن الملفت أن أكثر من واحد قد نسب أبا حنيفة إلى المرجئة، والمرجئة : بضم فسكون وكسر الجيم. اسم فاعل من أرجأ ، وأرجاء. فلان الامر: أخره (فرقة تعتقد أنه لا يضر مع الايمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة )(معجم لغة الفقهاء – محمد قلعجي – ص 421)

قال الشهرستاني في (الملل والنحل ج 1 – ص 139) : ( المرجئة الارجاء على معنيين أحدهما بمعنى التأخير كما في قوله تعالى  ( قالوا أرجه وأخاه ) اى امهله واخره والثاني اعطاء الرجاء اما اطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد واما بالمعنى الثاني فظاهر فإنهم كانوا يقولون لا تضر مع الايمان معصية كما لا تنفع مع الكفر الطاعة… )

ثم قال الشهرستاني (ج 1 ص 141 – 142 ): ( وعده ـ أي أبا حنيفة ـ  كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة)

وقال فيه البخاري في (التاريخ الكبير ج 8 ص 81) :  نعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي مولى لبني تيم الله بن ثعلبة روى عنه عباد بن العوام وابن المبارك وهشيم ووكيع ومسلم بن خالد وأبو معاوية والمقري كان مرجئا سكتوا  عنه )

قال ابن حبان في كتابه ( المجروحين ج 3 – ص 63 – 70) : (وكان رجلا جدلا ظاهر الورع لم يكن الحديث صناعته ، حدث بمائة وثلاثين حديثا مسانيد ماله حديث في الدنيا غيرها أخطأ منها في مائة وعشرين حديثا . إما أن يكون أقلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الاخبار . ومن جهة أخرى لا يجوز الاحتجاج به لأنه كان داعيا إلى الارجاء والداعية  إلى البدع لا يجوز أن يحتج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافا على أن أئمة المسلمين وأهل الورع في الدين في جميع الأمصار وسائر الأقطار جرحوه وأطلقوا عليه القدح إلا الواحد بعد الواحد ، قد ذكرنا ما روى فيه من ذلك في كتاب ” التنبيه على التمويه ” فأغنى ذلك عن تكرارها…)

قال الأشعري في (مقالات الإسلاميين) : والفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون ان الايمان المعرفة بالله والاقرار بالله والمعرفة بالرسول والاقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير)

قال السيد عبد القادر الجيلاني في (غنية الطالبين) حين ذكر الفرق الضالة : (أما المرجئة ففرقها اثنتا عشرة فرقة، الجهمية، والصالحية، والشمرية، واليونسية، والثوبانية، والنجارية، والغيلانية، والشبيبية، والحنفية، والمعاذية، والمريسية، والكرامية… وأما الحنفية فهم أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، زعموا أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله، وبما جاء من عنده جملة …)

إلا أن المتحمسين لأبي حنيفة لم يقبلوا بهذه التهمة وعدوا عقيدة أبي حنيفة في الأرجاء من عقيدة أهل السنة والجماعة فهو من مرجئة الفقهاء كما ذكروا، ولم يقيموا دليلا على دعواهم هذه، فلو كان أبو حنيفة من مرجئة الفقهاء، وكانت عقيدته تمثل عقيدة جمهور المسلمين،  فلما ينقده المتقدمون كالبخاري وابن حبان ـ الذي جعله من الدعاة إلى بدعة الأرجاء ـ ؟!

فإن كانوا قد افتروا عليه، فالمفروض أن لا تؤخذ أقوالهم في الجرح والتعديل !

ومن آراء أبي حنيفة بخصوص مسألة التفضيل أنه كان يقول: ( علي أحب إلينا من عثمان)

(مناقب أبي حنيفة ص 443) للمكي.

وحين سألوه عن القتال يوم الجمل، أجاب: ( سار علي ـ عليه السلام ـ فيه بالعدل، وهو الذي علم المسلمين قتال أهل البغي)

( مناقب أبي حنيفة ص 345) للكردري.

ويُروى أنه كان مناصرا لثورة زيد بن علي رضوان الله عليه إذ أرسل له عشرة آلاف درهم.

( مناقب أبي حنيفة ص 267) للكردري.

أشهر ما تفرد به أبو حنيفة من فقه

هناك مسائل فقهية عديدة تفرد بها أبو حنيفة وصارت معروفة في الفقه الحنفي عند سائر المذاهب الأخرى، منها:

1ـ  العفو عن مقدار درهم من النجاسات ( المبسوط للسرخسي ج1 ص 60)

2ـ جواز التوضؤ بالمائعات (ومنها النبيذ) ( الحاوي الكبير ج1ص 100)

3ـ الخروج من الصلاة بما ليس منها ( المبسوط ج1 ص 170)

4ـ كل إهاب يطهر بالدباغ ( ومنها جلد الكلب) ( المحلى ج1 ص 122) ( المبسوط ج1 ص 202)

5ـ إن للمرأة ولاية النكاح ( أحكام القرآن، للجصاص ج1 ص 546)

6ـ طهارة الخمر بالمعالجة ( المجموع شرح المهذب ج2 ص 564)

لقد اشتُهر الفقه الحنفي على أنه فقه تقديري أو افتراضي، حيث كان أبو حنيفة وأصحابه يفترضون مسائل لم تحدث ويجيبوا عليها، كما أن الحنفية تميزوا عن غيرهم بفقه الحيل، للتخلص من بعض المشكلات التي يقع فيها الناس.

 

مراحل تأسيس المذهب وأشهر كتب الحنفية

المرحلة الأولى: وكانت على يد أبي حنيفة، حين خلف شيخه حماد سنة 120 هـ ، وجلس مكانه للإفتاء. ووضع أسس وضوابط  منهجه في الإفتاء.

المرحلة الثانية: تقريرات أصحابه.

1ـ وأشهرهم أبو يوسف قاضي الدولة العباسية، الذي ما كان يعين قاضيا أو مفتيا إلا أن يكون حنفيا، وأبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ( 113ـ 182 هـ) وقد صحب أبا حنيفة سبع عشرة سنة كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه( 14/ 252 ) وله الفضل الأول في انتشار المذهب وتقريره. فهو أول من صنف الكتب في المذهب الحنفي. ولأبي يوسف كتب منها: (الآثار) ( كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ) إذ درس سابقا عند أبي ليلى، وله أيضا: كتاب (الخراج )، وكتاب( الرد على سير الأوزاعي) 0

2ـ  محمد بن الحسن وهو أبو عبد الله ، محمد بن الحسن الشيباني ( ت 189 هـ) ألف محمد بن الحسن : المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والجامع الكبير. وهذه الكتب معروفة في المذهب بكتب ظاهر الرواية.

وهناك كتب ألفها محمد بن الحسن وتُعرف بكتب غير ظاهر الرواية، وهي :الحجة على أهل المدينة ،الرقيات ،النوادر، الجرجانيات ، الهارونيات.

ومن أصحاب أبي حنيفة الذين نشروا المذهب في هذه المرحلة زفر بن الهذيل  ( ت 158هـ )  والحسن بن زياد اللؤلؤي ( ت 204)

المرحلة الثالثة : وتمتد من بعد المرحلة الثانية حتى سنة 710 هـ .وهي سنة وفاة الأمام عبدالله بن أحمد النسفي صاحب كتاب (كنز الدقائق)، حيث انتشر المذهب خلال هذه الفترة بالإضافة لبلاد ما وراء النهر، انتشر في مصر والشام. وكان الحنفية خلال هذه المرحلة يعتمدون ما ذُكر عن أبي حنيفة  وأصحابه الأربعة، فاذا اتفقوا في مسألة أخذ الحنفية بها.

وأما اذا اختلفوا فأن أمكن التوفيق بين الأقوال على وجه يصح ، فهذا هو المقدم والمعتمد على عند الجمهور. راجع (رد المحتار 2/4)  0لابن عابدين

وإذا ما أمكن التوفيق فالمشهور المعتمد أنه إن كان مع الإمام صاحباه فهو المعتمد وإن خالف زفر والحسن بن زياد ،

وأما إن كان بخلاف ذلك فالمعتمد قول أبي حنيفة ثم قول أبي يوسف ثم محمد ثم زفر والحسن بن زياد .

وإذا لم يرد عن الإمام وأصحابه شيء في مسألة ما، فالمجتهد يخرج الواقعة على مذهب إمامه ولو كان مستقلا فيه ، وقد قرره ابن عابدين في ( شرح رسم المفتي)0

وقد تم خلال هذه المرحلة تأليف كثير من كتب الفقه الحنفي ما بين مختصرات وشروح وحواشي ، منها : (مختصر الإمام أبي جعفر الطحاوي) المتوفى سنة 321 هـ.

(الكافي) للحاكم الشهيد محمد بن محمد المتوفى سنة 334هـ حيث جمع فيه مع اختصار الكتب الستة للشيباني المسماة بـ “ظاهر المذهب” وهو من الكتب المهمة في المذهب.

وتوالت الكتب بعد هذه المرحلة ومن أهم الكتب التي ألفوها لاحقا :

ـ المبسوط: للسرخسي المتوفى في حدود سنة 490هـ، وهو شرح على كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وفيه الانتصار للمذهب بالأدلة مع ذكر الخلاف في المذهب بين إمام المذهب وصاحبيه وزفر و الحسن بن زياد، وكذا في مسائل كثيرة خالفوا بها مالكا والشافعي. يقع الكتاب في ثلاثين مجلدا. ويُقال أنه كتبه لتلاميذه وهو في جُب.

ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للكاساني المتوفى سنة 587هـ، وهو شرح على كتاب تحفة الفقهاء ، لعلاء الدين السمرقندي، يتميز بذكر الخلاف بين أئمة المذهب مع خلاف مالك والشافعي في مسائل كثيرة، وقد طُبع في سبعة أجزاء.

ـ الهداية: للمرغنياني، 593هـ، وهو شرح على بداية المبتدي له

ـ تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: للزيلعي المتوفى سنة 743هـ، وفيه يذكر الخلاف بين أئمة المذهب مع ذكر خلاف الشافعي كثيرًا ومالك أحيانًا.

ـ فتح القدير: لابن الهُمام، المتوفى سنة 861هـ، وهو شرح وتعليق مفصل على كتاب الهداية في ستة مجلدات.

ـ البحر الرائق: لابن نجيم، المتوفى سنة 970هـ، وهو شرح على “كنز الدقائق” للنسفي،

ـ الأشباه والنظائر” لابن نجيم المتوفى سنة 970هـ  وهو في قواعد الفقه عند الحنفية.

ـ رد المحتار على الدر المختار: لابن عابدين المعروف بالحاشية، المتوفى سنة1252 هـ، في خمسة مجلدات، وهو حاشية على كتاب الدر المختار للحصكفي المتوفى سنة 1088هـ. وهو من أشهر كتب الحنفية المتأخرين.

وهناك كتب أخرى مشهورة

إن هذه المؤلفات وغيرها الكثير أسهمت في نشر المذهب الحنفي وازدهاره.

وفي ظل الدولة العثمانية التي تبنت المذهب الحنفي قامت بتقنين مواد الفقه الحنفي واستخراجه من بطون الكتب ليكون في متناول القانونيين ويستفيدوا منه، فصدرت مجلة الأحكام العدلية سنة 1293 هـ وقد حوت 1851 مادة من فقه المعاملات.

وحول انتشار المذهب الحنفي عبر التاريخ يقول محمد أبو زهرة في (تاريخ المذاهب الإسلامية ص 365):

 البلاد التي ذاع فيها المذهب الحنفي

انتشر المذهب الحنفي في كل بلد كان  للدولة العباسية سلطان فيه، وكان يخف سلطانه كلما خف سلطانها، غير أن بعض       البلاد تغلغل فيه بين الشعب، وبعض البلاد كان فيه المذهب الرسمي من غير أن يسود بين الشعب في العبادات… فكان في العراق وما وراء النهر والبلاد التي فتحت في المشرق  المذهب الرسمي، وكان مع ذلك مذهبا شعبيا، وإن نازعه في بلاد التركستان وما وراء النهر المذهب الشافعي في وسط الشعب. كانت المناظرات تجري بين الشافعية والحنفية، وكانت المآتم تحيا بالمناظرات الفقهية، فكانت هي العزاء. ومن المناظرات الفقهية المستمرة تولدت الأدلة المختلفة، فتولد عنها علم، ولم تتولد عنها عداوة. وإذا تركنا العراق وما وراءه  من بلدان المشرق نجد المذهب الحنفي يسود في الشام شعبا وحكومة حتى إذا جاء إلى مصر وجد المذهب المالكي والشافعي يتنازعان السلطان في الشعب المصري، فلما جاء المذهب الحنفي كان له سلطان رسمي ولكنه لم يكن له سلطان شعبي حتى جاءت الدولة الفاطمية فأزالت ذلك السلطان وأحلت محله المذهب الشيعي…)

راجع  مقدمة كتاب  (رد المحتار على الدر المختار) لابن عابدين

 

كتب أصول الفقه الحنفي

ولا نقصد استقصاء جميع الكتب، ولكن نذكر أشهر هذه الكتب

ـ أصول الشاشي ( ت 344 هـ) وهو من أقدم كتب الحنفية في الأصول، ولا يزال يُدرس في بعض المراكز الدينية.

ـ الفصول في الأصول، أبو بكر الجصاص ( ت 37هـ) وقد جعله الجصاص مقدمه لكتابه أحكام القرآن.

ـ أصول البزدوي ( 482هـ) لأبي الحسن علي البزدوي ( كنز الوصول إلى معرفة الأصول) وقد شرحه الكثيرون.

ـ أصول السرخسي ( توفي حدود 490 هـ)  صاحب المبسوط

ـ المنار لأبي البركات النسفي ( 710هـ) اختصر فيه أصول البزدوي، وأصول السرخسي.

ـ مسلم الثبوت، محب الدين البهاري (ت 1119هـ)

كتب تراجم الحنفية

هناك كتب مشهورة في ترجمة أئمة الحنفية منها: الجواهر المضية للقرشي، الطبقات السنية للتميمي.، كتاب الفوائد البهية للكنوي. أعلام الأخيار للكفوي ( وهو مخطوط)

من اصطلاحات الفقه الحنفي وأصوله

التخريج : يقصد به استنباط أحكام الواقعات التي لم يعرف لأئمة المذهب آراء فيها ، وذلك بالبناء على الأصول العامة التي بني عليها الاستنباط في المذهب .

ثانيا : الترجيح :

وهو بيان الراجح من الأقوال المختلفة لأئمة المذهب أو الروايات المختلفة عنهم .

من الألفاظ  الدالة على الإفتاء : قولهم : وعليه الفتوى وبه يفتى. وبه نأخذ  وعليه الاعتماد . وعليه عمل اليوم ،وعليه عمل الناس في الزمن الحاضر أو المعاصر .

وعليه عمل الأمة  وهو الصحيح  أو الأصح أو الأظهر .

أو الأشبه ؛ ومعناه : الأشبه بالنصوص رواية ، والراجح دراية فيكون عليه الفتوى .

أو الأوجه ؛ ومعناه : الأظهر وجها من حيث إن دلالة الدليل عليه متجهة ظاهرة أكثر من غيره

أو المختار : قال الحصكفى : قال شيخنا الرملى فى فتاويه : ” وبعض الألفاظ آكد من بعض ، فلفظ الفتوى آكد من لفظ الصحيح والأصح والأشبه وغيرها ، ولفظ وبه يفتى آكد من الفتوى عليه ، والأصح آكد من الصحيح ، والأحوط آكد من الاحتياط ” .

أقسام الحكم التكليفي في المذهب الحنفي:

1ـ الصحيح : ما كان مشروعا بأصله ووصفه، أي ما استجمع أركانه وشروطه، فيُقال صلاة صحيحة وصوم صحيح.

2ـ الفاسد: عدم الصحة لخلل في شيء من شروطها وأركانها.

3ـ الباطل: عدم الصحة لخلل في شيء من شروطها وأركانها. والفاسد والباطل لهما المعنى نفسه في العبادات عند الحنفية.

4ـ الرخصة: وهي ما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام، لقصر الصلاة للمسافر.

5ـ العزيمة : وهي ما شُرع من الأحكام ابتداء غير متعلق بالعوارض، ويندرج تحتها الأقسام التالية:

أـ الفرض: وهو الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل قطعي، وهو نوعان فرض عين، وفرض كفاية.

ب ـ الواجب :الطلب الالزامي الذي قام عليه دليل ظني

ج ـ السنة : وهي الطريقة المسلوكة في الدين لا على وجه الفرض والوجوب ( ما ثبت عن النبي) وتنقسم إلى:

1ـ سنة مؤكدة: وهي التي تعلق بتركها كراهية أو اساءة مثل الأذان والإقامة والجماعة.

2ـ سنة غير مؤكدة: وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة أو اساءة مثل تطويل القراءة بالصلاة، والمشي واللبس والأكل، فالعبد لا يطالب بإقامتها ولا يأثم بتركها.

د ـ النفل : وهو ما شُرع زيادة على الفرائض والواجبات، وحكمه أنه يُثاب المرء على فعله ولا يُلام على تركه. وهو مرادف عندهم للمستحب والمندوب.

هـ ـ المباح : وهو ما استوى فعله وتركه في عدم الثواب والعقاب من أفعال المكلفين

وـ الحرام : ما ثبت النهي عنه بدليل قطعي.

زـ المكروه: ما كان تركه أولى من فعله ولم يُنه عنه بدليل قطعي. وهو نوعان:

1ـ المكروه كراهة تنزيه: وهو ما كان إلى الحلال أقرب.

2ـ المكروه كراهة تحريم :وهو ما كان إلى الحرام أقرب. إلا أنه نُهي عنه بدليل ظني.

مصطلحات فقهية وأصولية عند الحنفية والمراد منها

1ـ ( لا بأس ) : يكثر استعمالها في المباح وما تركه أولى ، لكنها قد تستعمل في المندوب .

2 ـ ( ويجوز ) : وتأتى بمعنى : ( يصح ) كإطلاق بعضهم على الصلاة المكروهة : جاز ذلك أو صح ، وتأتى أيضا بمعنى : ( يحل ) وقد تطلق ويراد منها ما لا يمتنع شرعا وحينئذ يشمل ذلك :المباح ، والمكروه، والمندوب، والواجب أي تكون في مقابلة المحرم .

3 ـ ( ينبغي ) : وقد غلب ( بفتح الغين واللام ) استعمال تلك في عرف المتأخرين في المندوبات ، وأما في عرف المتقدمين فقد استعملت استعمالا أعم من ذلك حتى تشمل الواجب أيضا .

2 ـ ( الواجب ) : هو ما ثبت بدليل ظني كخبر الواحد .

5 ـ ( الفرض ) : وهو ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه .

6 ـ ( المكروه تحريما ) : هو الذى طلب الشارع الكف عنه حتما بدليل ظني .

7 ـ ( المكروه تنزيها ) : هو الذى طلب الشارع من المكلف الكف عنه طلبا غير حتمي أو غير ملزم .

8 ـ ( الباطل ) : وهو الذى يرجع الخلل فيه لأصل الفعل أو العقد ، كأن يفقد ركنا من أركانه .

9 ـ ( الفاسد ) : هو ما كان الخلل فيه راجعا إلى صفة من الصفات مع توافر أركانه .

مصطلحات أعلام المذهب الحنفي :

1 ـ الإمام والإمام الأعظم وصاحب المذهب : ويُقصد به أبو حنيفة .

2 ـ الشيخان : ويُقصد بهما الإمام أبو حنيفة و أبو يوسف .

3 ـ الطرفان : وهما الإمام أبو حنيفة و محمد بن الحسن الشيباني.

شمس الأئمة: ويقصدون به السرخسي صاحب المبسوط.

أصحابنا: ويقصدون بها : أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن.

4 ـ الصاحبان : وهما أبو يوسف و محمد.

5 ـ الأئمة الثلاثة أو العلماء الثلاثة : وهم الثلاثة المتقدمين ، ويطلق عليهم أيضا لفظ ( أصحابنا ) .

6 ـ لفظ ( الثاني ) : ويراد به الإمام أبو يوسف .

7 ـ لفظ ( الثالث ) : ويراد به محمد بن الحسن .

8 ـ لفظ ( المشايخ ) : وهو يطلق على من لم يدرك الإمام أبا حنيفة من متفقهي مذهبه .

9 ـ لفظ ( قالوا ) : يستعمل فيما اختلف فيه المشايخ .

10 قولهم ( لــه ) : أي لأبي حنيفة.

11 ـ وقولهم ( لهمــا ) : أو عندهما ، أو مذهبهما ؛ أي مذهب الصاحبين .

12 ـ الرمز ( ح ) :  يشار به إلى الشيخ الحلبى ( ت1190هـ)  صاحب (تحفة الأخيار على الدر المختار)

الحرف (ز) ويقصدون به زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة.

الأصل : اذا ذكروه فيقصدون به كتاب المبسوط للسرخسي.

الأصول: وهي كتب محمد الشيباني المعروفة بكتب ظاهر الرواية، وقد ذكرناها سابقا.

الكتاب : ويريدون منه (مختصر القدوري) وهو متن فقهي مشهور .

وهناك مصطلحات كثيرة، لا يستطيع الدارس للمذهب الحنفي أن يستغني عن معرفتها. راجع للمزيد كتاب ( المذهب الحنفي) أحمد بن محمد نصير الدين النقيب) وكتاب ( الفتح المبين في حل رموز ومصطلحات الفقهاء والأصوليين) الدكتور محمد بن إبراهيم الحفناوي.

 

مصادر التشريع في المذهب الحنفي

ونعني بها المصادر التي كان يعتمد عليها أبو حنيفة في استنباط الأحكام، وقد صارت لاحقا معتمد المذهب الحنفي.

يبين لنا أبو حنيفة منهجه في استنباط الأحكام الشرعية بقوله :”إني آخذ بكتاب الله إذا وجدْتُه. فإن لم أجدْه فيه أخذتُ بِسُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والآثار الصِّحاح عنه التي فشَت في أيدي الثِّقات!. فإنْ لم أجِد في كتاب الله ولا سُنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أخذتُ بقول أصحابه مَن شئت، وأدَع قولَ مَن شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيْرهم. فإنِ انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن المسيِّب -وعدّد منهم رجالاً-، فلي أنْ أجتهد كما اجتهدوا”.

(تاريخ بغداد: ج13 ص 368)

فمصادره في الاستنباط هي : الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس والاستحسان والأجماع.

 

القرآن الكريم

وهو مرجع كل مسلم، ولا خلاف بين المسلمين في حجيته، ولكن تميز الحنفية عن غيرهم بعدة أمور:

ـ قولهم بحجية القراءة الشاذة ـ وهي ما نُقلت بغير التواتر ـ

ـ جواز القراءة في الصلاة بغير العربية عند أبي حنيفة للعاجز عن العربية والقادر عليها، خلافا لصاحبيه اللذين جوزاها في حق العاجز عن العربية فقط. وتعني هذه الفتوى أن القرآن عند أبي حنيفة اسم للمعنى فقط وليس للنظم والمعنى. ويُروى أن أبا حنيفة رجع عن هذه الفتوى. قال الدكتور محمد وفاريشي:( والذي يقطع برجوع الأمام عن قوله هذا أن أحدا لم يعمل به، لا من مقلديه، ولا من غيرهم) ( المذاهب الإسلامية الخمسة ص 258)

إن عدم العمل بهذه الفتوى لا يعني عدول أبي حنيفة عنها، فربما أخذ المقلدون بما اتفق عليه صاحباه وبقية الفقهاء، فهذا ليس دليلا على عدوله عن فتواه، نعم ما ذكروه في بعض الكتب الفقهية عن رجوع أبي حنيفة عن رأيه قد يصلح دليلا لتأييد هذا الرجوع.

السنة

وهي المصدر الثاني للتشريع عند جميع المسلمين، وتُقسم السنةـ حسب ما وصلتنا ـ إلى أخبار متواترة وأخبار آحاد. وما يميز المذهب الحنفي هو تشدده في قبول خبر الواحد، وقد اشترط الحنفية شروطا عديدة وشديدة لقبول الخبر، ومن ضمن شروطهم : عدم مخالفة خبر الواحد للكتاب والسنة المتواترة، وهذا الشرط يتوافق مع ما ورد عن أئمة أهل البيت (ع) في عرض الخبر على القرآن، ولعل أبا حنيفة استفاد هذا الشرط خلال دراسته على يد الأمام الصادق (ع)، الذي كان يدعو لعرض الحديث على القرآن. لقد أدى تشدد الحنفية في خبر الواحد إلى قلة الاعتماد على السنة ولجوئهم إلى القياس.

راجع  ( الفصول في الأصول ج1 ص195) الجصاص.

ومما يلفت الانتباه هو مخالفة أبي حنيفة غيره من الفقهاء والمحدثين في أخذ السنة عن جميع الصحابة، فقد كان يتوقف بأحاديث أبي هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب ولا يأخذ بها، وهذا أمر آخر شبيه لما روي عن الأمام الصادق(ع)

فقد قال (ع): ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أبو هريرة وأنس بن مالك وامرأة).

( بحار الأنوار ) ج 22 – ص 102.

فهل يمكن أن يكون أبو حنيفة قد تأثر وأخذ ببعض أراء الأمام الصادق(ع) أثناء دراسته عنده؟

روى المؤرخ ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ج 4  ص 68) عن أبي جعفر الأسكافي، قال روى أبو يوسف ، قال : قلت لأبي حنيفة : الخبر يجئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قياسنا ما تصنع به ؟ قال : إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي ، فقلت : ما تقول في رواية أبى بكر وعمر ؟ فقال : ناهيك بهما ! فقلت : علي و عثمان ، قال : كذلك ، فلما رآني أعد الصحابة قال : والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا ، ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.

وذكر الزندويستي وهو من كبار الحنفية في كتابه( روضة العلماء) مثل هذا القول.

وفي كتاب (أضواء على السنة المحمدية ) لمحمود أبو رية ص 205، نقل عن كتاب ( مختصر كتاب المؤمل لأبي شامة 31 و 32 )

روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال ): أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر – وفي رواية – أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر ( أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب ) فقيل له في ذلك فقال : أما أنس فاختلط في آخر عمره وكان يستفتى فيفتي من عقله ، وأنا لا أقلد عقله ، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ )

وروى الجصاص الحنفي رواية أبي هريرة( من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك) وذكر مخالفة عائشة وأم سلمه له، فقال معقبا: ( وهذا مما يوهن خبره ـ أي أبي هريرةـ ) ( أحكام القرآن ج1 ص 237)

ومما يؤكد هذا عن ابي حنيفة وأصحابه ما ذكره ابن حزم

قال ابن حزم في مسألة أحقية البائع بالمتاع إذا أفلس التي خالف فيها ‹ صفحة الحنفية ” روينا من طريق أبي عبيد أنه ناظر في هذه المسألة محمد بن الحسن ، فلم يجد عنده أكثر من أن قال : هذا حديث أبي هريرة . قال أبو محمد : نعم والله من حديث أبي هريرة البر الصادق ، لا من حديث مثل محمد بن الحسن الذي قيل لعبد الله بن المبارك : من أفقه ، أبو يوسف أو محمد بن الحسن ؟ فقال : قل أيهما أكذب ؟ ”

قال ابن حجر العسقلاني في ( فتح الباري كتاب البيوع ، ج4 ص 305): ( قال الحنابلة : واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى ، فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود وغيره …)

إن التوقف في حال أبي هريرة وبعض الصحابة مروي عن الصدر الشهيد وعيسى بن أبان وهما من كبار أئمة الحنفية. راجع( القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع ص 231) الأصبهاني.

وبالرغم من رواية هذا الأمر عن أبي حنيفة وصاحبيه، وكبار الفقهاء إلا أن بعض العلماء ـ كالسرخسي في المبسوط ج1 ص 339 ـ  حاولوا تلطيف هذا الرأي والدفاع عن أبي هريرة خلافا للأئمة الثلاث !

إن عدم الأخذ بأحاديث أبي هريرة وأنس بن مالك عند أبي حنيفة وصاحبيه، وغيرهم من الفقهاء يعني، الغاء قسم كبير من الروايات عندهم، فأبو هريرة روى 5374 حديثا ( أسماء الصحابة الرواة ، لابن حزم ص 37) وروى أنس 2286 حديثا ( أسماء الصحابة الرواة ص 39)

وقد تكون رواياتهم في عصر أبي حنيفة أكثر من هذا العدد، فالسنة لم تدون كلها، وضاع كثير من نصوصها، كما أثبتنا هذا. راجع للاستزادة كتابنا ( وركبت السفينة، فصل ضياع السنة). أضف لهذا قول الحنفية بحجية الحديث المرسل على إطلاقه، وكيف يستقيم هذا القول بعد أن ثبت رفض أبي حنيفة وصاحبيه وغيرهم أخذ الحديث عن أبي هريرة وأنس …؟ فلعل بعض مراسيل الصحابة أو مراسيل التابعين مأخوذة عن أبي هريرة وأنس !

 

القياس

وهو مما طال الكلام والبحث فيه بين المذاهب الإسلامية ما بين مثبت لحجيته وما ببن منكر له، وألفوا فيه الكتب المطولة.

معنى القياس

في اللغة: عبارة عن التقدير ، ومنه يقال : قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع ، أي قدرته بذلك.

(الاحكام في أصول الأحكام)الآمدي  ج 3  ص 183

اصطلاحا: الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل . (الاحكام ) الآمدي ج 3 ص 190

أو هو الحاق أمر لم يُنص على حكمه بآخر قد نُص عليه لعله جامعة بينهما ( الفقه الإسلامي ومدارسه) مصطفى الزرقا ص 28)

إن عملية الاستنباط من خلال القياس ( موقوفة على مقدمتين: أولاهما: معرفة العلة التي أناط بها الشارع حكمه في الأصل. وثانيهما: معرفة توفرها في الفرع بكل شرائطها وقيودها…) ( الأصول العامة للفقه المقارن، ص 310)السيد ، محمد تقي الحكيم.

 

مثال على القياس:

قال الشيخ مصطفى الزرقا في ( الفقه الإسلامي ومدارسه ص 29) 🙁 ورد النص القرآني بالنهي عن البيع وقت الأذان للصلاة يوم الجمعة، فقاس الفقهاء عليه حرمة التعاقد بعقود أخرى كالإجارة مثلا، لأن علة النهي أن البيع يلهي المتبايعين عن المبادرة والتهيؤ لصلاة الجمعة… وقد حكم معظم الفقهاء ببطلان البيع وسواه من العقود وقت أذان الجمعة)

يُلاحظ أن العلة التي ذكرها الشيخ الزرقا هي علة مستنبطة غير واردة في النص، وهي ظنية، فلا يستطيع أحد أن يجزم بأن هذه هي العلة التي قال الله لأجلها فذروا البيع). وما دامت العلة غير مذكورة في النص، فمن الخطورة بمكان أن نجعلها علة مشتركة مع فرع، ونعطي الفرع حكم الأصل، لأن حكم الفرع سيكون ظنيا، وهكذا سائر الأحكام المستنبطة من عملية القياس.

حجية القياس

لقد استدل مثبتو القياس من الحنفية وجمهور المسلمين بأدلة عديدة، نتوقف عند بعضها، لتتكون لدى الطالب فكرة حول هذه المسألة، على أن هناك كتبا مطولة ناقشت هذه المسألة. ( يمكن مراجعة: ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني. (ملخص ابطال القياس والرأي والاستحسان، لابن حزم، (الأصول العامة للفقه المقارن،( مبحث القياس)  للسيد محمد تقي الحكيم، و(مصادر التشريع فيما لا نص فيه) للأستاذ عبد الوهاب خلاف، حيث دافع عن القياس وكتابه هذا مقرر دراسي في بعض الجامعات.

استدل مثبتو القياس بعدة آيات من القرآن الكريم، أهمها:

الآية الأولى :قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) النساء، 59

قال عبد الوهاب خلاف في استدلاله بهذه الآية ( مصادر التشريع فيما لا نص فيه ص31): ( إن الله سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا واختلفوا في شيء ليس لله ولا رسوله ولا أولي الأمر منهم فيه حكم أن يردوه إلى الله وإلى الرسول… ورد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص والحكم عليه بحكم النص لتساوي الواقعتين في العلة التي بني عليها الحكم هو رد المتنازع فيه إلى الله ورسوله)

إن الشيخ يريد القول إننا مأمورون بالرجوع إلى القياس لأنه من قبيل رد المتنازع فيه إلى الله والرسول، وقد تم التنازع في القياس. ويُلاحظ أن استدلال الشيخ يلزم منه الدور، فقد رددنا القياس ـ بعد أن تنازعنا فيه ـ إلى الله ورسوله، فكيف تكون الآية دليل على حجيته؟! وأين محل الاستدلال في الآية على حجيته؟ فإن كانت الآية المذكورة هي الدليل، فهو الدور عينه، فالآية أجنبية عن موضوع حجية القياس، وإنما هي ناظرة إلى موضوعات التنازع والاختلاف بين المسلمين لكي يردوها إلى الله والرسول. إن القرآن يفسر بعضه بعضا بلا خلاف، فبدلا من لي عنقه ومحاولة استخراج مصدر تشريعي جديد، فقد أغنانا الله حين قال عز وجل في آية أخرى: ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم (النساء، 83 )

لقد جعل الله الرد إلى أولي الأمر مساويا للرد إلى الرسول، فالرد يكون للرسول ولأولي الأمر الذين عندهم ـ حسب وصف الله لهم ـ  قدرة على الاستنباط، فهم لا يترددون في حكم ولا يتوقفون فيه، ولا يشكل عليهم شيء، للأطلاق في الآية، ولأن الله وصفهم بأنهم يعلمون بالأمر عن طريق استنباطه، وهم أئمة العترة الذين ورثوا علم الكتاب كما دل على ذلك النصوص ، ومنها قوله تعالى:( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فاطر،32. وحديث الثقلين المتواتر( تركت فيكم… كتاب الله وعترتي)  يفسر لنا المقصودين بهؤلاء.

ولا يكون الرد إلى القياس الذي حجيته محل نزاع، ولو كانت الآية دالة على حجية القياس لقال الله ـ مثلا ـ : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقيسوا الفرع على الأصل بعد استنباط علته !

الآية الثانية: قوله تعالى:( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار )

قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف: ( وموضع الاستدلال قوله سبحانه( فاعتبروا)  ووجه الاستدلال أن الله سبحانه بعد أن قص ما كان من بني النضير الذين كفروا وما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا، قال فاعتبروا يا أولي الأبصار أي فقيسوا أنفسكم بهم لأنكم مثلهم إن فعلتم مثل فعله حاق بكم مثل ما حاق بهم …)

يُلاحظ على هذا الاستدلال، أن معنى( فاعتبروا) بعيد عن  القياس الفقهي الذي هو الحاق فرع بأصله لعلة تجمعهما، والآية تدعوا أصحاب الأبصار إلى الاتعاظ وأخذ العبرة مما جرى لبني قريظة، وليست ناظرة إلى مسألة تجويز استنباط حكم شرعي عن طريق القياس. وهل يستساغ هذا الفهم الذي ذهب اليه  الأستاذ خلاف، وهل يستقيم المعنى لو قلنا: (فاعتبروا يا أولي الأبصار أي فقيسوا أنفسكم بهم لأنكم مثلهم)؟ وقيسوا أيضا النبيذ على الخمر؟! أليس هذا التفسير اعتداء على بلاغة القرآن وحكمة الله في صياغته؟!

راجع ( الأصول العامة للفقه المقارن، مبحث القياس) السيد محمد تقي الحكيم.

لماذا لم تذكر الآية الكريمة القياس بشكل مباشر؟ ولماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وآله ببيانه وبيان كيفيته وأركانه، وهو مكلف بتبيين ما أنزل إليه، كما بين كيفية الصلاة وأحكام الصوم وغيرهما مما أجمله القرآن الكريم! هل قصر حاشاه في ذلك ؟ أم أراد توريط المسلمين ليدب الخلاف فيما بينهم وتختلف مصادر التشريع؟!

قال ابن حزم في كتابه( ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد ص 30 ) : (ومحال أن يقول لنا : ” فاعتبروا يا اولي الأبصار ” ويريد القياس ، ثم لا يبين لنا في القرآن ولا في الحديث : أي شيء نقيس ؟ ولا متى نقيس ؟ ولا على أي نقيس ؟ ولو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما امرنا بقياسه حيث امرنا ، وحرم علينا أن نقيس ما لا نص فيه جملة ، ولا نتعدى حدوده.)

الآية الثالثة:  قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف في( كتابه نفسه ص 32): (قال تعالى في سورة يس : (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة )جوابا لمن قال : ( قال من يحيي العظام وهي رميم ) ووجه الاستدلال بهذه الآية  إن الله سبحانه قد استدل بالقياس على ما أنكره منكرو البعث ، فإن الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدأ خلقها وانشائها أول مرة ، لأقناع الجاحدين بأن من قدر على بدأ خلق الشيء أول مرة قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه ، فهذا الاستدلال بالقياس إقرار لحجية القياس وصحة الاستدلال به ، وهو قياس في الحسيات ، ولكنه يدل على أن النظير ونظيره يتساويان)  .

إن هذا النوع من القياس في الآية هو القياس المنطقي، ولا علاقة له بالقياس الفقهي حتى يُستدل بالآية عليه. يقول السيد محمد تقي الحكيم في ( الأصول العامة للفقه المقارن ص 336)

( أ ـ إن هذه الآية لو كانت واردة لبيان الاقرار على حجية القياس ، لصح ان يعقب بمضمون هذا الاقرار ، ولسلم الكلام كأن نقول : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، فقيسوا النبيذ على الخمر ، والذرة على البر ، ولكم بعد ذلك أن تقدروا قيمة هذا النوع من الكلام – لو صدر – من وجهة بلاغية ، وهل يتسع هذا النوع من الكلام لمثله ، ولو سلم ذلك – جدلا – فالآية غاية ما تدل عليه ، هو مساواة النظير للنظير ، أي جعل الحجية لأصل القياس لا لمسالكه ، والدليل الذي يتكفل حجية الأصل لا يتكفل بيان ما يتحقق به كما سبق تقريبه، ولو سلمنا أيضا دلالته على حجية مسالكه ، فهي لا تدل عليها بقول مطلق إلا بضرب من القياس ، لأن الآية إنما وردت في قياس الأمور المحسوسة بعضها على بعض ، فتعميمها إلى الأمور الشرعية موقوف على السبر والتقسيم أو غيره فيلزم الدور)

هذه أهم الآيات التي احتج بها مثبتو القياس، وهناك غيرها من الآيات والأحاديث التي لا تدل على ما ذهبوا إليه وليس هذا هو محل بحثها، وقد استوعب معظمها السيد محمد تقي الحكيم في (الأصول العامة للفقه المقارن) بأسلوب علمي رصين.

إن الذي دعا العلماء إلى ايجاد القياس و التشبث به هو حاجتهم لمصدر تشريعي  بعد اقصاء العترة النبوية عن مكانها، خاصة أن النصوص ـ على حد قولهم ـ غير كافية لكل الحوادث.

يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه( مصادر التشريع فيما لا نص فيه ص 8): ” مما لا يعرف فيه خلاف بين جمهور المسلمين ، أن الله سبحانه لم يترك الناس سدى ، وأن له حكما في كل ما يحدث للمسلم من الوقائع ، غير أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعة “.

(لا ندري كيف اتفقت كلمة جمهور المسلمين على عدم ترك الله عباده سدى ، مع ما هو موجود عندهم من ترك الله لكتابه مفرقا ، ونهيه عن تدوين السنة على لسان نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعدم وضعه مرجعية تزود الناس بحاجاتهم المستجدة ؟ ! والعجيب قوله : ” أنه سبحانه لحكمة بالغة لم ينص على كل أحكامه في مواد قانونية جامعة ” !  فهل الحكمة في أن ينص الله على كل أحكامه ، ليطمئن المسلم إلى حكم الله ، وتستقيم تربيته التشريعية ؟ أم الحكمة في ترك أحكامه للاجتهاد المبني على الظن ، الذي يؤدي إلى تعدد الآراء والمذاهب والقتال والتكفير فيما بين اتباعها ؟ !) راجع كتابنا : (النبي ومستقبل الدعوة)  ص 44 – 45

إن القياس هو جهد عقلي لمحاولة استنباط العلة غير منصوصة، والأحكام الشرعية ، لا تدرك مراميها عقولُ البشر، وكيف يكون هذا وهي صادرة عن الله عز وجل؟ وفي حوار الأمام الصادق(ع) مع أبي حنيفة تتضح هذه المسألة، يروى أن الأمام الصادق احتج على أبي حنيفة لأبطال القياس فقال له:

(أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟ قال: بل القتل. قال: فكيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم قال له :الصلاة أفضل أم الصوم؟ قال: بل الصلاة أفضل، قال (عليه السلام): فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة. ثم قال له: البول أقذر أم المني؟ قال: البول أقذر قال (عليه السلام): يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله الغسل من المني دون البول…

قال (عليه السلام): تزعم أنك تفتي بكتاب الله، ولست ممن ورثه. وتزعم أنك صاحب قياس، وأول من قاس إبليس، ولم يبن دين الإسلام على القياس… )

( وركبت السفينة ،54) نقلا عن الاحتجاج ج2 ص 267ـ270، حلية الأولياء، لأبي نعيم، ج3 ص 197، إعلام الموقعين ج1 ص 255ـ256

وفي (دعائم الإسلام) للقاضي أبي حنيفة المغربي المالكي قال (عليه السلام): ” فاتق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنا نقف غدا، نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء ).

راجع (تاريخ التشريع، الدكتور ،الفضلي: ص 115). و(الإحكام في اصول الأحكام، ابن حزم: 6 / 71)

 

القياس عند الأمامية

لقد أنكر الأمامية القياس المبني على العلة المستنبطة،  وأجازوا العمل بقياس منصوص العلة على أن البعض يُناقش في تسميته هذه، يقول الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه ج 3 – ص 202 – 204)

🙁 منصوص العلة وقياس الأولوية ذهب بعض علمائنا – كالعلامة الحلي – إلى أنه يستثنى من القياس الباطل ما كان ” منصوص العلة ” و ” قياس الأولوية ” فإن القياس فيهما حجة . وبعض قال : لا إن الدليل الدال على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين ، وليس هناك ما يوجب استثناءهما . والصحيح أن يقال : إن ” منصوص العلة ” و ” قياس الأولوية ” هما حجة ، ولكن لا استثناءا من القياس ، لأنهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس ، بل هما من نوع الظواهر ، فحجيتهما من باب حجية الظهور… مثال ذلك : قوله ( عليه السلام ) في صحيحة ابن بزيع : ” ماء البئر واسع لا يفسده شيء . . . لأن له مادة ” فإن المفهوم منه – أي الظاهر منه – أن كل ماء له مادة واسع لا يفسده شيء ، وأما ماء البئر فإنما هو أحد مصاديق الموضوع العام للقاعدة ، فيشمل الموضوع بعمومه كلا : من ماء البئر ، وماء الحمام ، وماء العيون ، وماء حنفية الإسالة . . . وغيرها ، فالأخذ بهذا الحكم وتطبيقه على هذه الأمور غير ماء البئر ليس أخذا بالقياس ، بل هو أخذ بظهور العموم ، والظهور حجة) .

من خلال ما سبق يمكن للباحث التوصل إلى خطورة  استنباط حكم شرعي لفرع اعتمادا على قياس لم تُذكر في الأصل علة تشريعه ، وإنما توصل الفقيه إلى العلة بعقله البشري القاصر، واحتمالية وجود علة أخرى في الأصل أمر وارد، ولكن غابت عن عقل الفقيه، لا شك أن الأمامية وقفوا موقفا محكما ولم يذهبوا بعيدا بالقياس وتطبيقاته، فاشترطوا أن تكون العلة منصوصة، لأن الخالق الذي شرع حكما ما وذكر علة تشريعه بشكل قطعي، قد وضع بين أيدينا العلة، ومن خلالها يمكن القياس عليها ـ إذا صح لنا أن نسميه قياسا ـ وهذا لا يقوم به إلا الفقيه المتمكن.

تقليد المسلمين للمذهب الحنفي

ذكرنا أن المذهب الحنفي ينتشر اليوم في بلاد كثيرة ويتعبد به الناس، ولكن من حق المسلم أن يسأل: هل أمرنا الله باتباع هذا المذهب؟ هل أمرنا نبيه باتباعه؟ وهل أراد أبو حنيفة نفسه أن يقلده الناس من بعده؟  لو أراد أبو حنيفة أن يكون له مذهبا فقهيا يقلده الناس لكان ينبغي له أن يضع كتابا فقهيا يبين فيها آراءه، ولكنه لم يفعل إلا ما يذكر أنه كتب الفقه الأكبر، وهذا الكتاب في العقيدة. وإذا كانت الأحكام لا تصح إلا باجتهادات أبي حنيفة، فما هو مصير المسلمين قبل انتشار فتاواه؟ الحق أن لأبي حنيفة أقوالا تجعل المسلم  الذي يفكر بتقليد مذهبه يتراجع  عن تقليده!

أقوال أبي حنيفة:

هذه أقوال يُستفاد منها نهي أبي حنيفة عن التقليد ونهيه عن الاعتماد على أرائه. منها:

1ـ  (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين أخذناه)

(الأتباع، ابن أبي العز الحنفي: ص 79. مجموعة الرسائل المنيرية، الصنعاني 1 / 28. إرشاد النقاد: ص 145. تحفة الأنام: ص 46، حجة الله البالغة، الشاه دهلوي 1 / 158 )

قال الشوكاني في ( القول المفيد في كشف حقيقة الاجتهاد والتقليد ص 49) معلقا 🙁 وهذا هو تصريح بمنع التقليد، لأن من علم بالدليل فهو مجتهد مطالب بالحجة، لا مقلد فإنه الذي يقبل القول ولا يطالب بحجة ”

وورد في رواية قوله:(لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) (حجة الله البالغة، ولي الله دهلوي، نقلا عن اليواقيت والجواهر 1 / 157)

وزاد في رواية ( فإننا بشر نقول القول ونرجع عنه غدا)  الإنصاف، ولي الله دهلوي: ص 104)

2 – (إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول فاتركوا قولي ) (الإيقاظ: ص 50)

3 –( قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا )

(الأتباع: ص 78. ملخص إبطال القياس والرأي، ابن حزم: ص 66. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي 3 / 42.)

4 – قيل لأبي حنيفة: (يا أبا حنيفة هذا الذي تفتي فيه هو الحق الذي لا شك فيه؟

فقال: (لا أدري، لعله الباطل الذي لا شك فيه… )!!

وقال زفر: (كنا نختلف إلى أبي حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن فكنا نكتب عنه، فقال يوما لأبي يوسف: ويحك يعقوب! لا تكتب كل ما تسمعه مني، فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غدا، وأرى الرأي غدا فأتركه بعد غد… )!! (أبو حنيفة، أبي زهرة نقلا عن تاريخ بغداد 3 / 42)

5 – ( إذا صح الحديث فهو مذهبي )

(حاشية ابن عابدين 1 / 63، رسالة رسم المفتي 1 / 4 من مجموع رسائل ابن عابدين)

والحمدلله رب العالمين

مروان خليفات